الثأر من الهيمنة

الشرق والجنوب .. الشمال والغرب

عاطف عبد العظيم

يدور كلام المراقبين على بروز دول الجنوب واتخاذها قرارات مستقلة في منأى عن أحلاف تربطها بالولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية. تناولت صحيفة “لوموند” الفرنسية هذه المسألة بمقالة وسمتها بـ”ثأر الجنوب: الحرب على أوكرانيا”، ويدرج خبراء هذه الدول في مفهوم “الجنوب الشامل”، على رغم ضم هذا الجنوب أحوالاً متفرقة كثيرة، أي قوى كتمت طويلاً تبرماً حاداً بسياسات الغرب، أو “الشمال المعولم”، وها هي اليوم تعلن تبرمها من غير تحفظ.

ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي يتصدر، مع شخصيات أخرى بارزة، الجنوب الشامل، “القارة” التي أخرجتها الحرب في أوكرانيا إلى العلن.

فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اعد استقبالاً حافلاً، في العيد الوطني الفرنسي، لرئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، فيشرك في العرض العسكري السنوي، في شارع الشانزيليزيه، سلاح الجو الهندي وبعض المشاة. ويتبع الاحتفال الفرنسي بمودي، على رغم انعطافة حكمه إلى التسلط، استقباله في واشنطن، في أواخر يونيو (حزيران). ويستضيف بدوره، في سبتمبر (أيلول)، قادة العشرين اقتصاداً كبيراً في العالم، وروسيا جزء منها.

وشاركت نيودلهي، قبلها، في قمة “بريكس” (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا) في جوهانسبورغ. ومودي هو المحامي عن “الانحياز المتعدد”، ويعلن حرصه على محاورة الرئيس الأميركي، جو بايدن، والكلام إلى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.

ففي ساعات العدوان الروسي الأولى، في 24 فبراير (شباط) 2023، أعلنت كتلة راجحة من البلدان إرادتها الوقوف على مسافة من المتحاربين، موسكو وكييف، أو على مسافة واحدة. وبعد ثلاثة أيام، وبينما دعت واشنطن وباريس الجمعية العمومية، الأممية، إلى الالتئام ومناقشة موضوع أوكرانيا، امتنعت دول يربطها بالولايات المتحدة حلف من تأييد الدعوة.

وفي 2 مارس (آذار)، في أثناء الدورة العامة، امتنعت 35 دولة- بينها الصين والهند و17 دولة أفريقية، وبينها الجزائر وجنوب أفريقيا- عن التصويت، ورفضت الطلب إلى روسيا “وقف استعمال القوة ضد أوكرانيا حالاً”. وتوالت إذ ذاك علامات التحفظ دلالة على إثبات الجنوب العالمي نفسه.

وتحمل هذه الكوكبة من البلدان التي تعد فوق نصف سكان العالم، اسماً قديماً. ففي 1969، ندد ناشط أميركي مناهض لحرب فيتنام، كارل أوغليسبي، بالنزاع، ووصفه بذروة “سيطرة الشمال على عموم الجنوب” (أو جنوب العالم كله). ودلت العبارة على كيانات جغرافية وسياسية، سبق أن سماها الاقتصادي والخبير السكاني الفرنسي، ألفريد سوفي، “العالم الثالث”، على غرار “الطبقة الثالثة”، العامة من غير الإشراف والإكليروس الديني في النظام الملكي القديم. وكانت هذه الكيانات تسعى في الاستقلال عن كتلة حلف وارسو الشرقية، وكتلة حلف شمال الأطلسي الغربية.

ويذهب جورجي هاين، الباحث في ويلسون سنتر والسفير التشيلي السابق في الصين والهند، في مقابلة على موقع ذي كونفرسيشين، إلى أن “(عدم الانحياز) الحالي، على خلاف نظيره قبل عقود، يبرز في وقت تتمتع فيه البلدان النامية بقوة تفوق قوة هذه البلدان من قبل”.

وبلدان البريكس وحدها تفوق أعضاء مجموعة السبع في ميزان الاقتصاد العالمي، واختصار الانقسام الحالي في مواجهة بين “الغرب” و”بقية العالم”، على ما تصرح به بعض الأصوات في الشمال، رأي يجافي الواقع.

