صناعة الموت حول العالم

د. محمد حبش /

لا يعرف في تاريخ الإسلام العمل الانتحاري بهذه الصورة المروعة التي أصبحنا نشاهدها كل يوم، وهي تضرب في كل الاتجاهات مسلمين ومسيحيين ، عرب وكرد ، شرقيين وغربيين وكثير من الأبرياء.

فما هي المؤيدات الشرعية التي تقنع هؤلاء بالذهاب إلى الموت بهذه الطريقة الوحشية الدامية؟

التوصيف الفقهي السريع للعمل الانتحاري بالإجماع هو أنه بدعة منكرة كسائر البدع، ولست أدري لماذا قعد الفقهاء المعاصرون عن مواجهة هذه البدعة المنكرة بما ينبغي، رغم أنهم يغضبون بشدة لبدع في الدين مثل بناء قبة على قبر أو الصلاة على النبي بعد الأذان أو إقامة الموالد، أو إخراج اللسان أثناء الصيام وغير ذلك من البدع التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

فلا يمكن تبرير ذلك بأي من مؤامرات لعبة الأمم، ولا يمكن إقناع أحد بأن الانتحاري تلقى أمراً من أمريكا أو الصهيونية العالمية، ولا يمكن القول بأنه عميل للسي اي إيه أو لكي جي بي أو للسافاك أو الموساد، فمن البديهي أن من يختار الموت لا بد أن يكون هازئاً بكل هذه الهياكل التي قادها الشيطان على قدر خيباتنا، ولا يمكن القول إنه تيسر له من يدفع أكثر، أو يمنحه مناصب كبيرة، فالموت هو لعبة الحياة الوحيدة التي لا يؤثر فيها بريق الذهب والفضة ولا يغري فيها الوعد بالمناصب والرتب، ولا تنفع معها كل نوازع الإغراء.

ولكن الانتحاري اليوم وهو يمارس لعبة الموت في سوق أو مدرسة أو مسجد لا يحمل أي تبرير أخلاقي لقتل الأبرياء، وحين قام الانتحاري بتفجير مسجد شيعي بأفغانستان صرخ بأعلى صوته مع رسول الله في الجنة !! وكأن الرسول الكريم ينتظر ضيفه على أشلاء الأبرياء وجثث الموتى !! ونحن نبرئ الرسول الكريم من هذا الوهم الإجرامي، ولكننا نطرح السؤال الأكثر رهبة ومسؤولية ودهشاً أن القادم على الله يفترض فيه أن يقدم ظاهر اليد والكف واللسان، وإلا فأي معنى لذهابه إلى الموت وهو ملطخ بدماء الأبرياء، وكيف أمكن إقناع هؤلاء الانتحاريين بممارسة الموت مع مئات الناس الذين لا ذنب لهم إلا أنهم وجدوا في المكان الخطأ.

إن الفكرة يتم توليدها عبر خطاب انفعالي يمارسه الوعاظ بانتظام، ويتولى تحقير الدنيا كلها في عين الراغب بالجنة، وتشمل الدنيا الحقيرة الملعونة هنا كل إنجازات البشر في العلوم والاقتصاد والصحة والسلام، وكل المشهد الحضاري بين طوكيو ولوس انجلوس بما فيها من أبراج ومصانع وجامعات، ويمضي الوعظ التقليدي المنتشر في آلاف المساجد إلى الإصرار على التعبير عن الدنيا بأنها ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله، وأنها دار الفناء وأنها سجن المؤمن وأنها دار البلاء والشقاء والزور، وأنها متاع الغرور.

ولكن أشد قواعد الاستهتار بالحياة وتبرير القتل العابث يتم استيرادها من رواية بالغة الخطورة وردت في حديث متفق عليه رواه البخاري ومسلم وهو حديث طويل مروي عن عائشة وفي خاتمته: يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم قالت ، قلت: يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ فقال: يبعثون على نياتهم.

وهذه العبارة (يبعثون على نياتهم) يتم الترويج لها بأكبر قدر من الهيبة والرهبة، وهي ذائعة الصيت في المجموعات الانتحارية، والمقصود أن أولئك الذين تأخذهم عصا الموت العابث وهم بدون ذنب، سرعان ما يقدمون على الله فيبعثهم على نياتهم، فإن كان محسناً فخير تقدمونه إليه وإن كان مسيئاً فشر ترفعونه عن الأرض.

وهكذا فإن غاية ما قام به الانتحاري هو أنه عجل المصائر المرحومة والملعونة، وأنه أهلك الظالمين ويسر للصالحين سبيل الخلاص من الدنيا المذمومة الملعونة المحتقرة إلى دار العدل والإحسان والحور والنور.

وهكذا يقدم الانتحاري على الموت بلا وخزة  ضمير، فهو قد أشرك الناس في مصيره، وهو يخلص الأرض من الأشرار الذين يستحقون عقوبة الموت، كما أنه يساعد الأخيار منهم على الوصول إلى العالم الحقيقي.

ومع أن العبارة الواردة في الحديث يمكن تبريرها بألف سبيل وهي جواب المؤمن في الأقدار القاسية حيث لا عزاء إلا في التماس العدالة في الدار الآخرة، ولكن سائر فرق الجهاديين تعتبرها مدخلاً لصناعة الموت، وتبريراً لقتل الأبرياء، ومساعدة لهم في الوصول السريع إلى الجنة !!

لا تقنع هذه السذاجة أحداً بالطبع، ولكنها كافية تماماً لتفريغ أي وخزة ضمير من الدماغ الانتحاري الهائج، وكذلك فريق الموت الذي يعد له الطريق الدامية من الجثث.

قد يكون في هذا المقال بعض من وصف راهن للموت الدموي، ولكنه لا يقدم حلولاً لهذه الكارثة التي صارت وللأسف أكثر ما يطبع حياتنا البائسة في هذا الشرق التعيس.

قناعتي أن ثقافة الموت التي غمرت خطابنا الديني الانفعالي خلال عقود تحتاج إلى مراجعة جذرية، وأن نقاوم ثقافة الموت بثقافة الحياة، وصناعة اليأس بصناعة الأمل، وأن نفرق بين تكريم الشهيد البريء المدافع عن أهله وعرضه، وبين القتيل الغازي، الهالك في طموحه العاثر، والذي لم يعد بالإمكان تبرير مغامراته الدامية المجنونة بأنها جهاد أو تضحية.

علينا أن نتوقف عن تقديم الإغواء بالموت في سبيل الله، وأن نعود إلى منطق القرآن الذي يحترم الدارين: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة … وأن نؤسس لخطاب إسلامي عقلاني طافح بالأمل يروج العيش في سبيل الله، والحياة في سبيل الله،  والعمل في سبيل الله.

.