“عملاء” بوتين في الاتحاد الأوروبي

سامي عمارة /

ما إن يحتدم الجدل حول علاقات روسيا مع الدول الأوروبية حتى ترتفع الأصوات بحثاً عمن يسمونهم بعملاء بوتين في أوروبا. على أن ذلك لا ينفي أن القصة ذات جذور قديمة، منها ما يعود إلى نهايات القرن الـ19 ومطلع القرن الماضي، يوم راح المستشار الألماني التاريخي بيسمارك يحذر من تجاهل مصالح روسيا وعلاقات التعاون معها، مما كان في صدارة أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى.

ولروسيا مصالحها التي تحتم على جيرانها مراعاتها، والالتزام بما لا يهدد أمنها، وذلك ما كان ولا يزال يطالب به الرئيس فلاديمير بوتين، منذ ما قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، وهو ما سبق وحذر منه في خطابه الذي ألقاه في مؤتمر الأمن الأوروبي في ميونيخ 2007.

وإذا كان العالم يحشد قواه اليوم ضد روسيا، على اعتبار أنها “تجنح نحو تحقيق أطماعها التوسعية”، وأن هناك ما يشبه الإجماع حول ” ديكتاتورية بوتين”، وما يصفه بعضهم بـ”أطماعه” في الجوار القريب، فإن هناك في موسكو من يستعيد ما سبق وقاله بيسمارك حول أن “الكذب يكثر عادة قبل الانتخابات، وخلال الحرب، وبعد الصيد”، وأن “كثرة العدد ليست بدليل على الصواب وإلا كان تسعة حمير يفهمون أكثر مني ومنك”.

أما عن الأبعاد والدلالات فكانت ولا تزال قائمة، في إطار ضرورة مراعاة مصالح روسيا، والتركيز على ما يجمع كل الأطراف المعنية، من منظور التكافؤ والمنفعة المتبادلة، وهو ما سبق وأودعه بوتين مذكرته التي بعث بها إلى كل من الناتو والإدارة الأميركية في نهاية عام 2021.

ومن هذا المنطلق تستقبل الأوساط السياسية والاجتماعية في روسيا ما يتدفق من “اتهامات” و”مزاعم” حول أن عدد “عملاء” بوتين في أوروبا في تزايد مستمر، حتى إن هناك من يشير إلى أن عددهم في ألمانيا وحدها يزيد على 2000 عميل، بحسب تقديرات صحيفة “آر بي كي” الأوكرانية.

حلفاء روسيا السريين

وها هو بيدرو سانشيز رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن “حلفاء سريين لروسيا في أوروبا”. ونقلت المصادر الرسمية ما قاله سانشيز في الدورة الحالية للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس حول وجود “عديد من الحلفاء في أوروبا الذين يخفون الآن تعاطفهم وعلاقاتهم مع بوتين، لكنهم زاروه قبل عام واحد فقط، وأشادوا بأساليبه”. وناشد رئيس الحكومة الإسبانية نظراءه وسامعيه بضرورة “الحيلولة دون تسلل هذه القوى السياسية إلى الهيئات القيادية للدول والحكومات”، سعياً وراء الحد من مخاطر تدمير الاتحاد الأوروبي من الداخل”.

ولم يفصح المسؤول الإسباني الكبير عن شخصيات بعينها، إلا أن ما قاله حول بلدان تتمتع فيها قوى اليمين “المتطرف” بدعم الأحزاب المحافظة الرئيسة، قد يكون كافياً، إلى التوقف بكثير من الاهتمام عند فيكتور أوربان رئيس الحكومة المجرية، وآخرين في بلدان شرق أوروبا ممن تتطاير الاتهامات بحقهم، وما يقال حول تعاونهم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ويذكر المراقبون ما سبق وأعلنه أوربان حول رفضه لكثير من الأفكار والشعارات، بل والقرارات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي، حول “الهجرة” و”المثلية الجنسية”، وتغيير المناهج الدراسية في الاتجاه الذي يبتعد بالمجتمعات عن صحيح العقيدة الدينية، والمثل والقيم والعادات والتقاليد المحافظة.

