هل سيُضحي الغرب من أجل أوكرانيا؟

تقديم د. أمير حمد /

نشرت مجلة «ذي أتلانتك» الأمريكية مقالًا للكاتب الصحافي توم ماك تاجو، أكد فيه أن الغرب سيكتفي بفرض العقوبات ضد روسيا بعد إقدامها على شن هجمات ضد أوكرانيا، مشيرًا إلى الآثار والتداعيات الخطيرة الناجمة عن تلك العقوبات سواءً على روسيا أو على الغرب.

الغرب أمام اختبار صعب

استهل الكاتب مقاله بالإشارة إلى أن الأزمة في أوكرانيا تظل من وجهة نظر عديد من الأمريكيين، الذين يحيون حياة رغدة في الغرب، حربًا غريبة يصعب فهم نطاقها، ومنذ البداية، أعلن القادة الأمريكيون بوضوح أنه لن يقاتل جندي غربي واحد للدفاع عن الاستقلال الأوكراني، ومن ثمَّ يمكن بدرجة كبيرة القول إن فلاديمير بوتين قد غزا أراضٍ تنازل عنها الغرب بالفعل؛ أضاف الكاتب: «يتمثل الخطر بوضوح في إيهام أنفسنا أننا أفضل بمناشدة حكوماتنا بالقتال حتى آخر نفس وحتى سقوط آخر قتيل أوكراني، وتسليح العاصمة الأوكرانية كييف تسليحًا كافيًا يضمن إطالة أمد الصراع، ولكنه لا يكفي للتأثير في تداعيات الصراع تأثيرًا جوهريًّا».

ويوضح الكاتب أنه بالنظر إلى رفض القتال من أجل أوكرانيا، أو تزويدها بأي شيء يفوق الأسلحة «الدفاعية» لإلحاق الضرر بخصمها وتكبيده الخسائر، فإن السلاح الوحيد المهم المتبقي هو السلاح الاقتصادي؛ إذ يهدد القادة الغربيون روسيا بأنها ستدفع ثمنًا لا يمكنها تحمله بإقدامها على غزو أوكرانيا واحتلالها؛ ومع ذلك، فإنهم سيتورطون في حربٍ اقتصادية مع عدو لديه ترسانة خاصة به.

ولذلك، يتمثل الاختبار الذي يواجه العالم الغربي في إثبات أن واقعه لم يُصبح على النحو الذي طالما اعتقده بوتين: سطحي وعاجز تمامًا وفاسد ومتخاذل، وأنه لم يعد قادرًا على ممارسة ذلك النوع من القوة والتصميم المطلوبَيْن لهزيمة الخصم الذي لديه إصرار وعزيمة.

ما هو الوقت الذي تُستخدَم فيه العقوبات؟

يؤكد الكاتب أن العقوبات، من وجهة نظر الغرب، هي السلاح المستخدم عند مواجهة خصم لا يستطيع الغرب فرض إرادته عليه من خلال الدبلوماسية، أو في الوقت الذي لا يكون فيه الغرب لديه الاستعداد أو القدرة على استخدام القوة ضد هذا الخصم. وصحيحٌ أن العقوبات تعد سلاحًا حادًّا، لكنه في أغلب الأحيان يُلحق الضرر بالمواطنين العاديين عوضًا عن قادة الأنظمة المستهدف عقابهم، وبمجرد أن تطبق هذه العقوبات، يصبح من الصعب إزالتها، لأنها تتطلب من أحد الطرفين فقدان كرامته وخسارة ماء وجهه.

بل وربما تجد بعض الدول أيضًا طرقًا للتعايش مع هذه العقوبات، وقد تُستخدم بوصفها وسيلةً من الوسائل الخطابية البلاغية (عقوبات غير عادلة يفرضها الغرب الغادر) لإحكام سيطرة الحاكم على السلطة، ويكمن جزء من مشكلة العقوبات أيضًا في أن تطبيقها في دول مثل إيران، التي تخضع لمجموعة من العقوبات بسبب برنامجها النووي، يتلاشى تأثيرها في حياة الناس يومًا بعد يوم تقريبًا في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، وهكذا يستطيع هؤلاء المواطنون نسيانها وهو ما يحدث بالفعل.

