متى تنتهى الهيمنة الأمريكية؟

سعيد طاهر

يقول خبراء في العلاقات الدولية أن الهيمنة الأمريكية على السياسات والاقتصاد العالمي باتت في أضعف حالاتها منذ الصعود الأمريكي نهاية الحرب العالمية الثانية. فمع الصعود الحالي لدول أخرى اقتصادياً وعسكرياً تواجه الولايات المتحدة تنافسا على الهيمنة العالمية.

فهل نحن نشاهد بداية نهاية عصر الهيمنة الأمريكي ؟

يشير الباحث السياسي فريد زكريا في مجلة «فورين أفيرز» إلى أنَّه في وقتٍ ما من العامين الماضيين، انتهت الهيمنة الأمريكية، التي كان عصرها قصيرًا وطائشًا في رأيه. إذ استمرت لنحو ثلاثة عقودٍ ميزها انهياران؛ بدأت مع انهيار جدار برلين عام 1989، والآخر كان هو الذي شكل النهاية أو البداية الفعلية للنهاية، في العراق عام 2003، ليبدأ الانهيار البطيء منذ ذلك الحين.

ومثل جميع النهايات، يعتقد زكريا أنَّ العديد من العوامل ساهمت في كتابة سطور هذه النهاية، إذ كانت هناك قوى بنيوية عميقة في النظام العالمي عملت بلا هوادة ضد امتلاك أي دولة لهذا القدر الضخم من النفوذ. أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية نفسها، يرى الباحث أنَّه من المدهش كيف تعاملت واشنطن مع نفوذها هذا، وإدارتها السيئة لهيمنتها، واستغلال قوتها، ما جعلها تخسر حلفاءها وتجعل أعداءها أكثر جرأة.

والآن، في ظل إدارة دونالد ترامب، يبدو أنَّ الولايات المتحدة فقدت اهتمامها وإيمانها بالأفكار والأهداف التي حفزتها للوجود على الساحة الدولية لثلاثة أرباع قرن.

بداية النهاية

يعتقد زكريا أنَّه كما تصاعدت الهيمنة الأمريكية في أوائل التسعينيات ولم يلاحظها أحد، أيضًا فعلت القوى التي ستُضعفها أواخر التسعينيات، حتى عندما بدأ الناس يتحدثون عن الأمة الأمريكية «التي لا غنى عنها» و«القوة العظمى الوحيدة في العالم». إذ بدأ حينها صعود الصين لتصبح المنافس الجاد الوحيد لواشنطن، كما يتبين الآن، لكن هذا لم يكن واضحًا منذ ربع قرن.

ورغم صعود الصين بسرعة في الثمانينيات، فإنَّها بدأت من مكانةٍ متدنية للغاية. وكانت القليل من الدول قادرة على مواصلة عملية صعودٍ مشابهة لأكثر من عقدين، وبدا مزيج الصين الغريب من الرأسمالية واللينينية هشًّا، حسبما كشفت انتفاضة تيانانمن.

لكن نهضة الصين استمرت، وأصبحت القوة العظمى الجديدة، التي تمتلك القوة والطموح لمجابهة الولايات المتحدة، وتحولت روسيا من جانبها من الضعف والسكون أوائل التسعينيات إلى قوة انتقامية تتمتع بقدرة ومكرٍ كافيين للتأثير على الهيمنة الأمريكية.

ومع وجود لاعبيْن عالميَّين رئيسيين خارج النظام الدولي للولايات المتحدة، بدأ العالم مرحلة ما بعد أمريكا. وبينما ما زالت الولايات المتحدة اليوم هي الدولة الأقوى، لكنَّها موجودة وسط قوى عالمية وإقليمية يمكنها مقاومة نفوذها، وتفعل ذلك بالفعل بانتظام.

الضربة القاضية لـ«الهيمنة الأمريكية»

يشير زكريا إلى أنَّ إدارة ترامب فرَّغت السياسة الخارجية للولايات المتحدة من مضمونها أكثر من الماضي. ويرى أن غرائز ترامب تشبه كثيرًا غرائز الرئيس الأمريكي السابع أندرو جاكسون، فهو لا يكترث كثيرًا بالعالم إلا فيما يتعلق باعتقاده بأنَّ معظم الدول تحتال على الولايات المتحدة. وهو مؤمن بالقومية والحمائية والشعبوية، ويُصر على جعل «أمريكا أولًا»، والأهم من هذا كله أنَّه هجر الساحة الدولية.

