أمريكا تخرج وطالبان تحكم

سعيد طاهر

بعد مباحثات استمرت قرابة 6 أيام في الدوحة بين المبعوث الأمريكي الخاص لأفغانستان زلماي خليل زاد، وأعضاء المكتب السياسي لطالبان، أسفرت عن توقيع مسودة اتفاق سلام أولية تنص على انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان في غضون 18 شهرًا من التوقيع. جولات المفاوضات المباشرة جعلت الحركة تفرض نفسها كضلع أساسي في تحديد ملامح مستقبل أفغانستان.

من الدوحة إلى موسكو

بعد أقل من عشرة أيام على مباحثات الدوحة توجهت طالبان إلى جولة جديدة من المباحثات.

المؤتمر الذي عقد في موسكو على مدار يومين في فبراير/شباط بمبادرة من الجالية الأفغانية في روسيا، ويضم أعضاء الجاليات الأفغانية في إيران وباكستان ورابطة الدول المستقلة، إلى جانب سياسيين وناشطين من أفغانستان، شدد في بيانه الختامي على “ضرورة مواصلة هذه السلسلة من الاجتماعات لإنجاح عملية المصالحة”، واتفاقهم على أن تعقد الجلسة المقبلة من هذه السلسلة في العاصمة القطرية قريبًا”.

وتعد تلك المباحثات هي الأعلى مستوى التي تجريها طالبان مع سياسيين أفغان منذ سنوات، حيث اتّفق المشاركون على انسحاب كل القوات الأجنبية من أفغانستان بشكل كامل.

المشاركون في المؤتمر طلبوا من جميع أطراف الصراع الإفراج عن المعتقلين كبار السن أو الذين يعانون من أمراض معدية، وأولئك الذين أكملوا فترة سجنهم، علاوة على مطالبتهم الأمم المتحدة شطب أسماء قيادات “طالبان” من القائمة السوداء، والاعتراف بالمكتب السياسي للحركة في الدوحة، وهي خطوات اعتبرها المشاركون “ضرورية لعملية الصلح، وتفتح المجال لنجاحها”.

لماذا تتفاوض أمريكا مع طالبان؟

في يناير/كانون الثاني الماضي نشرت مجلة “فوربس” الأمريكية تقريرًا قالت فيه إن الحرب في أفغانستان كلفت الولايات المتحدة حتى الآن نحو تريليون و70 مليار دولار، إضافة إلى مقتل أكثر من 2400 جندي أمريكي وإصابة عشرات الآلاف بجراح وتشوهات وإعاقات دائمة.

التقرير أشار إلى أنه رغم كل هذه الضريبة التي دفعتها واشنطن، فإنها فشلت في القضاء على طالبان الأمر الذي دفعها إلى إعادة النظر في إستراتيجية الحرب هناك، لتدخل في مرحلة مفاوضات مباشرة معها بهدف التوصل إلى تفاهم ما يمكنها من وضع حد لهذا النزيف المالي والبشري المستمر ومغادرة هذا المستنقع خوفًا من تكرار سيناريو فيتنام مرة أخرى.

وقد نجحت الحركة في الاحتفاظ بصمودها وقوتها أمام القوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي رغم وصول عدد جنودهما إلى قرابة 140 ألف جندي مدعومين بأحدث الأسلحة، وفرضت نفسها كقوة مؤثرة في المشهد فاقت في كثير من مراحل الصراع الحكومة الأفغانية نفسها، بحسب المجلة.

وأمام هذا الفشل المعزز بالخسائر المتلاحقة اضطرت واشنطن إلى تخفيض عدد قواتها في أفغانستان حتى وصل إلى 14 ألف جندي فقط في الوقت الحاليّ، يقتصر دورها على التوجيه والتدريب غالبًا، بينما تتولى القوات الأفغانية تنفيذ معظم المهام القتالية.

عملية المفاوضات الأمريكية مع طالبان بدأت مع مرحلة الرئيس باراك أوباما، الذي لجأ إلى إرسال 30 ألف جندي أمريكي إضافي لأفغانستان في 2010 في محاولة للضغط على الحركة لتقديم تنازلات، لكن من الواضح أن تلك الخطوة لم تحقق الهدف المطلوب منها ما دفعه لسحب تلك القوات مرة أخرى في 2014.

وأمام شعار “أمريكا أولاً” يسعى ترامب إلى تجييش جهود حكومته وميزانية دولته لخدمة شعبه وفقط، وذلك عبر تقليل النفقات الخارجية، غير أنه في الوقت ذاته لا يريد خروجًا يحمل طعم الهزيمة تجنبًا لسيناريوهات قديمة لا تزال عالقة في ذاكرة الشعب الأمريكي، لذا كان اختيار طالبان كرهان يسعى من خلاله إلى خروج آمن مع الحفاظ على صورة أمريكا دوليًا، اعترافًا بثقل الحركة وقدرتها على التأثير في المشهد مع التعهد بعدم شن هجمات من داخل الدولة الأفغانية ضد الأمريكان ومصالحهم في المنطقة.

طالبان تعود للمشهد

تصريح ترامب بأن القوات الأمريكية ستنسحب من أفغانستان بعد الاتفاق مع طالبان حتى وإن لم يعط جدولاً زمنيًا لهذا القرار فإنه تعبيد صريح لدور مستقبلي للحركة في إدارة المشهد الأفغاني، عززه ما صرح به الجنرال جوزف فوتيل رئيس القيادة المركزية الأمريكية أمام الكونغرس الأمريكي بأنه “في النهاية نريد أن نصل إلى حوار بين طالبان وأفغانستان.. فهم وحدهم القادرون على حل مسائل أساسية في الخلاف”.

العديد من المشاهد غير المألوفة شهدها مؤتمر موسكو الأخير تميط اللثام عن إستراتيجية جديدة للحركة في رسم صورة مغايرة تمامًا لما كانت عليه إبان فترة حكمها، على رأسها جلوس رئيس وفد طالبان جنبًا إلى جنب مع سياسيين معارضين للحركة، في مقدمتهم حميد كرزاي، الذي نصّبته الولايات المتحدة رئيسًا لأفغانستان بين 2001 و2014، وهو الرئيس الذي كان يصفه قادة طالبان دومًا بأنه دمية الغرب.

كذلك استماع مسؤولو الحركة لنساء تحدثن في المؤتمر، وهو الأمر الذي لم يكن يمكن تصوره إبان حكم طالبان الذي أطاحت به القوات التي تقودها الولايات المتحدة في 2001، حيث تمت دعوة امرأتين أفغانيتين لحضور الاجتماع، ورغم انتقادهما لسياسات طالبان القديمة، فإنها تعهدت بإعادة النظر في كثير من المواقف السابقة.

مسؤولو طالبان تعهدوا كذلك بوقف زراعة الخشخاش في أفغانستان واتخاذ خطوات لمنع سقوط ضحايا من المدنيين في النزاع الذي أوقع عشرات آلاف القتلى والجرحى، كما وعدوا بعدم السعي للاستئثار بالسلطة وإقامة “نظام إسلامي شامل” للحكم في أفغانستان، وفتح الباب أمام كل القوى للمشاركة.

فهل تقدر طالبان على مواصلة نجاحاتها التفاوضية مع أمريكا وروسيا وبقية القوى السياسية الداخلية ومن ثم استعادة سيطرتها على الدولة الأفغانية مرة أخرى؟ هذا ما سيجيب عنه مرونة الحركة في التعاطي مع عدد من الملفات الخلافية فضلاً عما تقدمه من ضمانات لأطراف النزاع خلال المباحثات القادمة. 

.