“ملامح” الشرق الأوسط الجديد

“بالنسبة للشرق الأوسط، فإن الانتقال من اقتصاد صراع إلى اقتصاد سلام سوف يعني حصر المصادر لتطوير بنية تحتية تلائم هذا العصر الجديد من السلام، وأن بناء الطرق وتمديد خطوط السكك الحديدية وتحديد المسارات الجوية وربط شبكات النقل وتحديث وسائل الاتصالات وتوفير النفط والماء في كل مكان وإنتاج البضائع والخدمات عن طريق الكمبيوتر، سوف يفتح حياة جديدة في الشرق الأوسط”   شيمون بيريز

 

 

محمد محروس

 

ليست المرة الأولى التي تصوّب الأحداث مجرياتها نحو المنطقة بهذا الرتم المتسارع؛فمنذ التقسيم الإنجليزي الفرنسي الذي تناول كعكة الشرق الأوسط بنهم شديد وعجلة الصراعات لا تكاد تفارقنا،ما إن تطوى صفحة حتى تفتح أخرى بشكليات جديدة وأساليب غير معهودة، وكالعادة ليس أفضل من الصراعات كي تبقى المصالح قائمة والمآرب مستمرة كما خطط لها.

كيانٌ دخيل لضمان صراع مستقبلي

مع تغير قوى العصر المتعاقبة منذ التداخل الحضاري المريب عقب البداية الحمراء للقرن العشرين تغيرت الأدوات المستخدمة في الإلهاء،فبعيد الآلة الإستعمارية التي استخدمت الثقافة العنصرية حينها بإفراط مما تمخض عن ذلك ولادة الكيان الصهيوني المتشكل في دولة اسمها إسرائيل لينحصر الدور الفاعلي عليها لإعادة تشكيل ملامح المنطقة فترة من الزمن، بما في ذلك ردات الفعل المترتبة على خطوة تأسيس الكيان العنصري الذي لا صلة له بالتسامح الحضاري شعار المرحلة حينها.

لا جديد في التبعات، قوى الاستعمار انسلت شكليا بعد أن حققت مرادها، وأعلنا أيام نصرنا الوهمية على إثر ذلك بعد أن قتل منا الملايين وتشبعت الأرض بالدماء، وأعيد تحديد مناطق بمسميات أصبحت دولا، وزرعت الضغينة بينها؛ ليصبح الصراع المستقبلي مسألة وقت لا أكثر وزيادة على ذلك جسم غريب أرغمونا به دون اعتبار للتكلفة التي ستبنى على وجوده.

فرض الصهاينة وجودهم بالقوة فشرعوا بتنفيذ مخططاتهم المعدة سلفا،فمن مجزرة إلى أخرى ومن مخاض إلى مخاض ومن سياق مرسوم إلى آخر، حققوا ما جاءوا من أجله حتى أنهم بنوا علاقات شبه جيدة مع دول عربية محيطة بهم كمصر مثلا.

 

صناعة الأزمات

أما مخطط تفخيخ قلب العالم (الشرق الأوسط) فقد استمر بغية النيل من الكيان الروحي والأثري والشعائري والمشاعري ومن قبله نهب ثرواته بطريقة سلسة تحت مسميات اعتبارية (تسكينية) لا وجود لها على أرض الواقع بنوا عليها إحداث الشروخ بين دول المنطقة، ولعل حربي العراق مع إيران والكويت كانتا أبرز تلك المحطات التي رفدها الغرب واستفاد منها لشرعنة تواجده بشكل أو بآخر في ظل تضاؤل الوتيرة اليهودية وعدم فاعلية أدواتها، وانتهت هذه اللعبة بانهيار جمهورية الخوف في العراق وبدء مسلسل جديد من تغيير ملامح المنطقة فاستهدفت لبنان بحرب 2006 وساد الصراع المذهبي العراق المترهل وشنت حروب آثمة على غزة تخللها اقتتال داخلي على إدارتها.. وظلت الأحداث متواترة على شكل أزمات داخلية ذات بعد سياسي واقتصادي يتفاقم يومًا بعد يوم على مسمع ومرأى من الرعاية الغربية المستمرة والتي ترمي لإسقاط المنطقة.

حلّ الربيع العربي بناءً على الأزمات الداخلية المتشكلة التي لم تعد محط صبر عند الناس، حتى إذا ما انطلقت الشرارة خرج الكثيرون للإصلاح والتغيير وحين لم يُستجب لهم نادوا بإسقاط الأنظمة وإحلال الديمقراطية بعيدة المنال علها تلملم شتاتهم وتبدد عهود معاناتهم مع أنظمة قمعية لا تعترف إلا بمن تقرب منها واقترب.

بصورة أولية نجح الربيع في عبور تونس ومصر ولم يتمكن من استكمال دورته في اليمن وليبيا وسوريا ليخرج على إثرها بمنعطفات حرجة كانت أبعادها تتجاوز الشعوب والمنطقة، فالتدخلات التي فرضتها المرحلة وجدتها فرصة مثالية لرسم الملامح التي طال انتظارها، وهو ما حدث بالفعل.

