عندما أحبّت أوروبا الإسلام

د. أمير حمد

في مقال لمجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، تحدثت الكاتبتان “ماريا حنون” و “صوفي سبان” عن تاريخ الإسلام والمسلمين في أوروبا، بالتحديد في أوروبا الغربية في دول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا في بداية القرن العشرين. وألقى المقال الضوء على المعاملة الجيدة التي لاقاها المسلمون من حكومات الدول الأوروبية، وكيف وصلت العلاقة بين المسلمين والأوروبيين إلى ما هي عليه اليوم.

تحدث المقال في بدايته عن مسجد “فيلمرسدورف” الواقع في جنوب غرب برلين، وذكر أن المسجد يبدو خارجيًّا كما كان عليه عندما تم بناؤه في عشرينات القرن الماضي، لكن الفرق هو تغير المؤسسة الدينية الموجودة بالمسجد. أصبح المسجد اليوم مكانًا هادئًا، فأصبح بمثابة مركز للمعلومات يزوره أطفال المدارس في رحلات ميدانية أحيانًا، ويستضيف حفلات غذاء تجمع الأديان المختلفة، ويقصده المسلمون بانتظام لأداء صلاة الجمعة.

وأشار المقال إلى تغيُّر حال المسجد كثيرًا عما كان عليه من قبل، إذ كان المسجد مركزًا حيويًّا لحركة الثقافة الروحية المضادة في الجمهورية الألمانية في عشرينات القرن الماضي، والتي كان يطلق عليها جمهورية فايمار. جذب المبشرون الأحمديون الهنديون الذين بنوا المسجد حشدًا كبيرًا من برلين، وألقوا محاضرات ناقشت الأسئلة الفلسفية الشائعة وقتها، وتناولوا مواضيع مثل الفجوة بين الحياة والعقيدة، ومستقبل أوروبا، ومستقبل البشرية بشكل عام. هذه المحاضرات كان لها أثر كبير في دخول عدد كبير من الألمان بمختلف أعمارهم في الإسلام.

أدارت البعثة الأحمدية مسجدًا آخر في أوروبا الغربية، وهو مسجد شاه جهان في ووكينغ، إنجلترا. جذب المسجد المهتدين للدخول في الإسلام من الطبقتين العليا والوسطى في بريطانيا، الذين لم يرضوا عن المسيحية والمجتمع الغربي الحديث. كان من بين المهتدين في ذلك الوقت، اللورد رولاند هيدلي، والذي دخل الإسلام عام 1913، وغيّر اسمه ليكون الشيخ رحمة الله الفاروق. أصبح اللورد هيدلي أشهر المهتدين البريطانيين للإسلام، وكتب عددًا من الكتب والمقالات عن الإسلام، حيث كان واثقًا بوجود مستقبل مجيد للإسلام في بريطانيا.

أشارت الكاتبتان أن النقاشات حول الإسلام في أوروبا الآن – حتى الدقيقة منها – تتناول الدين الإسلامي باعتباره ظاهرةً شائكةً جديدةً دخيلةً على الحياة الثقافية والسياسية الأوروبية. ولكن إذا نظرنا إلى فترة ما بعد الموجة الأولى من هجرة المسلمين إلى أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، سنجد أن العلاقة بين الإسلام وأوروبا كانت مختلفة تمام الاختلاف عما هي عليه الآن. في ذلك الوقت، اتسم المواطنون الأوروبيون بالفضول تجاه هذا الدين الجديد على ثقافتهم، كما قدمت الحكومات الأوروبية معاملة خاصة للمواطنين المسلمين. على سبيل المثال، أنفقت الحكومة الفرنسية العلمانية مبالغ كبيرة على بناء المساجد، وسعت ألمانيا إلى إثبات أفضلية معاملتها للمسلمين مقارنةً بفرنسا وبريطانيا.

