نعم لحقن الكولا .. وأقراص الماكدونلدز

“أنا من اللد، وأي قرار لا يعيدني إليها اعتبره لاغياً”  

جورج حبش

.

ولد أحمد المختار //

على غير العادة ومن غير سابق إشعار، دخل الطبيب الأمريكي ليعاين مريضنا المسكين القابع على فراش موته.

وبعد اليسير من الفحوصات الأولية وبعد معاينة شكلية أصدر الطبيب أوامره بأن الحالة خطيرة جدا والموقف يتطلب تدخلا جراحيا عاجلا وأضاف يقول ” أن الأساليب بدائية والمعدات عتيقة جدا وحتى التفكير العلاجي الجاد لدى المريض وذويه يكاد يكون معدوما لذا لا بد من عمل”.

لم يتردد الطاقم الطبي في عدم سماع رأي أو الأخذ بمشورة، مقررا الإسعاف العاجل.

أقلعنا على متن طائرة إلى أحد المستشفيات البانتاجونية المتخصصة في الحالات المرضية المزمنة لدى الغرب.

أجهزة هنا وطواقم هناك، وجراحون مؤهلون متخصصون في كل مكان. على سرير محمول نقل مريضنا المسكين ، يغطيه الإرهاق، ويكسوه إلى مخمص قدميه إنهاك قاتل، جبين شاحب، وأوصال مترهلة وعيون مدمعة غائرة، وورم على كامل خريطة جسمه.

لم يبق ثمة شك أن التدخل الجراحي أمر لا بد أن يكون. “ساعات قلائل هي كل ما تبقى، ولا بد من اتخاذ القرار الحاسم”، أنجري العملية أم نتركه يموت ؟؟ 

بهذه الكلمات البائسة والحاسمة خاطبنا الدكتور الجراح. نظر إلى سموه ـ فخامته، جلالته، سيادته ـ لست أدري، بعيون مستغيثة نادمة على الأمس، متخوفة من الغد ومؤمنة بقضاء الله، قائلا : إلى متى؟ أما ترد ، أما تحكي؟

ذبحتني نظراته الحادة، وحروفه المخنوقة وصوته الحزين، وشعرت أنني أفكر للمرة الأولى منذ أكثر من خمسين عاما. وبدأت بترويض نفسي على اتخاذ قرار رغم أنني لا أجبر على اتخاذ القرار لأنني طيلة حياتي لم أدل برأياً، ولم أتخذ قراراً، وحتى أنني لم أحاور “سيدي” ولو لمرة واحدة.

يا إلهي : أأقول نعم فأزعجه، أو أقول لا فتكون الكارثة؟، وفجأة وكالحلم ظهر الجراح الأمريكي القادم من بعيد، يكسو يديه قفازات وعلى أنفه كمامة، ويحمل منشارا كهربائيا، فالوقت يرحل والوضع لا يسمح والموقف حرج. وأغلقت الأبواب، وأخرج الجميع وبقيت و”سادتي” كالخراف في ردهة المستشفى نذرعها ذهابا وإيابا. شارد كما هم شاردون، وأفكر وللمرة الأولى كما سادتي يفكرون.

الفرق الوحيد بيني وإياهم أن لدي أمل أخفيه ـ لا أستطيع إبداءه ـ أن مريضنا الجاثم هناك ربما يخرج من الغيبوبة هذه بصحة وعافية وربما لياقة أكبر.

وبقينا نراقب باب غرفة العمليات بتركيز هائل واهتمام فائق عل خبرا يذاع أو نبأ يتسرب.

وفجأة خرج الناطق الرسمي باسم المستشفى وقال بعد حمحمة وترويض لحباله الصوتية: أعلن لكم جميعا أن عملية المنشار الحديدي قد تمت بنجاح، وأننا مصرون على متابعة وضعه الصحي حتى انتهاء فترة النقاهة واكتمال العلاج. صفقنا له بحرارة، رغم أن التصفيق ممنوع وهتفنا بصوت جماعي ” بالدم بالروح نفديك يا ..يا ..يا … يا …!

تسامح الجراحون الأمريكيون مع خرقنا صمت وقدسية المستشفى بالصراخ ، بالتصفيق والإزعاج، لأنهم يدركون أن ظاهرة التصفيق ظاهرة طبيعية ملازمة يأكلها العربي صباحا ويشربها مساء، وأضاف الناطق:” أننا مع أصدقائنا سنقوم بمتابعة وضعه الصحي، وسندفع الفاتورة رغبة في الأجر ـ الأجر فقط ودون مقابل”.

كانت ثمة غبطة تأكلني من الداخل رغم أنني لا أستطيع إظهار أي شيء فأنا لا أثق أبدا في الوعود الأمريكية، ولا أأمن مغبة تراجع البيت الأبيض عن وعوده الطبية الجميلة الخيرة الرائعة.

انتهت العملية الجراحية بالكامل، ونقل مريضنا إلى غرفة النقاهة، واشتريت كغيري من البسطاء وردة بعشرين دولارا ـ هي نصف مرتبي تقريبا، لكن لا يهم، فالحمد لله على السلامة.

رأيته أخف وزنا وأكثر نضارة وأشد جمالا، رغم الآثار الجانبية للمرض ومتاعب الجراحة. استلمت الوصفة لأحضر الدواء وعوضا عن أن أقابل فتاة جميلة شقراء بالزي الصيدلي المألوف في مكتب رخامي مكيف، وجدتني أسلمها لمجندة أمريكية سوداء داخل مقطورة مجنزرة عملاقة، مجندة بملامح سيرالونية أو زامبية لست أدري، وتسلمت منها الدواء على شكل أقراص من الماكدونالدز وحقن من الكولا.

نظرت إلي باسمة وقالت مبروك والحمد لله على السلامة.  تركتها وبداخلي سؤال واحد “أمصلحون كما يدعون ويزعمون أم هم مرتزقة متعصبون كما نقول ؟؟

لكن حتى لو كان الأخير صحيحا ” فإن حالنا في الغد بوجودهم، لن يكون أسوأ من الأمس ومما هو واقع معاش “

.