“لماذا توصف (هذه البلدان) بأنها بقية العالم”، سألت فيونا هيل، المستشارة السابقة لشؤون أوراسيا في البيت الأبيض في مايو (أيار) الماضي. هذه البلدان “هي (الـ)عالم”، و”مصطلحنا تفوح منه روح استعمارية”.

وبعضهم ينكر صواب المصطلح ودقته. وسمير ساران، مدير مركز أوبزيرفير ريسيرش فاوندايشين في نيودلهي كتب قائلاً: “العبارة مفرطة في الاختزال ولا تحتسب الفروق بين الدول التي تجمع في هذا الباب أو العنوان. وترغب بلدان قليلة في الانضواء تحت باب (الجنوب) وهي تستكمل نموها وتسهم في رسم قسمات الأنظمة العالمية”. والحق أن هذه التسمية تقتصر على جمع بعض البلدان بحسب اقتراعها في الأمم المتحدة. وتضم بعضها إلى بعض مناطق جغرافية واقتصادية وتاريخية متباعدة. وبعض المنظمات الدولية، مثل بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون تتقاسم بعض السمات من غير الاشتراك في الشكل والهيكل.

وراهن فلاديمير بوتين، حين غزا أوكرانيا، على نزعة بلدان الجنوب إلى إثبات سياساتها، وعلى الرأسمال السياسي الذي راكمه في مستعمرات غربية سابقة، ورعته الشبكة الدبلوماسية السوفياتية، ثم الروسية من بعد. وعول على دعم الصين، مغامراً بخسارة استقلاله. فلم يعد من اليسير على عواصم الجنوب، في هذه الحال، المفاضلة بين واشنطن وبكين اللتين تتفاقم خلافاتهما في الحرب في أوكرانيا.

ولا شك في أن بوتين نجح في اللعب على وتر الضغينة المتجددة على القوى الاستعمارية القديمة، وعلى الخصوص في أفريقيا حيث فوجئت فرنسا ببروز ميليشيات فاغنر التي تساندها موسكو.

ومن علامات الزمن مجاراة هوليوود موقف بوتين: ففي الجزء الثاني من فيلم “بلاك بانتير”، ينهب الجنود الفرنسيون معدناً، خارق المفاعيل. واستفادت موسكو، منذ 2018، من مشكلات علاقات فرنسا بأفريقيا الوسطى ثم مالي وبوركينافاسو. وبعض البلدان دانت اجتياح أوكرانيا، إلا أنها استنكفت تطبيق العقوبات. وبعض هذا البعض زاد مبادلاته التجارية مع روسيا منذ بداية العدوان، وحرم الإجراءات الغربية من بعض فعاليتها. فالهند تستورد جزءاً من النفط الذي حجر عليه المنع الأوروبي، وتعيد تصديره بعد تكريره على أراضيها.

صدمة العقوبات

والفرق بين النظرتين، الغربية والجنوبية (الشاملة)، شاسع. ففي افتتاح المنتدى الدولي بآستانا، في 8 يونيو، ندد الرئيس الكازاكي بالعقوبات، وحمل “تعسفها على” سيرورة تدمير لأسس النظام العالمي الذي صيغ منذ إنشاء الأمم المتحدة”. ويشير رئيس شركة فرنسية تنشط في أنحاء كثيرة من “القارة الجيوسياسية” الجديدة إلى الاحتجاج على موجات العقوبات على روسيا: “عدد كبير من مسؤولي (الجنوب) قالوا: إذا نجح الغربيون في معاقبة بوتين فلا شك في أنهم سيكررون الأمر معنا”.

وكثرة مبادرات السلام التي أثارتها القضية الأوكرانية هي مرآة للمسافة منها. وكانت الصين السباقة، في فبراير (شباط). وحذت حذوها البرازيل، في أبريل (نيسان) قبل أن تتبعها إندونيسيا، في يونيو، ويسافر وفد أفريقي برئاسة رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، إلى موسكو وكييف. وشق الطريق إلى هذه المبادرات شلل مجلس الأمن المهدد بالنقض الروسي، وانحياز العرب إلى كييف. ويحدوها تجاوز الصراع القارة الأوروبية، وآثاره المدمرة في أسعار الطاقة والغذاء، أو في مستوى المديونية الذي تأثر بتحليق الفائدة على التسليف.