رد فعل الحكومات الأوروبية تجاه الإسلام

أشار المقال أيضًا إلى أن الحكومات الأوروبية كذلك أظهرت تسامحًا كبيرًا تجاه الإسلام، الأمر الذي قد يدهش القراء المعاصرين. على سبيل المثال، خلال الحرب العالمية الأولى اعتمدت كل من فرنسا وبريطانيا على العديد من رعاياها المسلمين في ساحات القتال في أوروبا، وحصل أولئك المسلمون على قدرٍ كبيرٍ من الاهتمام، فكانوا يعطونهم وجبات أخرى بدلًا من لحم الخنزير والخمر. أما الحكومة الألمانية فبنت أول مسجد في بلادهم لاستيعاب الأسرى من الجنود المسلمين في فونسدورف ليُظهروا أن معاملتهم للمسلمين أفضل من معاملة البريطانيين والفرنسيين لهم.

وأوضح المقال أن الحكومات الأوروبية عملت بعد الحرب على استمالة المسلمين من خلال الإعلام، حيث قامت الحكومة الفرنسية في عام 1926، أي بعد أكثر من عقدين من تأكيد التزامها بالعلمانية، بتمويل بناء مسجد باريس الكبير، الأمر الذي أثار غضب الكاثوليك في البلاد. ظاهريًّا كان المسجد بمثابة تكريم للجنود المسلمين الذين حاربوا من أجل فرنسا. صرح مسئول بلدية باريس عام 1922 عند وضع حجر أساس المسجد أن المسلمين لم يترددوا في التضحية بحياتهم من أجل الحضارة، وأوضح أن المسجد كان تعبيرًا عن امتنان فرنسا للجنود المسلمين الذين سقطوا أثناء دفاعهم عن البلاد. لكن المؤرخين يرون أن بناء هذا المسجد دليلٌ على الدعاية الاستعمارية بهدف تعريف العالم بحكم الإمبراطورية الإسلامية في العالم الإسلامي.

مفارقة غريبة

في عام 1935، قامت الحكومة الفرنسية ببناء مستشفى مخصص للمسلمين في بلدية صغيرة شمال شرق باريس تُدعى بوبيني. قدم هذا المستشفى الطعام الحلال للمرضى، وصمم المبنى نفسه مهندسون فرنسيون على الطِراز المعماري الشمال أفريقي، بالإضافة لتزويده بقاعات للصلاة، ومدافن للمسلمين. لكن في الوقت ذاته، كان هذا المستشفى سببًا في إبعاد المسلمين عن عنابر المرضى العامة في باريس، تزامن ذلك مع إفصاح مواطنين فرنسيين عن مخاوفهم من أن العمال من شمال أفريقيا قد يحملون أمراضًا تناسلية خطيرة، فكان ذلك المستشفى دليلًا على عنصرية بعض الأوروبيين في كثير من الأحيان. بالإضافة إلى ذلك، كان هذا المستشفى مثالًا واضحًا على الأسلوب الذي اتبعته الحكومة الاستعمارية الفرنسية في ذلك الوقت، والذي يتمثل في تقديم خدمات للسكان المسلمين لكسب وُدّهم وإخضاعهم لسيطرة الدولة.

في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وأثناء الحرب نفسها، ازدادت جهود الدول الأوروبية لاستمالة المسلمين، حيث ساعدت بريطانيا في تمويل مسجدين في لندن، بينما حاول النازيون إقناع المسلمين خاصةً في أوروبا الشرقية بالانضمام لحربهم ضد السوفييت، حسبما ذكر المقال.

وألقى المقال الضوء على إحدى المفارقات، وهي أن تلك الفترة التي شهدت تودد المواطنين الأوروبيين وحكوماتهم إلى المسلمين والإسلام، تنبئ بمعاملة الإسلام في أوروبا الغربية اليوم، إذ إن الاهتمام المُوجّه للمسلمين لم يكن علامة على قبولهم، بل كان علامة على أنهم يمثلون تهديدًا للمصالح الوطنية.

نظرة للتاريخ

كان للحرب آثارها على مسجد فيلمرسدورف ببرلين، حيث تحول إلى ساعة معركة في نهاية الحرب العالمية الثانية أثناء الغزو الروسي لبرلين، حيث حُفرِت خنادق في حدائق المسجد، وأُطلِقت النيران من مآذن المسجد العالية، وأثناء القتال دُمِّرت واحدة من المآذن ولحق بالمسجد أضرار جسيمة. بالرغم من ترميم المسجد، إلا أنه لم يعد كما كان من قبل.

