لماذا لم تندلع حرب أوكرانيا عام 2014 رغم ضم روسيا لمنطقة القرم؟

تقديم د. أمير حمد/

عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، لم تتدخل أمريكا وأوروبا واكتفوا بفرض عقوبات، كما لم يسعَ الناتو لضم أوكرانيا، فمن “الشخصية” التي جنّبت العالم تلك الحرب وقتها؟ وكيف أدى غيابها إلى اندلاع الحرب هذه المرة؟

فالعالم الآن يعيش على أطراف أصابعه حرفياً، في ظل وصول الحرب، التي اندلعت 24 فبراير/شباط الماضي، إلى مرحلة تهدد بتخطيها حدود أوكرانيا وتحولها إلى حرب عالمية ثالثة، أو كما وصفها الرئيس الأمريكي جو بايدن “حرب نهاية العالم”، رغم محاولته التخفيف من الفزع بقوله لاحقاً إن “الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عاقل”.

لكن الرئيس الأمريكي لم يوضح كيف يمكن تفادي هذا الخيار النووي المدمّر، في ظل استمرار إرسال الدعم العسكري إلى أوكرانيا، التي تحقق انتصارات ميدانية مهمة منذ مطلع سبتمبر/أيلول، بفضل ذلك الدعم الغربي، وفي الوقت نفسه إقرار بايدن وباقي الزعماء الغربيين بأن بوتين لن يقبل الهزيمة بأي صورة من الصور.

لماذا لم يتدخل الناتو في أوكرانيا عام 2014؟

بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، حصلت أوكرانيا على استقلالها عام 1991، بعد إجراء استفتاء لمواطنيها للاختيار بين البقاء ضمن الاتحاد الروسي (روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا) أو الاستقلال كأمة أوكرانية، وصوّت 90% من السكان لصالح الاستقلال.

وفي عام 2004، اندلعت ثورة البرتقال في أوكرانيا، وأطاحت بالرئيس يانكوفيتش لصالح يوشتشنكو (الأول أقرب لروسيا والثاني أقرب إلى الغرب). وبدأت مرحلة جديدة من التقارب في العلاقات بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

لكن انتخابات 2010 أعادت يانكوفيتش إلى رئاسة أوكرانيا، وبدأ يتخذ إجراءات لوقف التعاون مع الاتحاد الأوروبي، في ظل وجود انقسام واضح داخل أوكرانيا بشأن مستقبل البلاد بين فريقين، الأول يميل إلى الغرب ويريد الانضمام لحلف الناتو وقاعدته الرئيسية في الأقاليم الغربية من البلاد، والثاني يريد التقارب مع روسيا والانضمام لها رسمياً، وقاعدته في الأقاليم الشرقية التي يتحدث أغلب سكانها اللغة الروسية كلغة أولى.

ومطلع عام 2014 اندلعت ثورة ضد الرئيس يانكوفيتش، على غرار ثورة البرتقال، التي كانت أيضاً داعمة للتقارب مع الغرب، لكن الرئيس وقوات الأمن الأوكرانية استخدموا العنف- عكس ما حدث في ثورة البرتقال- فسقط نحو 100 قتيل برصاص قناصة تابعين للأمن الأوكراني، وفي النهاية هرب يانكوفيتش من العاصمة كييف واتجه نحو الشرق.

وتولى زعماء المعارضة الحكم خلفاً ليانكوفيتش، وأصدروا أوامر باعتقاله ومحاكمته بتهمة قتل المتظاهرين، لكن موسكو اعتبرت السلطة الجديدة في كييف “تمرداً مسلحاً” واستدعت سفيرها للتشاور. في المقابل، وجدت السلطة الجديدة في كييف دعماً متواصلاً من أوروبا الغربية والولايات المتحدة.

وأعلنت الأقاليم الشرقية في أوكرانيا عدم اعترافها بالحكومة المركزية في كييف، ومن تلك الأقاليم شبه جزيرة القرم ودونباس وغيرهما. واشتد القتال في تلك الأقاليم بين القوات الحكومية الأوكرانية من جهة، والقوات الانفصالية من جهة أخرى. وأعلنت حكومة إقليم القرم الانفصال عن أوكرانيا وإعلان جمهورية القرم المستقلة.

ووجّه حاكم القرم رسالة رسمية إلى روسيا طالباً الانضمام إلى موسكو، ودخلت القوات الروسية إلى الإقليم وأعلنت ضمه رسمياً إليها في 2014، مما أدى إلى فرض عقوبات على موسكو من جانب الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، لكن ذلك لم يوقف الدعم الروسي للانفصاليين في الأقاليم الشرقية الأخرى.

من الطبيعي إذاً أن يطرأ السؤال البديهي: لماذا لم تتدخّل الولايات المتحدة وحلفاؤها، في ذلك الوقت، كما فعلوا هذه المرة؟ والحقيقة هي أنهم تدخلوا بالفعل، ولكن بطريقة مختلفة تماماً كانت للدبلوماسية فيها الكلمة العليا، وهو ما أدى إلى تفادي اندلاع الحرب، عكس ما حدث هذه المرة.