ودعت هذه العوامل، والمشاغل الوطنية المحلية، الجنوب إلى وقف العمليات الحربية، أو تعليقها موقتاً، بينما لا تزال القوات الروسية تحتل خمس الأراضي الأوكرانية.

ورفض المسؤولون الأوكرانيون المبادرات والخطط هذه، ووصفوها بـ”الروسية”. ولاحظوا اشتراكها في مسائل جوهرية: دعوتها إلى “عدم التصعيد” من غير ذكر احتلال جيش أجنبي أراضي أوكرانية، وإهابتها إلى وقف نار على “الخطوط الحالية” التي ترجح موقف البلد المعتدي، وتنويهها باستفتاء في “المناطق المتنازعة” بإشراف الأمم المتحدة في سبيل حسم هوية هذه المناطق كما لو أن هذه الهوية معلقة، والإشارة إلى سيادة الدول والشعوب “على ما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة” وإغفال احترام وحدة الأراضي الوطنية على ما نص عليه البند الثاني من الميثاق.

ويعلم حلفاء أوكرانيا، ومؤيدو اشتراكها استعادة أراضيها المحتلة، بما فيها شبه جزيرة القرم، أن الدول التي تقترح اليوم مبادرات سلام تتمتع بقدرة على التأثير في سياسة بوتين، وأن الحل يتطلب وساطتها في نهاية المطاف. وعلى هذا، دعي ناريندرا مودي والرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، إلى قمة الدول السبع، بهيروشيما، في مايو. وقبل الأول لقاء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ضيف القمة المفاجئ، ورفض الثاني اللقاء.

وجددت الحرب التي فرضتها روسيا على أوكرانيا الإحباط الذي تشعر به دول كثيرة من نظام دولي يسيطر عليه الغربيون منذ نهاية الحرب الباردة، ويغلبون سياسة “الكيل بمكيالين”، على قول قادة الجنوب، وهم يقارنون بين اجتياح روسيا أوكرانيا واجتياح الولايات المتحدة العراق في 2003 من غير تكليف الأمم المتحدة، ومن غير أن يحاسب الرئيس الأميركي، المسؤول عن العمل الذي نجم عنه تدمير الشرق الأوسط.

ويرى القادة أن التدخل الغربي في ليبيا، في 2011، وتولت فرنسا والمملكة المتحدة قيادته، كرر حرب العراق. وأدى إلى انفجار ليبيا بعد سقوط معمر القذافي، بينما اقتصر التكليف الأممي على حماية المدنيين.

ويرد أحد المقربين من الرئيس الكاميروني على تهمة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون القادة الأفريقيين الممتنعين من التنديد بالغزو الروسي، بـ”الخبث”، يرد قائلاً: من العراق إلى ليبيا توسل الغربيون بالكذب والخداع، والنزاع في أوكرانيا هو حرب بين الأوروبيين ولا يدعونا داع إلى التدخل فيه.

وحرب أوكرانيا وأبعادها الجيوسياسية، ليست العامل الوحيد في هذه المواجهات. فسبقها اندلاع أزمة عام 2008 المالية في حضن النظام المصرفي الأميركي، وجراء سوء إدارته. وجددت جائحة كوفيد-19، في أواخر عام 2019، تهمة الغربيين بالأنانية واحتكار اللقاحات المتاحة، وجمع استثمارات ضخمة لمعالجة مفاعيل الأزمات التي تصيب الغرب. وأضعفت أزمة المديونية، الناجمة عن ارتفاع الفوائد المصرفية وسياسة لجم التضخم، الدول الفقيرة، من سريلانكا إلى غانا، من غير أن يحرك الغرب ساكناً. وثمة اليوم نحو 50 بلداً في العالم على شفير العجز عن سداد الديون وقروضها. وحرب أوكرانيا تلقي بظلها على هذا المشهد.

ولا تزعم رئيسة حكومة بارباد الكاريبية، ميا موتلين أن “السردية الروسية” مقنعة أو مغرية، ولكن “السردية الغربية” ترفض “الإقرار بالتجاوزات والتباينات التي ترافق معاملة (الغرب) البلدان المتحدرة من المستعمرات القديمة”. ولم ينفك الرئيس البرازيلي لولا يندد بهيمنة الدولار، وهو يقترح على شركائه من دول بريكس إنشاء عملة بديلة تحمي مبادلاتها وتجارتها من العقوبات الأميركية الخارجية.