ففي ظل إدارة ترامب، انسحبت الولايات المتحدة من شراكة المحيط الهادئ، ومن التعامل مع آسيا بشكل عام، وتنفصل حاليًا من شراكتها التي دامت 70 عامًا مع أوروبا، وتتعامل مع أمريكا اللاتينية بطريقتين؛ الحرص على عدم دخول المهاجرين منها، والفوز بأصواتهم في فلوريدا.

وتمكّنت من إفساد علاقتها بكندا، وتعهدت بشؤون الشرق الأوسط لإسرائيل والسعودية. ومع استثناءاتٍ قليلة صبيانية، مثل الرغبة النرجسية في الفوز بجائزة نوبل من خلال محاولة الوصول إلى سلامٍ مع كوريا الشمالية، يعتقد زكريا أن أبرز ما يميز السياسة الخارجية لترامب هو غيابها.

ويوضح الباحث أنَّه عندما كانت المملكة المتحدة القوة العظمى في عصرها، تراجعت هيمنتها بفعل العديد من القوى البنيوية الكبيرة، مثل صعود ألمانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، لكنَّها فقدت أيضًا سيطرتها على إمبراطوريتها بسبب غطرستها وتجاوزها للحدود.

ففي عام 1900، حين كان ربع سكان العالم يخضعون للحكم البريطاني، كانت معظم المستعمرات الكبرى في المملكة المتحدة تطالب فقط بحكمٍ ذاتي محدود، أي «وضع السيادة» أو «الحكم الداخلي» وفقًا لمصطلحات العصر الحالي. ويتساءل زكريا عمَّا كان سيحدث لو منحت الدولة ذلك الحق بالفعل لجميع مستعمراتها، فربما كانت ستتمكن من إطالة عمرها كإمبراطورية لعقود. لكنَّها لم تفعل، مصرةً على تحقيق مصالحها الأنانية ضيقة الأفق، بدلًا من استيعاب مصالح الإمبراطورية الأوسع.

ويرى زكريا أنَّ هناك تشابهًا هنا مع الولايات المتحدة. فلو كانت قد تصرفت أمريكا بشكلٍ أكثر اتساقًا مع مبادئها وسعت لتحقيق مصالح وأفكار أوسع نطاقًا، لاستمر نفوذها لعقود، وإن كان سيتخد نمطًا مختلفًا. فقاعدة استمرار عمر الهيمنة الليبرالية بسيطة في رأيه، وهي التحلي بمزيدٍ من الليبرالية مقابل قدرٍ أقل من الهيمنة.

لكن في كثيرٍ من الأحيان، وبوضوح، سعت واشنطن إلى تحقيق مصالحها الذاتية ضيقة الأفق، ما نفّر حلفاءها وجرَّأ خصومها. وعلى عكس المملكة المتحدة في نهاية حكمها، ليست الولايات المتحدة مفلسةً ولا تملك امبراطوريةً شديدة الاتساع، لكنَّها ما زالت الدولة الأقوى في العالم، وستستمر في ممارسة نفوذها الهائل، أكثر من أي دولةٍ أخرى، لكنَّها لن تحدد النظام الدولي وتهيمن عليه كما كانت تفعل لثلاثة عقودٍ مضت.

وبهذا، فإنَّ ما يتبقى في تقدير زكريا هو الأفكار الأمريكية. إذ كانت الهيمنة الأمريكية فريدةً من نوعها، إذ سعت الولايات المتحدة لزيادة نفوذها لإقامة نظام عالمي جديد، حلم به الرئيس وودرو ويلسون، وخطط له بالكامل الرئيس فرانكلين روزفلت. وتحقق نصفه بعد عام 1945، وكان يُطلق عليه أحيانًا «النظام الدولي الليبرالي»، وانشق منه الاتحاد السوفيتي ليبني نظامه الخاص.

لكن العالم الحر استمر خلال الحرب الباردة. وبعد عام 1991، توسع ليشمل معظم أنحاء العالم. والأفكار التي كان يقوم عليها هذا النظام أنتجت على مدار ثلاثة أرباع القرن الماضي الكثير من الاستقرار والازدهار. لذا فإنَّ السؤال المهم الآن في رأي الباحث في خضم تراجع النفوذ الأمريكي هو ما إذا كان النظام الدولي الذي وضعه هذا النفوذ، من قواعد وأعراف وقيم، سينجو ويستمر، أم ستراقب أمريكا أيضًا تراجع إمبراطورية أفكارها.

.