 

مسارٌ جديد

التدخل الإقليمي المحدود في اليمن – المبادرة الخليجية – نجح في إزاحة صالح ولم ينجح في تقويض نظامه المتغلغل في كافة نواحي الحياة اليمنية، ولم تفلح ليبيا في إسقاط مستبدها، إلا باستخدام القوة العسكرية، أما سوريا فاتخذت مطية لإعادة الأمور إلى نصابها مع الاستمرار في المخطط التقويضي الرامي لانهيار المنطقة وإعادة تشكيلها حسب ما خطط له مسبقا.

لم يزهر الربيع، وتحوّل إلى خريف أسقط أوراق من تصدروا مشاهده وإلى صيف حار أشعل حروبا فضائية لم تكن في الحسبان، فظهر تنظيم داعش وظهرت معه تشكيلات مسلحة أخرى تحت مسميات مفروغة المضمون إلا من الثقافة العنصرية والتعبئة المذهبية التي أفلحت حتى اللحظة من تحقيق دورها المرسوم على أكمل وجه.. إضافة للتحالفات التي ولدتها الأحداث بدءا بالتحالف الدولي في ليبيا، ثم مواجهة داعش ثم التحالف العربي لاستعادة الشرعية في اليمن، ولا ندري ما قد يتمخض عن التطورات المتسارعة التي تشكل تحالفات جديدة مع كل تطور جديد.

تقزم العراق وتاهت لبنان وأنُهكت اليمن وترهلت سوريا وتشتت ليبيا وحًيّدت مصر والدول الأخرى فانهمكوا في أتون ما أثير من مشاكل داخلية حتى تتم اللعبة.

 

هل اكتملت الصورة؟

ها هي الصورة اليوم مكتملة بما لا يدع مجالا للتشكيك، فتلك الدول – أي دول الربيع – منشغلة بما فيها، أما الأخرى فتائهة في البحث عن ذاتها وكيانها في عالم مجهول من الصراع على الريادة والسيادة أيهم يكون في مقدمة المعتمد عليه لقيادة دفة المنطقة في ظل التواري المدروس لإسرائيل عن الصدارة وتحقيق إيران لكل الرغبات الغربية من خلال أدواتها المنتشرة على أساس سلالي ومذهبي ورفض تركيا لمثل هذه النزوات التي لا تتوافق مع مشروعها الإستراتيجي!

لا نملك حق الجرأة الفكرية وليس بمقدورنا أن نتبع مؤشرات التفكير الإيجابي وإشارات الواقع الداعية لمزيد من التماسك،ولأن من يملكون القرار هم مجرد أدوات تسمع وتطيع فها هو الشرق الأوسط والدول العربية على صفيح ساخن لا يُدرى إلى أي هاوية يجر به في ظل الطفرة الأخيرة على مستوى العلاقات الخليجية البينية ومحاولة تحييد قطر، بالإضافة إلى التغييرات السعودية المجهولة التي لا يستطيع أحد التكهن بحيثياتها المستقبلية بسبب الخطوات المتسارعة المتبعة للتحول إلى دولة حديثة مهما كانت التكلفة، وهو ما قد يمثل فخاً لدولة كالسعودية لها ثقلها السياسي والاقتصادي في المنطقة.

 

على من الدور؟

دوامة الصراع مستمرة في تكوين ملامح الشرق الأوسط فرزمة المشاريع الغربية توجب أن تظل المنطقة مشتعلة دون النظر إلى الكلفة والتكلفة.. البون الثقافي والثقافة العنصرية وإذكاء صراعات بينية لأسباب هلامية وانعدام الجرأة الفكرية أسباب تكفلت بإعادة تشكيل ملامح الشرق الأوسط كما أرادت أمريكا وبما يتلاءم مع التواجد الكياني لإسرائيل وبما يجعل من إيران دولة مستأثرة لها أياديها العابثة التي تستخدمها متى وكيفما شاءت،أما تركيا فتحاول استخدام حنكتها السياسية من خلال مجاراتها للأحداث.

هذه الملامح المتشكلة اليوم على الأسس المتبعة منذ حروب بداية القرن العشرين تجعلنا أمام تحديات كبيرة تهدد وجودنا لصالح المشاريع الاستعمارية الدخيلة وجودا وفكرا وهذا ما نخشاه في ظل عملية التجاوب والخضوع التي تبديها الأنظمة العربية وهوس السلطة مهما كانت العواقب.

وتظل التساؤلات التي تفرزها الأحداث كما هي، باستثناء: على مَن الدور غدا ؟!