والخلافات على مكافحة الاحترار المناخي ليست أقل فداحة وحدة، على ما أظهرت مناقشات باريس، في يونيو، في إطار قمة العقد المالي العالمي الذي دعت إليه الرئاسة الفرنسية. ويقول ويليام روتو، رئيس كينيا، معقباً على القمة: “الشمال هو المسؤول الأول عن الضرر الناجم عن تغير المناخ، والجنوب يتحمل النتائج على رغم ضعف مشاركته في التسبب بالضرر، ولم يوف له بوعد سداد 100 مليار دولار سنوياً إلى البلدان النامية لمساعدتها على التكيف، وتقليص انبعاثات غازات الدفيئة”.

ويؤخذ على الغرب لا مبالاته بمساعدة الاقتصادات المتعثرة. فلم يجاز تبني العالم النامي النموذج الديمقراطي الليبرالي بما يستحقه من المساعدة فبقيت السوق الحرة والرأسمالية أماني بعيدة من المتناول في بلدان الجنوب، على ما كتب رام مادهافن أمين عام حزب ناريندرا مودي، القومي الهندي، سابقاً، في كتابه الحرب في أوكرانيا والنظام العالمي الجديد (2023).

ويتجاوز انتقاد رفض الدول الكبرى توسيع عضوية مجلس الأمن إلى دول جديدة من الجنوب إلى انتقاد النظام العالمي. فيسأل مواربة أنيل سوكلال، مستشار رئيس جنوب أفريقيا، على هامش منتدى آستانا الدولي، “من دمر تعدد القطبية؟”. ويجيب: “نحن لا نريد عالماً يسيطر عليه قطب واحد، أو يسيطر عليه قطبان، نريد عالماً متعدد الأقطاب ومتعدد الثقافات”.

وتلقى قسمة جو بايدن، الرئيس الأميركي، دول العالم إلى ديمقراطية ومتسلطة تنبيهاً إلى أن 35 دولة من 49 دولة تبيعها الولايات المتحدة سلاحاً، هي في معظمها “متسلطة”، على تعريف فريدوم هاوس الديمقراطية. والحق أن السياسات الخارجية الأميركية تترجح أو تتردد بين مذاهب متفرقة. فغزو جورج دبليو بوش العراق أدى إلى طي المذهب المحافظ الجديد، وأبطل دعوته إلى فرض الديمقراطية من فوق. وسياسة باراك أوباما ناقضت “الويلسونية المدججة” التي انتهجها المحافظون الجدد. وفاقم شعار دونالد ترمب “أميركا أولاً” الانكفاء الأميركي على الداخل. وخالف جو بايدن عقيدة ترمب وتبرأ منها، ونفخ الحياة في حلف شمال الأطلسي.

وحملت هذه الانعطافات بلدان الجنوب على النأي بنفسها عن المعمعة هذه. والجنوب الشامل أو العالمي باق، ومعه “الانحياز المتعدد والمحدود المسؤولية”، على قول الهندي سمير ساران. وفي وسع “الدول المحورية العالمية”، شأن البرازيل والهند وتركيا التعويل على ثقلها، والامتناع عن انتهاج سياسة منحازة ومقيدة. وتحدي الشمال لا يسلبه أدوات قوته وشاراتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية. وهو لا يزال قطباً جاذباً، على ما يشاهد على طرق الهجرة. وسيطرته الثقافية تنهض على الافتتان بمثالاته الاجتماعية والجمالية والفنية.

وضعف التجانس بين دول الجنوب يؤذن بصدوع جبهته. والخلاف بين الصين والهند قرينة على هذا الأمر. وإدانة النظام العالمي الحالي لا تسوغ مهادنة النظام المتسلط الذي يسعى التحالف الصيني- الروسي في تشييده، على قول رام مادهاف، الهندي. ويخالف النظام الصيني- الروسي قيم الجنوب العالمي الأخلاقية، وجمعها بين الليبرالية الغربية والقومية الحضارية. وعلى هذا، يتوقع أن تطول وتدوم مفاعيل بروز “القارة” الجديدة.

.