قطر… وحديث في السياسة

 

 

 

د. نزار محمود

أود أن أطرح بعض الملاحظات التمهيدية للتذكير قبل البدء بتناول الموضوع:
أولاً: إن قطر بلد خليجي صغير بعدد سكانه وبمساحة أرضه وعمقه التاريخي كدولة رسمية.
ثانياً: منذ بعض الوقت تلعب قطر دوراً إعلامياً وسياسياً على المستويين الاقليمي والدولي يفوق كثيراً إمكانات دولة في حجمها الجغرافي والتاريخي.
ثالثاً: أثبتت الأزمة الخليجية بين قطر من جهة والسعودية والامارات والبحرين من جهة أخرى امكانات كييرة لقطر في التعامل مع هذه الأزمة وادارتها، بالطبع ليس دون أثمان.
رابعاً: إن ما أعرضه في المقال من آراء وتحليلات، تصيب أو تخطىء، هي رؤية شخصية بحتة لا صلة لها بتوجيه أو بدعم أو تكليف.

أعود إلى تناول موضوعة المقال.
كنا منذ الصغر قد تعلمنا أن “السياسة هي فن الممكن” وهي بالتالي ليست معادلة عوامل وعلاقات ثابتة جامدة. من هنا يؤخذ على السياسة والسياسيين صفات المراوغة والتلون، لكننا لا نريد بها ولا نقبل لها سياسة خيانة الأوطان وبيع الذمم على حساب الحقوق والشرف والكرامة الانسانية.
لقد نشأت قطر وغيرها من دول الخليج العربية منذ زمن ليس بالبعيد في ظل ظروف دولية واقتصادية ساهمت في تشكيلات تلك الدول سياسياً واقتصادياً بما يتلاءم وتلك الظروف ومناطق النفوذ للقوى الدولية ومصالحها.  تمثل قطر على المستوى الداخلي أنموذجاً سياسياً قائماً على البعد القبلي والعائلي المتعارف عليه والمعمول به قي جميع دول الخليج العربية مع اختلاف في جزيئيات هنا وهناك لكنها لا تختلف عن بعضها كثيراً من حيث الجوهر. فالعائلة الأميرية في قطر، كغيرها من سلطات دول الخليج العربية، تريد البقاء على رأس سلطة الدولة ولها رؤيتها وتعمل وفق أجنداتها التي لا تخلو، بحسب ما أشرنا له من ظروف نشأة وموازين قوى، من جوانب لا تعجب آخرين من المختلفين دوراً وفكراً وأهدافاً وظروف ومصالح، دول وجماعات وأفراد. لكنها تتميز عنها بدور ورؤية مختلفة وواعدة.

 

أهم الملامح والمعالم في السياسة القطرية
يمكن إلقاء الضوء على السياسة القطرية، وباختصار شديد، من خلال الجوانب التالية:

قناة الجزيرة
إن الدور الكبير وما شكلته قناة الجزيرة من نقلة هائلة في مهنية المؤسسات الإعلامية العربية وحتى الدولية، بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر في أهداف هذه القناة الاخبارية، ستبقى منارة في إنجازات السياسة القطرية والتي ساهمت في تسليط الاضواء على دولة قطر ومكنتها من لعب دورها في السياستين الاقليمية والدولية. ان قناة الجزيرة بحق إنجاز متميز.
القواعد العسكرية الامريكية
ليس على بعد كبير من القصور الاميرية وقناة الجزيرة تقوم قاعدة “العديد” أكبر وأهم القواعد العسكرية الامريكية في منطقة الخليج العربي. لست على إطلاع دقيق على جميع الاهداف لتلك القاعدة أو ضوابط عملها التي لا يساور أحداً الشك في استقلايتها عن السيطرة القطرية.
لقد تعلمنا أن أحد مظاهر الاستقلال والسيادة هو خلو البلد من قواعد عسكرية أجنبية وعدم الارتباط بأحلاف تخرج عن القرار السيادي في تنفيذها.
يوسف القرضاوي
لم يكن رجل الدين يوسف القرضاوي ودوره السياسي قضية عابرة في السياسة القطرية، لا بل شكلت مواقفه ورؤاه وبرامجه ومنهاج دعوته أحد أهم الواجهات السياسية لقطر في تعاملها مع الدول العربية والاسلامية على وجه الخصوص. فالقرضاوي لا ينفي كونه واحداً من منظري وقادة الإخوان المسلمين المحظور في السعودية مثلاً. كما كان للقرضاوي دوره التناغمي مع السياسة القطرية ومواقفها في كثير من القضايا الدولية كالربيع العربي وتركيا اردوغان ومصر السيسي وغيرها.
قطر ومصر والإخوان المسلمون
وفي هذا السياق يمكن الوقوف كذلك على موقف السياسة القطرية من حزب الاخوان المسلمين ومنظماته ورجالاته. فحماس الاخوانية مثلاً مرحب بها في قطر وهي تتلقى الدعم السياسي والاعلامي والمالي منها.

