هل المباحثات بين موسكو وكييف قريبة؟

تقديم د. أمير حمد /

مع بدء تساقط الثلوج في العاصمة كييف، قالت السلطات إنها تعمل على استعادة الطاقة على مستوى البلاد بعد أن أطلقت روسيا في وقت سابق ما وصفته أوكرانيا بأنه أعنف قصف على البنية التحتية المدنية في الحرب المستمرة منذ تسعة أشهر. واستبعد زيلينسكي رئيس أوكرانيا فكرة إقرار “هدنة قصيرة” مع روسيا، قائلاً إنها لن تؤدي إلا إلى تفاقم الأمور.

وفي تقرير للكاتب سامي عمارة يقول: الحديث لا يتوقف عن “المباحثات كسبيل للخروج من الأزمة الأوكرانية” منذ اندلاعها عام 2014. ويذكر المراقبون أن الأوساط المحلية والعالمية ومنذ اندلاع هذه الأزمة في فبراير (شباط) من ذلك العام، لم تأل جهداً من أجل وضع حد للصراع القائم “عملياً” بين روسيا وأوكرانيا، بما اتشح به من أستار، ثمة من حاول استغلالها لتنفيذ مآرب ذاتية في معظمها. وقد جاء ما تسميه موسكو بالانقلاب الذي أطاح بالرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش في فبراير 2014، ليميط اللثام عما كانت تبتغيه الأوساط اليمينية المحلية والعالمية من أهداف، وفي مقدمها وضع فكرة انضمام أوكرانيا إلى كل من حلف “الناتو” والاتحاد الأوروبي، حيز التنفيذ.

ومن هنا بدأ التفكير في ما يمكن أن يكون سبيلاً للخروج من ذلك المأزق الذي تتواصل فصوله حتى اليوم، وهو ما اضطلع به وزراء خارجية كل من ألمانيا وبولندا وفرنسا، في فبراير 2014. آنذاك توصل هؤلاء الوزراء وبمشاركة مندوب عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى اتفاق حول إجراء الانتخابات المبكرة في خريف العام نفسه، شريطة التزام الرئيس الأوكراني بسحب قوات الأمن والدفاع من وسط العاصمة، وموافقة المعارضة على إزالة ما أقامه أنصارها من مخيمات. لكن هذا الاتفاق لم يصمد أكثر من بضع ساعات، إذ سرعان ما نكثت المعارضة بالتزاماتها، وتراجع “الرعاة” الغربيون عما وعدوا به من ضمانات، ليشهد العالم صبيحة اليوم التالي لتوقيع الاتفاق، محاولة اغتيال الرئيس يانوكوفيتش، قبل أن يضطر إلى الاتصال بالرئيس الروسي لنجدته، ونقله إلى موقع قريب داخل الأراضي الروسية.

ومن هنا عادت الأزمة لتنسج جديد خيوطها في وضح النهار، إعلاناً عن فشل المباحثات، وتأكيداً لعدم التزام الأطراف المعنية، بما قطعته على نفسها من وعود في وثيقة اتفاقها مع الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش.

وذلك ما كان وراء إعلان قيادات مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك عن استقلالهما عن أوكرانيا، وقيام الجمهوريتين الشعبيتين، وما تلا ذلك من مواجهات عسكرية بين فصائل الحركة الشعبية المسلحة في كل من “الجمهوريتين”، والجيش الأوكراني الذي دفع بقواته لإخماد ما وصفها بالحركات الانفصالية في جنوب شرقي أوكرانيا، التي سرعان ما طلبت الغوث من “الشقيقة الكبرى” روسيا.