ويرى كثير من المحللين والمراقبين، وحتى المسؤولين الغربيين، أن كلمة السر في تفادي الحرب وقتها هي المستشارة الألمانية السابقة، أنغيلا ميركل، التي قادت الجهود الدبلوماسية، مما أدى إلى توقيع اتفاقيات مينسك وتجميد الصراع ونزع فتيل برميل البارود.

هل كان يمكن تفادي الحرب في أوكرانيا؟

كان هذا السؤال يتردد قبل أن تندلع الحرب فعلياً، وكلما زادت معاناة العالم أجمع جراء التداعيات الكارثية لتلك الحرب أصبح السؤال أكثر إلحاحاً. ويرى رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، أن المستشارة الألمانية السابقة ميركل كان بمقدورها أن تمنع اندلاع الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه “عملية عسكرية خاصة”، بينما يصفه الغرب بأنه “غزو”، لو كانت لا تزال بمنصبها.

وفي لقائه مع الصحافة الألمانية الشهر الماضي، قال أوربان إن ميركل حالت بالفعل دون اندلاع حرب عام 2014 من خلال جهودها الدبلوماسية بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم.

“ما فعلته أنغيلا ميركل خلال أزمة القرم كان تحفة فنية”، بحسب أوربان، الذي أشار إلى أن الأمر في ذلك الحين لم يصل إلى حرب، لأن الجهود الدبلوماسية الألمانية عزلت الصراع، مضيفاً: “هذه الجهود لم تسمح بتفاقم الأمر وتوريطنا جميعاً فيه”، بحسب تقرير لموقع DW الألماني. وعندما سأله الصحفيون عما إذا كان ينبغي فهم رأيه بأنه لو كانت ميركل مستشارة ما كانت اندلعت حرب ضد أوكرانيا، أجاب أوربان: “بالتأكيد”.

حديث أوربان، وغيره في حقيقة الأمر، يُذكر بالدور الكبير الذي لعبته ميركل في تجنيب أوروبا والعالم ويلات الحرب التي يكتوي بنارها الجميع حالياً. ففي سبتمبر/أيلول 2014، تم توقيع اتفاقية مينسك الأولى بشأن النزاع في أوكرانيا بين طرفي النزاع، وهما الحكومة الأوكرانية والانفصاليون في الأقاليم الشرقية المتاخمة للحدود الروسية والمدعومون من موسكو.

ومينسك هي عاصمة جمهورية روسيا البيضاء، واستضافت المفاوضات بين طرفي النزاع إضافة إلى روسيا ومنظمة الأمن والتعاون التابعة للاتحاد الأوروبي، واتفق الأطراف على وقف القتال وعقد هدنة وإبرام السلام.

وبالفعل تم التوقيع على اتفاقية “مينسك1″، التي اشتملت على 12 بنداً أبرزها تبادل الأسرى (بين القوات النظامية الأوكرانية والقوات الانفصالية) والسماح بوصول المساعدات الإنسانية للمدنيين في مناطق الصراع، وسحب القوات الانفصالية أسلحتها الثقيلة من خطوط المواجهة مع القوات الحكومية، مع استمرار المفاوضات للوصول إلى حل سلمي للصراع.

لكن هذه الاتفاقية لم تصمد سوى 5 أشهر فقط، في ظل اختراقات مستمرة لجانبي الصراع لبنودها، وبالتالي سرعان ما اندلعت الصراعات مرة أخرى، وهو ما تسبب في مقتل أكثر من 2600 شخص وقتها.

لكن ما إن بدأت الأمور في التدهور، تدخلت ميركل بشكل مباشر، ومعها الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، وأجريت مفاوضات مباشرة مع بوتين أدت في النهاية إلى اتفاقية شاملة تخاطب جذور الأزمة الأوكرانية وتأخذ في الاعتبار المخاوف الروسية من سعي كييف الانضمام إلى حلف الناتو.

وهكذا تم توقيع اتفاقية مينسك2، في عاصمة روسيا البيضاء وبحضور ذات الأطراف التي وقعت على اتفاقية مينسك1، إضافة إلى ميركل وهولاند، واشتملت الاتفاقية الجديدة على 13 بنداً، اعتبرت مجتمعة بمثابة خريطة طريق لحل النزاع الأوكراني بصورة شاملة. البند الأول فيها هو وقف فوري لإطلاق النار من الجانبين، وتبادل الأسرى بين الانفصاليين والقوات الحكومية، وأن تشرف منظمة الأمن والتعاون في الاتحاد الأوروبي على تسليم الانفصاليين أسلحتهم من الخطوط الأمامية.