وكان لما حصل في مصر من أمر الإنقلاب على مرسي وأخوانه المسلمين وحلفائهم مثل تركيا وقطر ما اتخذت منه مصر السيسي شرعنة لموقفها العدائي من قطر وحملتها السياسية والإعلامية ضدها.

قطر وتركيا أردوغان
وهكذا هي الحال بالنسبة للعلاقة القوية التي تربط قطر بتركيا اردوغان الإخواني التي وصلت الى حد التحالف العسكري والمواقف المصيرية، لا سيما بعد التلويح بالعمل العسكري ضد قطر وأميرها، وهو ما كلف جميع الأطراف استنزافاً كبيراً في ميزانياتها العسكرية وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.
قطر والأزمة السورية
وفي هذا الاطار كذلك تتبين ملامح السياسة القطرية ومواقفها من الأزمة السورية، إضافة الى عوامل الاقتصاد وغيرها من العوامل السياسية. لقد لعبت قطر لاعباً سياسياً وإعلامياً وحتى عسكرياً ومالياً في التعامل مع الأزمة السورية مما وضعها في خندق عداء كبير مع نظام بشار الأسد، وعدم تطابق رؤى مع ايران حتى في الآونة الأخيرة.
العلاقة مع اسرائيل والموقف من حماس!
تلعب إسرائيل منذ تأسيسها وتتخذ أداة خطيرة في سياسة الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع القضايا العربية وسياسات دولها. فشهادة حسن السيرة لا يحصل عليها من الغرب المهيمن الا من اعترف باسرائيل واقام معها علاقات ودية سياسية أو اقتصادية أم ثقافية من الدول العربية. فحق وجود إسرائيل وأمنها وسلامتها وساميتها اتخذت كخطوط حمراء لمواقف الدول العربية ومطرقة على رؤوسهم في حال انكارها.
ولم تكن قطر ممن قرر واقتنع بتحمل تلك الطرقات أو بالقدرة على مواجهتها وهو ما سبب لها إتهامات مبدئية أحياناً ونفاقية أحياناً أخرى.

في ذات الوقت تتهم قطر بدعمها الكبير لمنظمة حماس الاخوانية على المستويات السياسية والاعلامية والمالية. كما أن قناة الجزيرة هي الأقسى على “اسرائيل” في تقاريرها وتغطياتها لما يجري فيها وما له علاقة معها، وما تقوم به من أمر الاحتلال والاستيطان والقتل والتشريد والزج في السجون للفلسطينيين. أن سياسة قطر في مسألة التعامل مع “اسرائيل” والموقف من أعدائها أمر يثير الحيرة والعجب أحياناً والشك أحياناً أخرى!
قطر وأزمة داعش
لم تتسم سياسة قطر مع ما سمي بداعش بموقف ثابت وواضح. فقطر الدولة العربية السنية لها موقفها من الحركات الاسلامية وبالتالي من التعامل مع داعش، السلفية الجهادية، في ضوء الاتفاقات والاختلافات في الجوانب التفصيلية العقائدية والتطبيقية وفي إطار الهيمنة الدولية على مفاصل الحياة السياسية لدول المنطقة وقوتها العسكرية والامنية ومصالحها الحيوية.
لا زلنا نذكر اشتراك الطائرات القطرية في الطلعات الجوية لدول الخليج العربية ضد داعش في سوريا وعدم القائها القنابل والصواريخ وما تحدث به الكثيرون عن الدعم السعودي القطري التركي لمقاتلي داعش في بداية الأمر على الاقل.
الموقف القطري من الأزمة اليمنية
في إطار التحالف في مجلس التعاون الخليجي والهيمنة النسبية للسعودية شاركت قطر في الحملة العسكرية لاعادة الشرعية في اليمن ومحاربة الحوثيين دون قناعة أو مصلحة مباشرة، سرعان ما تراجعت عنها أثر أزمة دول مجلس التعاون، لا بل راحت تسخر أجهزتها السياسية والاعلامية للتشكيك في جدواها وإنسانية عملياتها.
أزمة مجلس التعاون الخليجي
لأسباب سياسية، داخلية وخارجية، وأمنية واقتصادية وثقافية إضافة الى أسباب شخصانية نشبت أزمة دول مجلس التعاون الخليجي، ولم يكن الغرب على وجه التحديد بريئاً منها كبراءة الذئب من دم يوسف…!
أذكر أنني ومجموعة من الأصدقاء كنا توجهنا الى سفارات دول الخليج في برلين المعنية بالأزمة رجوناهم فيها نقل طلبنا الى أُولي الأمر في دولهم نسألهم فيها الوعي والحكمة والعقل في إحتواء الأزمة بعدما بدأ التراشق الاعلامي ونشر الغسيل الوسخ والاتهامات المتبادلة وتجاهل الوجود القطري في بعض المحافل الدولية من قبل بعض دول الخليج التي لا يستفيد منها غير من يكرهنا ويتربص بنا…
التهادن والعلاقة مع ايران
لقد جاء تحسن العلاقة مع ايران تحصيل حاصل لازمة دول مجلس الخليج ومحاولة من قطر  لكسر الحصار السياسي والاقتصادي عليها من قبل السعودية والامارات والبحرين وسرعة الاستجابة الايرانية لذلك ووضع امكاناتها في دعم قطر ضد عدوها اللدود السعودية وحلفائها.