اجتماعات ماراثونية

وسارعت موسكو بالتعاون مع المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، إلى التدخل من خلال مجموعة “نورماندي” التي ضمت قيادات ألمانيا وفرنسا وروسيا مع الرئيس الأوكراني السابق بيتر بوروشينكو، لتتفق حول جمع الفرقاء من أجل البدء في مباحثات استضافتها مينسك عاصمة بيلاروس. ويذكر المراقبون أن هذه المباحثات نجحت في التوصل في سبتمبر (أيلول) 2014، إلى ما سمي بـ”اتفاقات مينسك-1″، بما نصت عليه من وقف إطلاق النار الذي سرعان ما تجدد، ليعود الفرقاء تحت رعاية الوسطاء أنفسهم إلى اجتماعات ماراثونية في مينسك في فبراير 2015، دامت لما يزيد على 16 ساعة، أسفرت في نهاية المطاف عن “اتفاقات مينسك-2″، التي سرعان ما أعلنت القيادة الأوكرانية عدم التزامها بها، ليعود الصراع إلى سابق عهده من مواجهات عسكرية طالت لما يزيد على سبع سنوات، على رغم ما طرأ على “اتفاقات مينسك”، من تعديلات حملت اسم “شتاينماير” وزير الخارجية الألمانية الأسبق، ورئيس الجمهورية الحالي.

وتلك كلها مقدمات تقول إن “المباحثات”، وما أسفرت عنه من اتفاقات، لم توفر المناخ المناسب للتوصل إلى تسوية سلمية بين الجانبين. وذلك ما عزاه مراقبون كثيرون إلى وجود القوى التي لم تتوقف عن تدخلها، وبذل كل ما في وسعها من أجل تأجيج خلافات الجانبين لما يزيد على سنوات ثمان، سعياً وراء “مآرب ذاتية”. ولم تكن روسيا لتكون بعيدة من هذه المحاولات، تحت شعارات “الدفاع عن حقوق ومصالح لناطقين بالروسية في جنوب شرقي أوكرانيا”. وقد ساهم في تصعيد التوتر، وتأجيج النزاعات والصراعات المسلحة، ما ارتكبته القيادة الأوكرانية من أخطاء، وما اتخذته من قرارات وما سنته من قوانين “تحمل كثيراً من المضامين العنصرية والفاشية”، على حد وصف المصادر الروسية، بما يتعلق منها بحظر استخدام اللغة الروسية، وإغلاق المدارس القومية، وتغيير المناهج الدراسية، على وقع صحوة فصائل “النازيين الجدد” في غرب أوكرانيا. وعلى رغم أن الرئيس الأوكراني الحالي فلاديمير زيلينسكي حقق كثيراً من المكاسب خلال حملته الانتخابية تحت شعارات تدين هذه الإجراءات والقوانين، إلا أنه سرعان ما عاد وجنح بها نحو المضي إلى ما هو أبعد، في الوقت الذي ظهرت فيه بوادر الدعم العسكري والمالي من جانب “بلدان غربية كثيرة”، ساهمت في إعداد وتدريب الفصائل المسلحة داخل أوكرانيا وخارجها، بما فيها الوحدات والتشكيلات العسكرية التي لم تتورع عن الكشف عن توجهاتها “النازية”. وكان الجانب الروسي حرص منذ بداية المباحثات، على أن ينأى بنفسه لدى صياغة وتوقيع هذه الاتفاقات، عن أية إشارة تنص على تورطه أو اعتباره طرفاً في هذه الأزمة.