في ختام المقال، أكدت الكاتبتان أن دراستنا للتاريخ أمرٌ مهم لفهم علاقة الإسلام بأوروبا الغربية، فالحكومات الأوروبية في ظل سعيها لكسب ود السكان المسلمين، قد ساعدت بشكل ما في إرساء مفهوم الاختلاف الذي تشعر به أوروبا تجاه الإسلام اليوم.

وأضافتا أن تاريخ الإسلام والمسلمين في أوروبا الغربية هو أقدم وأكثر تعقيدًا وتشابكًا مما يعتقد الكثيرون، يجب علينا معرفة ذلك والاعتراف به، إذ إنه سيساعدنا على تصور مستقبل يُنظر فيه للمسلمين باعتبارهم جزءًا أساسيًّا من الحياة العامة في أوروبا، بدلًا من اعتبارهم دخلاء يشكلون تهديدًا على الحياة الأوروبي.

والآن .. ثقافة التخويف

تحدى حزب «البديل من أجل ألمانيا» العنصري، كل الأصوات التي تعتبر المسلمين في ألمانيا، جزءاً من المجتمع الألماني، وتسبب في تعميق مستوى الخلاف الشديد، بشأن الإسلام والمسلمين في ألمانيا، بعد تبني مؤتمر الحزب في برنامجه بنداً يعتبر فيه «الاسلام ليس جزءاً من ألمانيا» في غمرة حرب ثقافية وإعلامية داخلية (قديمة وحديثة) تدور بشأن قضايا الإسلام والمسلمين في نطاق الدولة الألمانية، وفشل الجهود كافة، الرامية إلى إزالة شعور الكراهية الذي يستهدف جميع المسلمين في ألمانيا، وخاصة في أوساط الأحزاب وقوى المجتمع العنصرية والنازية.

وعلى رغم أن مواقف حزب «البديل من أجل ألمانيا» المتشددة والعنصرية جدا ضد الإسلام والمسلمين في البلاد، استقطبت كوادر وقواعد وجماهير الأحزاب والمنظمات والقوى العنصرية والمناهضة للهجرة بشكل واسع النطاق، فإنها من جهة أخرى وحَّدت بصورة أوسع شمل الأحزاب والقوى اليمينية المعتدلة والوسطية واليسارية والعلمانية، التي عرفت تاريخًا طويلاً من مواقف التضامن المرتكزة على قواعد القيم والمثل والمبادئ الإنسانية.

ولا يعد هذا النقاش جديداً، إذ قال الرئيس الألماني السابق كريستيان فولف في عام 2010 إن “الإسلام جزء من ألمانيا، تماماً مثل اليهودية والمسيحية”، ثم عادت وقالت المستشارة أنجيلا ميركل العبارة نفسها مطلع العام الماضي، وتعرضت لانتقادات حتى من داخل حزبها.

الإسلام ينتمي لأسس الثقافة الأوروبية والألمانية

هذا وقد اعتبر المؤرخ الألماني ميشائيل بورغولته، المتخصص في حقبة العصور الوسطى، أن العلماء المسلمين ساهموا بشكل كبير في فهم الفلسفة اليونانية وتقدم العلوم الطبيعة، وإيصالها إلى أوروبا.

وأوضح بورغولته في لقاء له مع موقع قنطرة رداً على سؤال حول اعتبار حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني الشعبوي أن الإسلامَ ليس جزءاً من ألمانيا، أن الحزب المذكور ليس الوحيد الذي يجادل في هذا الشأن، بل إن سياسيين آخرين يعتبرون المسلمين جزءاً من ألمانيا لكن ليس الإسلام في حد ذاته، واصفاً هذا الجدال بأنه غير مفيد، موضحاً أنه كمؤرخ متخصص في العصور الوسطى عليه أن يعكس الأولويات ويقول إنه ليس المسلمين من ينتمون لألمانيا وإنما الإسلام ينتمي لأسس الثقافة الأوروبية والألمانية.