ملاحظات ختامية:

  • إن قطر هي واحدة من الدول العربية التي تعيش واقع التجزئة والفرقة والضعف والتناحر العربي والتنازعات وطموحات الهيمنة.
  • لقد حققت قطر وسياستها إنجازات كبيرة في نسبيتها على مستوى البناء والمشاريع والعلاقات الدولية وفي فترة قياسية من الزمن. فمؤسسة قناة الجزيرة وتنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم ومؤتمرات الحوار الدولية ما هي إلا أمثلة على نجاحاتها المحلية والدولية.
  • لم تكن قطر، وهي البلد الصغير، مثالاً للسياسة العربية الحالمة بواقع ومستقبل وردي لوحدة أبناء الأمة العربية ودولها، لكنها شكلت معادلة يصعب فهمها أحياناً كثيرة في غاياتها وتكتيكاتها.
  • إن إمارة قطر العربية لم تخرج عن عباءة قبائليتها في نظامها السياسي ومواقفها في حل خلافاتها ونزاعاتها. كما أنها لا تستطيع إنكار وقوفها مع جميع الحركات المؤيدة لخط الاخوان المسلمين.
  • لقطر مشاريع واعدة في التعليم وإدارة الاقتصاد ورؤية عربية جديرة بالدراسة والتمعن والتعامل الايجابي معها.
  • ليس من الممكن، وفي ظل الواقع الدولي والاقليمي، أن تكون قطر بلداً لا يخضع لهيمنة أو ابتزاز أحد، ولا أن تحمل عصاً سحرية لشق البحر والعبور إلى بر الحلم.
  • إذا كان لقطر وغيرها من الدول العربية، المتعاشقة مصيرياً ثقافةً ووجوداً، من أمل في مستقبل واعد وحياة كريمة فإنه يتوجب عليها وعي واقعها والعزم والصبرعلى تجاوز سلبياته في نكران ذات والعمل على نبذ الخلافات وحلها والتعاون على وقف الهدر والابتزاز لثرواتنا وقراءة تطورات موازين القوى الدولية لا بل والمساهمة في تسييرها لصالح مصالحنا الحيوية. فاذا كان اليوم لدينا نفط وغاز فإننا غداً لن نملك سوى عقولنا ونفوسنا وإرادتنا وهمومنا.
  • ان سياسة اللاعبين الكبار، والتي تصاغ لخدمة مصالحهم واستراتيجياتهم، والقائمة على زرع أو تشجيع خلافاتنا وبالتالي توزيع الادوار بينها لتامين تلك المصالح وتحقيق أهدافها من خلال معاداة هذا الطرف أو الوقوف مع ذاك ينبغي ان لا تستمر تنطلي علينا او نبقى عاجزين على مقاومتها. لم يعد من المقبول أن نستمر بتلك السطحية أو السذاجة والتناحر وتقزيم بعضنا. لقد كلفنا ذلك كثيراً ولا يزال!
  • لقد شكلت القضية الفلسطينية محوراً أساسياً في سياسات جميع الدول العربية على إختلافاتها، مبدئية وتكتيكية ووجدانية. وكانت القدس وما زالت القلب النابض الذي يلتف حوله الفلسطينيون والعرب والمسلمون. ولكي لا نكون كمن قال عنهم الله “تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى” نتأمل أن يجلس الرؤساء العرب في قمة الرياض القادمة (رغم كثير من الشكوك حول انعقادها وأهدافها وما يمكن أن تخرج بها في ظل الظروف الراهنة) وأن يتفقوا بوعي وصفاء نية وعزم وكرامة على موقف حازم مما يخطط تنفيذه من أمر القدس وفلسطين والعرب والمسلمين في زمن لا يحسدون عليه…إننا أمام إنعطاف تاريخي كبير لا نتملك فيه أوراقاً كثيرة!
  • ختاماً أقول: ليس لنا من حق في لعن الآخرين على ما نحن عليه، وإنما علينا أن نمتلك الشجاعة في محاسبة أنفسنا وشحذ هممها وكبح أنانيتها لكي لا نسمح ولا نشجع الآخرين على استغفالنا وسرقة ثرواتنا والاستهزاء بنا والضحك علينا، ولا يجب أن نرضى بضياع مستقبل أحفادنا.

اننا بحاجة إلى جهاد نفس ووعي وصبر ونكران ذات وعزم وعمل، ولذلك شروط أساسية تقوم على صون حقوق المواطن وكرامته وحريته وتعليمه ورعايته صحياً وتحقيق العدالة والتكافل الاجتماعي وهو ما يجب أن تتولاه إدارات سياسية واقتصادية وتربوية ناضجة وقادرة، أمينة ومخلصة.