الموقف الملتهب

وفي توقيت مواكب لظهور كثير من البوادر والمؤشرات التي كانت تقول باحتمالات المواجهة العسكرية المباشرة، عاد الرئيس بوتين ليودع كثيراً من الشروح والتفسيرات لمواقف بلاده ومطالبها الأمنية، في مذكرتيه اللتين تقدم بهما إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، بما تضمنته من تحذيرات بشأن احتمالات ضم أوكرانيا إلى الناتو ونشر الأسلحة الاستراتيجية بأراضيها. وعلى رغم ما تعالى من دعوات تنادي بضرورة الجلوس إلى مائدة المباحثات، فقد انصرفت الأطراف المعنية إلى ما هو أشبه بالاستعداد لاحتمالات المواجهة، على وقع تبادل الاتهامات حول الحشود العسكرية الروسية على الحدود المشتركة مع أوكرانيا من جانب، وتدريبات واستعدادات الناتو في عدد من بلدان البلطيق، فضلاً عن تجهيز وإعداد الجيش الأوكراني وإمداده بأحدث الأسلحة الغربية، من جانب آخر. وجاء إعلان الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في دورة مؤتمر الأمن الأوروبي في ميونيخ في فبراير من العام الحالي، حول عزم بلاده استعادة وضعيتها النووية، وتهديد بالخروج من “مذكرة بودابست” في عام 1994 التي تقضي بتخلي أوكرانيا عما لديها من أسلحة وذخائر نووية، وإعلانها دولة خالية من الأسلحة النووية، ليصب مزيداً من الزيت في أتون الموقف الملتهب بين الجانبين الروسي والأوكراني. وذلك ما أعلن دميتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي، أنه كان في صدارة الأسباب التي عجلت باتخاذ روسيا قرارها ببدء “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا في 24 فبراير من العام الحالي.

وفي الوقت الذي ثمة من يقول فيه إنه من السابق لأوانه إنهاء الصراع المسلح بين روسيا وأوكرانيا، وإن الرئيس الأميركي جو بايدن وكأنما يجنح نحو تبني واقع أن تحقيق السلام ليس من مصلحة الولايات المتحدة، أعاد آخرون إلى الاذهان، ما سبق وصدر عن مسؤولين غربيين ومنهم جوزيب بوريل مفوض الشؤون السياسية للاتحاد الأوروبي، حول “أن الأزمة يجب أن تحسم في ساحة القتال، وليس عبر الحلول السياسية”. وقد جاء ذلك على وقع تصريحات كثيرة صدرت عن الرئيس بوتين، حول أن روسيا لطالما ناشدت القيادة الأوكرانية الالتزام بتنفيذ ما وقعت عليه وما التزمت به بموجب “اتفاقات مينسك”، التي وقعتها منذ أكثر من ثمانية أعوام، دونما استجابة من القيادة الأوكرانية التي عادت لتعلن صراحة أنها لن تلتزم بما نصت عليه هذه الاتفاقات من بنود. ومع ذلك، فقد عادت القيادة السياسية الروسية لتؤكد استعدادها للجلوس إلى مائدة المفاوضات، التي سرعان ما استجاب لها الجانب الأوكراني، من دون اتخاذ خطوات جدية تذكر. لكنه عاد وقبل وساطة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي استضاف الوفدين الروسي والأوكراني في إسطنبول، حيث توصل الجانبان إلى اتفاق يقضي بقبول الجانب الأوكراني لوضعية الحياد، والتخلي عن رغبة الانضمام إلى الناتو والالتزام بعدم نشر الأسلحة الاستراتيجية. وهي البنود التي عاد الرئيس الأوكراني ورفضها، تحت ضغوط يقول الجانب الروسي إنها مورست بحقه من جانب “دوائر غربية”. وها هو جيك سوليفان يصل إلى أوكرانيا للقاء الرئيس الأوكراني زيلينسكي، لتتعالى مجدداً تصريحات كشفت عما كان يحمل من تكليفات مفادها “بأن الوقت لا يزال مبكراً جداً لإنهاء الصراع في أوكرانيا الآن، قبل أن يتم تأمين جميع المصالح الأميركية”. ونقلت الصحافة الروسية عن صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية “تسريبين لمعلومات مهمة”، تقول أولاً “إن مستشار الأمن القومي للرئيس جو بايدن جيك سوليفان، أجرى محادثات خاصة في الأشهر الأخيرة مع يوري أوشاكوف، مساعد الرئيس بوتين للشؤون الخارجية، ونيكولاي باتروشيف، سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، تعلقت بمنع تصعيد الصراع في أوكرانيا، بما في ذلك التهديد باستخدام الأسلحة النووية، فضلاً عن الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة بين البلدين”. وثانياً “إن سوليفان دعا الرئيس زيلينسكي إلى إرسال إشارة مفتوحة بالاستعداد لحل النزاع مع روسيا”. وذلك ما انبرى دميتري بيسكوف، المتحدث الرسمي باسم الكرملين، ليفنده بقوله “ليس لدينا ما نقوله بشأن الأنباء والمعلومات الواردة في الصحف الأنغلوسكسونية، حول وجود مفاوضات بين مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي جيك سوليفان، ومساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف”. وأضاف “ليس لدينا ما نقوله بشأن هذا المنشور في الصحف الأنغلوساكسونية التي تنشر كثيراً من الكذب، لذا فإنكم مدعوون إلى الاتصال إما بالصحيفة أو بالبيت الأبيض”.