ويذكرون أيضاً تماهي مواقف أوربان وعدد من القيادات الأوروبية والشرقية، مع ما يرفعه بوتين من شعارات، وما سنه من قوانين وتعديلات دستورية تؤكد التوجهات ذاتها، بل وبلغ الأمر ببعض القيادات ورؤساء الدول والحكومات وممثلي المنظمات المحلية والدولية، إلى اتهام أوربان بأنه “حصان طروادة” بين بلدان الاتحاد الأوروبي. وقالوا “إن أطروحات أوربان حول “نقاء الأمة المجرية” تلقي الضوء تماماً عليه كشخص، لا يقف بمعزل عن الصراعات، لكنه يروج لأفكار بوتين”، بل وثمة من وصفه بأنه “عميل بوتين داخل أوروبا”.

ولعله من الغريب أن تتعالى الأصوات باتهام بوتين بـ”الفاشية” و”النازية”، في الوقت الذي كان فيه بوتين أعلن ضمن صدارة أهدافه من “العملية العسكرية الروسية الخاصة” في أوكرانيا، اجتثاث الفاشية وتصفية النازيين الجدد هناك. وفي هذا الصدد نقلت المصادر الرسمية في بودابست عن رئيس الحكومة المجرية، ما قاله حول أنه “ينحاز إلى مصالح المجر والمجريين”، رداً على سؤال حول “إلى جانب من يقف أوربان في النزاع الروسي – الأوكراني؟ هل هو مع موسكو، أم إلى جانب كييف؟”. وأضاف أيضاً أنه “من الضروري التفاوض مع بوتين، وعدم الانحياز إلى جانب أوكرانيا”.

الدفاتر القديمة

ومن المجر إلى ألمانيا ننتقل “لنفتش في الدفاتر القديمة” لوزير الدفاع الألماني الجديد، بحسب ما يتردد اليوم بحق من صاروا يسمونه بـ”رجل بوتين في ألمانيا”. وكانت صحيفة “بيلد” الألمانية أشارت إلى خلافات تحتدم حول بوريس بيستوريوس الذي تولى رسمياً بعد منصب وزير الدفاع، وهو الذي سبق وانتقد العقوبات المفروضة ضد روسيا. وأشار إلى أنها تلحق الضرر بالمصالح الألمانية. كما نقل عنه ما قاله في حديث إلى صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ”، “يجب أن يكون هذا سبباً لمراجعة العقوبات، فإذا لم تحقق الأهداف المرجوة منها، فمن الواجب أن تسأل نفسك، عما إذا كان قد تم اختيار الأدوات المناسبة”.

وينقلون عن بيستوريوس ما دعا إليه بعد انفجار الأزمة الأوكرانية في عام 2014، بعد إعادة توحيد شبه جزيرة القرم مع روسيا، “إلى تكثيف التعاون بين المدينتين في البلدين”.

ونقلت صحيفة “بيلد” عن وكالات الأمن الألمانية ما قالته حول أن “لديها الآن رسمياً نحو 200 عميل سري روسي يعملون في ألمانيا، لكن العدد الإجمالي لجواسيس بوتين في هذا البلد ربما يكون أعلى من ذلك بكثير”. ومضت لتشير إلى “حجم الأنشطة العدوانية للاستخبارات الروسية في جميع أنحاء أوروبا”، إلى جانب ما حذر منه الرئيس السابق للاستخبارات البريطانية جون سوير بقوله، “نعرف عشرة في المئة فقط مما يفعلونه، ومما يجمعونه من معلومات عن السياسيين والمديرين التنفيذيين للشركات ومنتقدي روسيا ونقلها إلى الكرملين”.

أما خبير الشؤون الداخلية في الحزب الديمقراطي الاجتماعي، فقد أشار إلى أن هناك هدفاً آخر هو زعزعة استقرار الوضع بين المواطنين الألمان، وأن بوتين “سيسمح لجواسيسه ببذل كل ما هو ممكن لدق إسفين في مجتمعنا”.

وفي هذا الصدد أشارت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، في أحد أعدادها السابقة إلى أن بوتين يعزز مكانة الشركات الروسية الكبيرة المملوكة للدولة، من خلال تعيين أسماء كبيرة من المتقاعدين في السياسة الأوروبية، على غرار غيرهارد شرودر المستشار الألماني الأسبق وآخرين ممن اتخذوا ويتخذون مواقف مؤيدة للسياسات الروسية، ومناهضة لما يصدر ضد روسيا من عقوبات.