غير أن روسيا ليست إيران… إن استخدام العقوبات سلاحًا اقتصاديًّا ضد بوتين سيكلف الغرب تكاليف حقيقية، مما يطرح سؤالًا مثيرًا للقلق مفاده: هل لدى الحكومات الإرادة لفرض العقوبات بأي طريقة مجدية لتبدأ بها، أم هل لديها القدرة على تحمل تداعياتها على المدى الطويل؛ فعلى سبيل المثال، سيؤدي قرار ألمانيا بتعليق خط أنابيب «نورد ستريم 2» مع روسيا بصورة مباشرة إلى زيادة أسعار الطاقة على مواطنيها، ناهيك عن أن إثارة الاضطرابات بوجه عام سيؤدي إلى دفع الأوروبيبن تحديدًا فواتير التدفئة المتزايدة في الوقت الذي تكون فيه أسعار الغاز بالفعل مرتفعة ارتفاعًا حادًّا.

الإرادة السياسية هي الأهم

يلفت الكاتب إلى أن الغرب يعاني من نقطة ضعف منهجية في حرب العقوبات، وقد لخَّص أحد المسؤولين الأوروبيين، الذي شارك في فرض عقوبات سابقة ضد روسيا، حجم الصعوبات التي يواجهها الغرب فيما يلي:

أولًا: بحسب هذا المسؤول، تبدو بعض دول الغرب مثل بريطانيا، «مقيدة بصورة لافتة للنظر» في تصرفاتها وفيما يمكن أن تفعله، وقد تحاول لندن مصادرة الأصول التي تدَّخرها النخبة الحاكمة الروسية ورجال الأعمال الروس (الأوليجارشيين الروس) في بريطانيا، لكن الدولة الروسية قادرة على استخدام قوة النظام القضائي في لندن لتعقيد هذه العملية، والنتيجة هي أنه، نظرًا لكونه اقتصادًا مفتوح يتمتع بقوة سيادة القانون، «ينتهي بك المطاف إلى أن تكون بلادك أنت المكان المناسب بصورة مثالية لإخفاء الأموال المكتسبة من خلال طرق ملتوية».

يد أن هناك ما هو أهم من ذلك وهي مسألة الإرادة السياسية، وفي جميع أنحاء دول الغرب، لا تدور نقاشات الشعوب بشأن التأثير الذي قد تحققه أي عقوبات في روسيا فحسب، بل يناقشون أيضًا الطريقة التي تضمن ألا يُترك الغرب مكشوفًا، وبصورة حتمية، ستكون النتيجة عبارة عن مزيج من التدابير التي لا تؤثر بدرجة كافية، فعلى سبيل المثال، طمأنت إدارة بايدن الشعب الأمريكي بالفعل أن العقوبات ضد روسيا لن تؤدي إلى قفزة في أسعار الطاقة، وينقل الكاتب عن مسؤول أوروبي أخبره أنه نادرًا ما تكون الحكومات الغربية منفتحة مع الناخبين بشأن تكاليف استغلال أزمةٍ ما للحد من العلاقات المعقدة الفاسدة مع أنظمة حاكمة فاسدة جشِعة، ولولا ذلك لتضاعفت هذه الأزمة.

كيف يتصدى مواطنو الدول الغربية لتداعيات الأزمة؟

يُنوِّه الكاتب إلى أنه على الرغم من مشكلة أن الغرب أغنى من روسيا، فإنه يظل هشًّا، وتعتمد معظم أوروبا على النفط والغاز الروسي، وكان الرئيس الروسي السابق ديميتري ميدفيديف، على سبيل المثال، قد حذر من أن قرار برلين بتعليق خط أنابيب «نورد ستريم 2» الذي يربط بين روسيا وألمانيا سيؤدي إلى تفاقم أسعار الغاز في أوروبا؛ وفي بريطانيا، تشهد الأسعار بالفعل زيادة سريعة بسبب قيود سلسلة الإمدادات واضطرابات سوق الطاقة العالمية، لذلك، فإن مزيدًا من الارتفاع في الأسعار سيكون مؤذيًا من الناحية السياسية.

وبخلاف النفط والغاز، اقترح المحللون أن روسيا يُمكنها تقليص حجم تصدير المواد الخام مثل الحبوب والأسمدة والتيتانيوم والبلاديوم والألومنيوم والنيكل، كما يمكنها حظر حقوق التحليق في الأجواء لشركات الطيران الغربية التي تسافر إلى قارة آسيا، ويُرجَّح أيضًا أن يرد الغرب على كل خطوة تتخذها روسيا، مما قد يخلق دوامة من التصرفات الانتقامية.