“صياغة غامضة”

ومع ذلك، فقد سارع الرئيس الأوكراني إلى إعلان استعداده لبدء المفاوضات “شريطة استعادة أوكرانيا لسيادتها الإقليمية (أي استعادة كل ما استولت عليه روسيا من أراض في القرم والدونباس، ومقاطعتي زابوروجيه وخيرسون)، واحترام ميثاق الأمم المتحدة، وتعويض بلاده عن جميع الخسائر الناجمة عن الحرب، ومعاقبة كل مجرم حرب، وضمان عدم حدوث ذلك مرة أخرى”. “وتلك كلها شروط لا يمليها سوى المنتصر، بما تبدو معه من تفصيلات تؤكد كل الشواهد أنها غير قابلة ليس فقط للتنفيذ، بل ولا تستحق حتى عناء النظر إليها أو التفكير فيها”، على حد قول مصادر برلمانية روسية. ونقلت صحيفة “أزفيستيا” عن دميتري بيليك، عضو لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الدوما، تصريحاته التي سخر فيها من “شروط زيلينسكي” بوصفها أنها “رائعة”. وقال بيليك إن الزعيم الأوكراني “أعلن شروطه للمفاوضات بعد أن ذكرت وسائل الإعلام الغربية أن كييف يتم دفعها للحوار مع روسيا”، فيما وصف البرلماني الروسي هذه الشروط بقوله “إنها ديماغوجية، وغير واقعية، وجاءت في صياغة غامضة”. لكنه ألمح في الوقت نفسه إلى أن الولايات المتحدة تواصل إصدارها تعليماتها إلى القيادة الأوكرانية، بما يعكس إدراكها، لأهمية الحفاظ على قنوات الاتصال بين روسيا وأوكرانيا، من أجل “الحفاظ على فرصة التأثير في الصراع الأوكراني، وعدم حرق الجسور مع موسكو، لأن الدول تتفهم خطر التوصل إلى مواجهة مباشرة مع روسيا”.

ويتوقف المراقبون في هذا الصدد عند حرص الجانبين الروسي والأميركي على عدم التورط في صراع مفتوح، وإن كانت المصادر الروسية لا تكف عن التحذير من استمرار “تدخل الولايات المتحدة وإصرارها على مواصلة الحرب الجارية حتى آخر جندي أوكراني”. وذلك في وقت يشهد تراجعاً عما سبق من تصريحات حول استخدام الأسلحة النووية، في ظل استمرار “الرحلات المكوكية” إلى كييف من جانب الدوائر الغربية، مع ما يواكبها من اتصالات هاتفية بين موسكو وواشنطن وعدد من العواصم الغربية الأخرى، على وقع عديد من التصريحات بشأن التزام واشنطن بإمداد كييف بكل ما يلزمها من دعم مالي وعسكري. وذلك كله يوحي بما يقف على طرفي نقيض، مما يقال حول إن هناك من يروم المباحثات سبيلاً للتوصل إلى تسوية سلمية، يمكن أن تنقذ المنطقة والعالم من أخطار الانزلاق إلى “حرب نووية”، وأن تظل الأنظار كلها تتعلق بما يمكن أن تسفر عنه الانتخابات الأميركية الأخيرة من نتائج، قد تكون سبيلاً إلى تحول في سياسات “البيت الأبيض”.

.