أسماء مرموقة

ومن الأسماء ذات التاريخ المرموق والشهرة العالمية ممن يتهمونهم بالوقوع في شباك بوتين، غيرهارد شرودر، الذي يرتبط منذ سنوات طويلة بعلاقات صداقة شخصية مع الرئيس الروسي، منذ مطلع القرن الحالي. وكان بوتين أسهم في تعيينه بعد رحيله عن منصبه السامي على رأس المستشارية الألمانية، مديراً تنفيذياً لمشروع “التيار الشمالي-2”.

ويذكر المراقبون أن شرودر تعرض لكثير من الملاحقات والمضايقات بسبب علاقته مع بوتين، بل وبلغ الأمر بالسلطات الألمانية إلى تجريده كثيراً من امتيازاته المستحقة رسمياً للمستشار المتقاعد بسبب علاقاته بروسيا، ومنها مكتبه والطاقم المساعد له، فضلاً عما اتخذه البرلمان الأوروبي بحقه من عقوبات.

ومن الأسماء التي أشارت إليها “لوفيغارو”، فرانسوا فيون، رئيس وزراء فرنسا الأسبق الذي جرى ترشيحه لمجلس إدارة “زاروبيج نفط”، وهي مجموعة نفطية مملوكة بالكامل للدولة الروسية، بقرار من جانب الحكومة الروسية، بحسب إيزابيل لاسر كاتبة المقالة. وكانت لاسر أشارت أيضاً إلى أسماء عدد من أبرز الشخصيات النمساوية والألمانية، ممن جرى ترشيحهم لكثير من المناصب القيادية في المشاريع الاقتصادية والسياسية الروسية. ومن هؤلاء فولفغانغ شوسيل، المستشار النمساوي السابق (2000-2007) الذي جرى تعيينه في مجلس إدارة “لوك أويل” إحدى أكبر الشركات النفطية في روسيا في عام 2019، ووزيرة الخارجية السابقة (2017-2019) كارين كنيسل، التي حضر فلاديمير بوتين حفل زفافها في عام 2018، وكانت عينت في مجلس إدارة أكبر شركات النفط الروسية “روس نفط”.

ولعله من الطريف في هذا الصدد التوقف للإشارة إلى أن ما يفعله بوتين وما تقدم عليه مثل تلك الشخصيات آنفة الذكر من نشاط وما يربطها بروسيا من علاقات، لا يمكن أن يكون “تجنيداً” أو “عمالة” على حد وصف كثيرين من ممثلي الأوساط الأوروبية والغربية، بقدر ما هو وبحسب تقديرات مراقبين كثر، شكل من أشكال التعاون المتبادل، كثيراً ما تلجأ إليه بلدان كثيرة، سواء المتقدمة منها، أو من بلدان “العالم الثالث”.

ولأن الأمر على هذا النحو لا يمكن أن يكون في جوهره، “عمالة” أو “تجنيداً”، لكنه قد يكون وفي حقيقة مضمونه ودلالاته، شكلاً من أشكال “الفساد الذي يجرى تقنينه” وتطويعه على النحو الذي تقره الدول الغربية الكبرى منذ عقود طويلة، ومنها الولايات المتحدة، وغيرها من الدول الأوروبية.

ومن الممكن الاستشهاد في هذا الصدد بكثيرين من رموز السلطة وصناعة القرار في هذه البلدان، ممن يتبوؤون اليوم أعلى المناصب الوزارية والحكومية، قادمين من عضوية ورئاسة مجالس إدارات كبرى الشركات النفطية والمؤسسات الصناعية العسكرية، أو العكس.

أما عما فعلته وتفعله روسيا في هذا الشأن، فهو وبحسب تقدير مراقبين أوروبيين، يبدو أقرب إلى محاولات تعزير مكانة ودائرة اتصالات كبرى الشركات الروسية الحكومية وشبه الحكومية، بأسماء ونفوذ شخصيات عالمية من ذوي الحيثيات والمكانة الدولية المرموقة، على غرار ما يفعله اليوم وعلى مدى سنوات طويلة توني بلير رئيس الحكومة البريطانية الأسبق، والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، وما كان يفعله حتى الأمس القريب الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف.

سامي عمارة ـ كاتب وصحفي**

.