 

تنبؤات شيمون بيريز

.. “بالنسبة للشرق الأوسط، فإن الانتقال من اقتصاد صراع إلى اقتصاد سلام سوف يعني حصر المصادر لتطوير بنية تحتية تلائم هذا العصر الجديد من السلام، وأن بناء الطرق وتمديد خطوط السكك الحديدية وتحديد المسارات الجوية وربط شبكات النقل وتحديث وسائل الاتصالات وتوفير النفط والماء في كل مكان وإنتاج البضائع والخدمات عن طريق الكمبيوتر، سوف يفتح حياة جديدة في الشرق الأوسط””، هذه كلمات من كتاب شيمون بيريز عام 1993 “الشرق الأوسط الجديد”.
إذا ما دققنا النظر في سطور هذا الكتاب سنجد أن ما ذكره بيريز وضع تصورا دقيقا لما يدور في الشرق الأوسط في وقتنا الحالي، فإعلان ولي العهد السعودي عن إقامة مدينة نيوم التي ستقع في الشمال الغربي للمملكة وستضم أراضي مصرية وأراضي أردنية على مساحة 26 ألف كيلو متر مربع، يخدم فقط مشروع شيمون بيريز للشرق الأوسط الجديد، وكل أحلامه الواردة في كتابه “الشرق الأوسط الجديد”.
ففي البداية ومن إعلان أهداف المشروع المنتظر نجد أن مدينة نيوم ستعمل على مستقبل الطاقة والمياه، مستقبل التقنيات الحيوية، مستقبل الغذاء، مستقبل العلوم التقنية ومستقبل الترفيه وهذه القطاعات كلها ذكرها شيمون بيريز في الفصل الثامن حتى الفصل الحادي عشر من كتابه.
سيكون المشروع منطقة خاصة مستثناة من أنظمة وقوانين الدولة الاعتيادية، كالضرائب والجمارك وقوانين العمل والقيود القانونية الأخرى على الأعمال التجارية، وهذا أيضا يذكره بيريز في الصفحة 154 من كتابه.
“جميع بلدان المنطقة سوف تمنح حرية الدخول إلى الموانئ الرئيسية على البحر الأحمر والمتوسط، وستضم المنطقة الحرة صناعة خفيفة ومراكز تجارية وخدمات ترفيهية وإدارية وتسويقية، وستكون هذه المناطق في المرحلة الأولى تحت سلطة البلدان التي تقع فيها، لكنها في النهاية ستصبح خاضعة للإدارة المركزية الخاصة بالمجتمع الإقليمي وستتمتع بوضع إقليمي”..

وأخطر ما في مشروع الأمير محمد بن سلمان هو المصالح الإسرائيلية العظيمة جدا المرتبطة به، فلو نظرنا إلى الوضع الاقتصادي الذي تمر به المملكة السعودية من جراء انخفاض أسعار النفط في أواخر 2014 حتى الآن، وبيع الحكومة السعودية في سبتمبر الماضي لسندات حكومية بـ 12 مليار دولار لسد عجز الميزانية، يجعل من تنفيذ هذا المشروع صعبا جدا دون دعم الشركات العالمية، لذلك نجد شركات أمازون، علي بابا وإيرباص وغيرها قد يجرون مفاوضات مع الأمير بن سلمان لتنفيذ هذا المشروع، ولا ننسى أن المدير التنفيذي لمشروع نيوم هو رجل أعمال ألماني شغل قبل ذلك منصب رئيس شركة سيمينز وسيتي جروب.

والمصالح الإسرائيلية بشكل مباشر تتصل بكسر احتكار قناة السويس لنقل البضائع من آسيا إلى أوروبا، ومشروع نيوم يضمن بشكل كامل إقامة كيان موازي لقناة السويس على خليج العقبة، لأن مشروع نيوم سيعيد إحياء المشاريع الإسرائيلية في هذا الصدد، لأنه سيزيد من اهتمام المستثمرين الدوليين في مشاريع السكك الحديدية “إيلات- أشدود” والسكك الحديدية التي تخرج من الرياض والكويت لكي تصل لميناء حيفا الإسرائيلي، وهذه الخطوط موجودة بنسبة 90% لأنه المشروع موجود أيام الدولة العثمانية، واستكماله لن يحتاج الكثير من الجهود، ولا ننسى أن في عام 2015 فازت مجموعة شنغهاي للموانئ بمناقصة دولية لتطوير ميناء حيفا لينتهي العمل به في عام2021  لكي يكون جاهزا لمد خطوط السكك الحديدية من الكويت والرياض، وجدير بالذكر أن عملية إحياء خطوط السكك الحديدية ذكرها شيمون بيريز في الصفحة 152 من كتابه.
مشروع نيوم ومشاريع الجزر في كل من السعودية، الكويت، البحرين والإمارات وعملية تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير عبارة عن صور صغيرة كثيرة تُكَون الصورة الكبيرة للشرق الأوسط الجديد كما تمناه شيمون بيريز.

 

 لكن إذا كانت هذه المشاريع ستكون في مصلحة الشعوب العربية فأهلا بها، أما إذا كانت هذه المشاريع والأفعال في مصلحة إسرائيل فقط فلا أهلا بها، ويجب علينا الوقوف ضدها.

اترك تعليقاً