وأبرز الكاتب أنه في الوقت الذي سيتعرض فيه اقتصاد روسيا لخسائر كبيرة بعد أي رد منها، فإن النقطة الحاسمة هنا هي أن العقوبات ستلحق أضرارًا بالغرب أيضًا، مما يؤدي إلى زيادات محتملة في التضخم والضغط على سلاسل الإمدادات التي تعرضت بالفعل لضغوط كبيرة خلال جائحة كوفيد-19؛ فكيف سيتصرف مواطنو المجتمعات الحرة والديمقراطية حيال ذلك؟

اختبار المواطن الغربي

يشير الكاتب إلى أنه على عكس روسيا بوتين، حيث تُسمَّم شخصيات المعارضة أو تُسجَن، وحيث الفكرة الشائعة عن الديمقراطية أنها خدعة، تجري في الدول الغربية انتخابات حقيقية ومنتظمة يعاقب فيها الناخبون الحكومات التي تنتقص من معايير حياتهم الكريمة، وتُجري فرنسا انتخابات رئاسية هذا العام بوجود مرشحين موالين لروسيا من اليمين المتطرف، ومع أنه من غير المرجح أن ينتصروا، ولكنهم قد يسببون اضطرابات؛ وفي الولايات المتحدة، تقدم انتخابات التجديد النصفي فرصة أولى، وبلا تكلفة تقريبًا لمعاقبة إدارة بايدن والحزب الديمقراطي قبل الانتخابات الكبرى في 2024.

ولأول مرة منذ عقود، يواجه مواطنو الغرب احتمال وجود تهديد للنظام الجيوسياسي، الذي قد يتطلب تضحية مادية من جانبهم هم، وليس من أي طرف آخر، ولكن هل لدى عامة الناس الإرادة أو الوحدة أو الإيمان بهذا النظام لتقديم تضحية كهذه؟ أم أنهم فعلًا شخصيات كاريكاتورية سطحية أنانية كالتي صوَّرها بوتين، ولا يمكنهم تحمل انخفاض ولو بسيط في ثروة البلاد أو مستوى المعيشة، ناهيك عن تحمل تبعات أي نوع من الضغط على روسيا؛ الذي من الممكن أن يعمل رادعًا لها ضد مزيد من العدوان؟ فالاستجابة الفورية للغزو ليست بالضرورة مشجعة كما توحي العناوين الرئيسة الأوليةٍ إذ علَّقت ألمانيا المصادقة على خط أنابيب الغاز الجديد مع روسيا فقط؛ بينما وضع بوريس جونسون في بريطانيا سلسلة من الإجراءات التي رُفضت على الفور لأنها «فاترة».

أسئلة لم تُطرح

يرى الكاتب أن مسألة إرادتنا الجماعية تحفر في قضايا أعمق: إذ هل يتمتع المواطنون في الغرب بالتماسك الاجتماعي والسياسي الضروري للالتفاف حول مهمة كهذه، أو في الواقع، أي مهمة كانت؟ وإذا كان الجواب نعم، فهل سيؤمن الناس بهذه المهمة بما يكفي لحماية النظام الدولي والحفاظ عليه كما هو قائم اليوم؟

نحن لا نعرف حقًّا الإجابة عن هذه الأسئلة، لأننا لم نضطر للتعامل معها بجدية منذ نهاية الحرب الباردة، ويمكنك أن تجادل بأن أحداث 11 سبتمبر (أيلول) كانت مجرد لحظة للنظر في هذه القضية، وهي التي قوبلت في بدايتها بوحدة غربية ساحقة؛ ومع ذلك، فإن الحربين اللتين اندلعتا في أعقاب ذلك الحدث الزلزالي، في العراق وأفغانستان، كانتا كارثيتين، ثم اختُبر عزم الغرب على فرض قواعد الحرب في سوريا، ولكنه رفض التدخل، وفي الأيام التي تلَت ذلك، انتُخب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة على أرضية واضحة مضادة للنظام الدولي، وهو يمتدح الرئيس الروسي الآن ويصفه بـ«الذكي».