ومن بنودها أيضاً أن تصدر الحكومة الأوكرانية عفواً شاملاً عن العسكريين (الذين انضموا للانفصاليين) وعن المقاتلين الانفصاليين جميعاً، والتمهيد لإجراء انتخابات عامة في البلاد. كما تضمنت الاتفاقية بنداً خاصاً بضمان تسليم المساعدات الانسانية بشكل آمن، والعمل على إعادة الاندماج الوطني والاجتماعي والاقتصادي بين جميع الفئات في أوكرانيا، وبصفة خاصة في الأقاليم الشرقية التي سيطر عليها الانفصاليون.

وتعهدت أوكرانيا، بموجب بنود اتفاقية مينسك2، بتنفيذ تغييرات دستورية تنص على “اللامركزية” في البلاد وتطبيق النظام الفيدرالي، وفي المقابل يتم انسحاب جميع “التشكيلات المسلحة الأجنبية”، واستعادة النظام الأوكراني السيطرة على الحدود الشرقية، في إشارة إلى الدعم الروسي للانفصاليين.

وفي فبراير/شباط 2015، وقع قادة فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا على الاتفاقية، التي تم عرضها على مجلس الأمن الدولي وأقرها وأصدر قراراً بحل الصراع في أوكرانيا على هذا الأساس.

وتدخلت أمريكا في أوكرانيا.. ثم جاء بايدن!

على مدى السنوات التي سبقت اندلاع الحرب، لم يشعر العالم بالتهديد أو القلق من الأزمة الأوكرانية، رغم المناوشات شبه اليومية بين الانفصاليين والقوات الحكومية على خط التماس في إقليم دونباس، واستمر الوضع على ذلك النحو حتى تولى جو بايدن المسؤولية في البيت الأبيض.

لكن ذلك لا يعني أن الأزمة كانت قد انتهت، أو تم حل جذور الصراع، فحكومة كييف لم تنفذ الشق السياسي من اتفاقية مينسك2، بحسب اتهامات موسكو قبيل اندلاع الحرب الحالية، كما بدأت واشنطن في إرسال مساعدات عسكرية – ذات طابع دفاعي – وتدريب الجيش الأوكراني، وهو ما كان الرئيس السابق دونالد ترامب قد علقها للضغط على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، كي يفتح تحقيقاً في الفساد المزعوم لهانتر بايدن – نجل الرئيس جو بايدن.

لكن الأزمة بدأت فجأة في دخول مرحلة خطيرة منذ خريف العام الماضي، وفي أعقاب الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان نهاية أغسطس/آب 2021، ووقتها حذرت عشرات التقارير الأممية والغربية من خطورة الأزمة الأوكرانية، التي أصبح مركزها الرئيسي البيت الأبيض وبطلها الأول جو بايدن، ومعه أيضاً ينس ستولتنبيرغ، الأمين العام لحلف الناتو.

وكرر الكرملين اتهاماته للغرب بالتسبب في التوتر والتصعيد من خلال نشر أسلحة وقوات لحلف الناتو في شرق أوروبا، والإعلان عن قرب انضمام أوكرانيا لعضوية الحلف العسكري الغربي. والغريب هنا هو أن زيلينسكي نفسه اشتكى من التقارير الغربية والأمريكية، التي كانت تتحدث عن قرب “وقوع الغزو”، واتهم قادة غربيين – لم يسمّهم – باستغلال أزمة بلاده لمصالح خاصة بهم، وصرخ يوم 28 يناير/كانون الثاني الماضي، في الصحفيين الغربيين قائلاً: “أوكرانيا ليست تايتانيك!”

لكن على أية حال تحقق لمن سعوا للحرب ما أرادوا، واشتعل برميل البارود، وينكوي العالم أجمع بناره دون أن يعرف أحد كيف يمكن أن تضع تلك الحرب أوزارها، لكن المؤكد هنا هو أن أي اتفاق لإنهائها لن يكون بين موسكو وكييف، بل لا بد أن تكون واشنطن الطرف الثاني فيه. إذ كانت روسيا وأوكرانيا قد توصلتا بالفعل إلى اتفاق سلام قبل أشهر، لكن زعماء غربيين، أبرزهم بايدن ورئيس وزراء بريطانيا السابق بوريس جونسون، أقنعوا زيلينسكي بالرفض ومواصلة الحرب، بحسب تقارير غربية تم الكشف عنها مؤخراً.

لكن المشكلة الآن هي أن بايدن ربما لا يكون في وضع يسمح له بالتفاوض مع بوتين، بعد أن وصف ساكن البيت الأبيض نظيره الروسي بأوصاف من الصعب التغاضي عنها مثل “جزار” و”مجرم حرب” و”ديكتاتور قاتل”، لكن كما قال رئيس وزراء المجر “وقف إطلاق النار لا يجب أن يكون بين روسيا وأوكرانيا، بل بين أمريكا وروسيا… من يعتقد أن هذه الحرب ستنتهي عبر مفاوضات روسية-أوكرانية لا يعيش في هذا العالم. حقيقة القوة مختلفة. الحرب مفتوحة اليوم، لأن الأمريكيين أرادوها على هذا النحو. لهذا السبب يتعين على الأمريكيين أن يتفقوا مع الروس. وحينها ستنتهي الحرب”.

.