وأكد بورغولته الذي يعمل أستاذاً بجامعة “هومبولدت” في برلين، أنه من دون الإسلام لما كان هناك “مدرسية ” أو جامعات أو علوم على النحو الذي عليه في وقتنا الحاضر، مبيناً أنه من دون إيصال الممتلكات الثقافية القديمة عبر المسلمين واليهود لما كان هناك صعود للغرب الأوروبي منذ أوج العصور الوسطى، مؤكداً أنهم مازالوا يستفيدون اليوم من العلماء المسلمين.

والآن .. لماذا يخاف رجل الشارع الأوروبي من الإسلام ؟

لا توجد إجابة على ذلك سوى أن التيارات اليمينية المتطرفة قد نجحت في جعل المواطن الأوربي يخشى على ما يسمى ثقافته أو منجزاته الحضارية والدستورية والحقوقية من هجمة ظلامية تدعو إلى ختان الإناث وقطع يد السارق وذبح الآخرين وإقامة الحدود عليهم في الشوارع ، وهذا للأسف فهمهم للإسلام.  

كما أن صمت العالم الإسلامي وضعف الجاليات العربية والإسلامية في توضيح حقيقة هذا الدين والوقوف في وجه من يسبه ويسب رموزه، كما تفعل الجاليات اليهودية في كل من يقترب من ” الهولوكوست”، فتح المجال أمام المزيد من المكتسبات لهؤلاء ليخوضوا المزيد من معارك الترهيب والتخويف من الإسلام وهم مطمئنون إلى ضعف الرد الذي لن يتجاوز بعض “الجعجعة” هنا أو هناك، ودعوة إلى مقاطعة منتجات دولة لا تستمر إلا لعدة أيام،  يعود بعدها إخواننا ” الأثرياء العرب” إلى السفر لأوروبا لقضاء الأوقات الممتعة أو ترك ودائع مالية في بنوك هذه الدول.

الانفتاح على الآخر

علينا أن نعرف أن هناك نظرة سلبية للإسلام والمسلمين في المجتمع، جانب كبير منها ناجم عن عدم فهم الآخر بسبب الانعزال عن الحياة في مجتمع جديد أو لضعف الجهد في شرح طبيعة منظومة القيم والأخلاقيات التي تحكم حياة المسلم بأسلوب يتفهمه الآخر ويحترمه حتى وإن اختلف معه.

إن نموذج الاختلاط بالمجتمع الغربي دون خوف هو أفضل النماذج، وهو ما يكسب المسلم احترام الآخرين ويعطي دليلاً على مدى قوة وثبات المعتقد والهوية دون خوف من انهيار أو اضمحلال أو ذوبان في ثقافة ، وما أضاع هيبة العرب والمسلمين إلا نحن بتخاذلنا وضعف حجتنا أمام الآخر فضلاً عن رضانا بالذل والمهانة وتهميشنا في اتخاذ القرار حتى داخل بلادنا.

لابد وأن نعترف بأن المشكلة فينا نحن كعرب ومسلمين، فنحن نظراً لحالة القمع التي تشهدها كافة الدول العربية وأغلب الدول الإسلامية لم نعتد على قبول، بل ونتعجب من مثل هذه القرارات التي تتخذها وتعتمدها الحكومات بناء على تصويت المواطن، حتى وإن تسببت لها في أزمات دبلوماسية أو اقتصادية، فالمواطن هنا هو صاحب الحق والقرار الأول والأخير في إرساء ما يشاء من قوانين أو اتفاقات هامة تمس حياته دون أن تمارس الدولة أي سلطة أبوية عليه باعتباره “غير ناضج ديمقراطيا”، كما يقول بعض حكام العرب، أو أنه غير مستعد بعد لاتخاذ قرارات حاسمة تتعلق بحياته اليومية كما يقول السادة  خبراء  تزوير الانتخابات .. أي انتخابات مهما كانت صغيرة حتى وإن كانت لنادي كرة قدم في قرية !!

.