على عكس ما هو عليه الحال في روسيا، يرى الكاتب أن المجتمعات الغربية، لمواطنيها الحق في التساؤل عما إذا كانوا يهتمون لأمر دونباس أم لا؛ إذ يمكنهم التصويت للحكومات التي ترجح السلام وخفض التصعيد، والإعادة السريعة لضبط العلاقات مع موسكو، بل ربما عقد صفقة جديدة تعمل على استقرار الوضع، الأمر الذي يسمح باستمرار مبادلة غازها بأموالهم.

يضيف الكاتب: «ولا يتعين علينا حتى أن نكون على الصورة الكاريكاتورية التي وصفنا بوتين بها، لإجراء مثل هذه الحسابات، ويمكننا بزيارة لجداتنا المسنات أو جيراننا المُعسِرين أن نستنتج من حديثنا معهم أننا لا نستطيع تحمل المزيد من الارتفاعات في أسعار الطاقة، ويمكننا أن نستنتج أيضًا أننا لم نعد أغنياء كما كنا، وأننا بحاجة إلى تقبل العالم كما هو، وأن نفصل التجارة عن المسائل الأخلاقية، وقد فعلنا ذلك لسنوات في نهاية المطاف، وربما نصل إلى استنتاج آخر، كما فعل جو بايدن مع أفغانستان، وهو أن الصراع لا يستحق العناء، وقد نكون أشخاصًا صالحين ونجري هذه الحسابات مع أنفسنا».

عالم الأمس وعالم اليوم

يوضح الكاتب أن هناك أسبابًا كثيرة للاعتقاد أن المجتمعات الديمقراطية مستعدة لدفع تكاليف التضحية الجماعية، والأسطورة التأسيسية لعالمنا، هي الكفاح من أجل البقاء الذي كان في الحرب العالمية الثانية (بمساعدة الطغيان السوفيتي)، وفي الحرب الباردة، أثبت «العالم الحر» أنه أقوى من العالم الذي كان بوتين جزءًا منه.

ومع ذلك، لا ينبغي لأحد أن يخلط بين هذه اللحظة وبين الحرب العالمية الثانية أو الحرب الباردة؛ فاليوم، نحن نعيش في العالم الاقتصادي نفسه الذي تعيش فيه روسيا، وليس في عالم معارض، وتشترك الحركات المحافظة في جميع أنحاء العالم الغربي في بعض عناصر نظرة بوتين للعالم، متعاطفة مع رؤيته للدول القومية الدولية المُهددة من قِبل التعددية الثقافية الليبرالية المنبثقة من الواقع.

وبالنسبة لكثيرين، من بينهم تاكر كارلسون ومارين لوبان وفيكتور أوربان، يُعد بوتين ملاذًا ضد كل ما يزدرونه، بما فيها التعددية القومية للاتحاد الأوروبي والهيمنة الأمريكية التي تتطلب الدفاع عن سيادة الدول الأخرى، ويجب ألا ننسى أنه في الولايات المتحدة، المركز الإمبراطوري للعالم الغربي، عُزل الرئيس السابق لمحاولته ابتزاز أوكرانيا من أجل غاياته السياسية.

أضاف الكاتب: «وإذا كانت الأيام القليلة الماضية تحمل أي شيء يُهتدى به، فيجب على بوتين أن ينظر حوله ويرى القوة والضعف في العالم من جانب، وقوته هو والضعف المثير للشفقة للمتملِّقين الذين يأتمرون بأمره؛ هل هو حقًّا خائف من قوتنا، كما نحب أن نطمئن أنفسنا في كثير من الأحيان؟ أم أنه يتطلع إلى الغرب ويرى ضعف الشخصية الإنسانية الذي يظهره جميع مَنْ يتجسسون لصالحه، والتي قد تتضاعف وتؤثر في ديمقراطيتنا؟ إنه يرانا نتحارب فيما بيننا للحصول على مكتسبات محلية تافهة، ونأخذ منه الغاز والدعاية، وتَفسد أنفسنا في خضم هذه العملية».

ويختم الكاتب بالقول: إن السؤال الأهم بين كل هذه الأسئلة هو: هل بوتين على حق في رؤيته لنا على هذا النحو؟ لقد بدأ التحدي، وجزء كبير من القرن الواحد والعشرين سيعتمد على الإجابة التي نقدمها الآن وفي المستقبل.

.