دروس ازدواجية المعايير الغربية

الدليل ـ برلين

اتسع الشرخ بين الغرب ودول الجنوب العالمي بشكل غير مسبوق بسبب حرب غزة، هذا الشرخ بدأ قبل سنوات، وازداد مع اندلاع حرب أوكرانيا وضغوط الغرب على دول الجنوب لإدانة روسيا وكذلك الابتعاد عن الصين.

ولكن العدوان الإسرائيلي على غزة، يكسب الخلاف طابعاً إنسانياً، ويعيد للأذهان في العالم الثالث الدور الاستعماري الغربي.

ولم يكن من الغريب أن تكون أكثر دول الجنوب تحركاً هي أشدها معاناة من الاحتلال والعنصرية مثل جنوب أفريقيا وبوليفيا أحد البلدان القليلة في العالم، الذي ما زال أغلب سكانه من الهنود الحمر، وهم الذين تعرضوا للإبادة في الأمريكتين على يد المستعمرين والمستوطنين البيض.

ومع تواصل الحرب التي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة، كثف العديد من زعماء دول الجنوب العالمي، بما في ذلك دول من أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، انتقاداتهم للحكومة الإسرائيلية، وأقدم بعضهم على خطوات لم تقدم عليها الدول العربية والإسلامية المطبعة مع إسرائيل مثل قطع العلاقات الدبلوماسية أو سحب السفراء.

تكشف حرب غزة عن الصدع المتزايد بين الغرب من جهة ودول الجنوب العالمي من جهة أخرى؛ حيث ظهرت الولايات المتحدة وحلفاء محدودون معزولون عن الإجماع الدولي الذي عبر عنه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الداعي لوقف الحرب، والذي وافقت عليه 120 دولة، وعارضته الولايات المتحدة و13 دولة أخرى، فيما امتنع عن التصويت 45 دولة أغلبها أوروبية.

وسبق أن كشف غزو روسيا لأوكرانيا أن غالبية دول الجنوب العالمي لم تعد متماهية مع سياسات أمريكا وحلفائها الغربيين؛ حيث اتخذت دول مثل الهند والبرازيل ودول أفريقيا وغالبية الدول العربية والإسلامية موقفاً محايداً من الصراع، أو على الأقل رفضت الانضمام للعقوبات الغربية مع روسيا، حتى لو أدانت غزو روسيا لأراضي أوكرانيا.

يرى العديد من دول الجنوب العالمي أن موقف الغرب من حرب غزة مقارنة بحرب أوكرانيا، هو دليل على أن الغرب يطبق القواعد الدولية بشكل انتقائي وفقاً لمصالحه، حسب منصة “أسباب”.

وسيكون لهذا التناقض أضرار بعيدة المدى على النظام الدولي ومصداقية المزاعم الغربية حول الالتزام بـ”النظام القائم على القواعد”، وهي العبارة المركزية التي تستشهد بها أمريكا وأوروبا لحشد الدعم ضد روسيا والصين.

فلم يعُد من حق الغرب وعظ العالم الثالث الآن، بشأن حقوق الإنسان والقانون الدولي الذي تعرّض لانتهاك شديد الفجاجة في حرب غزة بمباركة غربية صادمة.

بالإضافة لذلك؛ أدى الموقف الغربي من حرب غزة إلى زيادة الاستياء من بنية النظام الدولي القائم على مؤسسات مثل مجلس الأمن الدولي، في ظل غياب أي تمثيل لأفريقيا وأمريكا اللاتينية بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وقدرة الولايات المتحدة بمفردها على تحدي الأغلبية الدولية من خلال حق النقض.

لذلك؛ فإن موقف واشنطن في حـرب غزة من المتوقع أن يساهم في تقويض مكانتها الدولية ولو قليلاً، ويدفع المزيد من دول الجنوب العالمي إلى البحث عن بدائل أخرى لتعزيز مصالحها، خاصة الصين وروسيا الخصمين الاستراتيجيين للولايات المتحدة، والمنظمات المتعددة الأطراف مثل مجموعة بريكس، فضلاً عن تطوير العلاقات البينية بين دول الجنوب نفسها وبعضها البعض، خاصة القوى المتوسطة مثل الهند وتركيا والبرازيل وجنوب أفريقيا.

يمكن القول إن الخلاف بين الغرب ودول الجنوب الرئيسية أعطى شرعية أخلاقية لمساعي دول الجنوب للتقارب مع الصين، وروسيا، بعدما كان الغرب يحارب هذا التقارب بشعاراته الأخلاقية التي تدين ديكتاتورية الصين ووحشية روسيا ومخالفتها للقانون الدولي وهي دعاية قد يكون قد تركت بعض التأثير في دول جنوبية ديمقراطية مثل دول أمريكا اللاتينية أو إندونيسيا أو جنوب أفريقيا.

وعلى الرغم من أن قرارات القمة العربية الإسلامية الطارئة لم تلبِّ تطلعات شعوب 57 دولة شاركت فيها، إلا أنها تظهر تضامن تلك الدول فيما بينها لاتخاذ مواقف سياسية تعارض مباشرة السياسة الأمريكية والغربية إزاء حـرب غزة، وهو اتجاه من المرجح أن يتعزز مستقبلاً.

يشير موقف الصين وروسيا من حـرب غزة إلى حرص الجانبين على الاستفادة من الحرب لتعزيز دوريهما كقوى دولية بديلة للقيادة الأمريكية المنحازة وغير الناجحة، وبالتالي حاجة العالم إلى نظام دولي بديل، متعدد الأقطاب، وغير خاضع للهيمنة الغربية.

لم يوفر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أي فرصة لوعظ الغرب وتحديداً الولايات المتحدة حول ازدواجية معاييرها وتسببها في تفاقم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

بينما وفرت أزمة غزة للصين فرصة لإثبات أن لديها أوراقاً ضد واشنطن مثلما تفعل الأخيرة في تايوان وغيرها، كما فقدت اتهامات واشنطن لبكين باضطهاد الإيغور، تأثيرها في ظل إشراف واشنطن على المذبحة المروعة التي تتم في غزة أمام الكاميرات.

لن تمثل حرب غزة نهاية مفترضة للنظام الدولي القائم ولكنها أظهرت عوراته، كما أضعفت المزاعم الأخلاقية للغرب في خلال سعيها لمحاصرة الصين وروسيا، وأبعاد دول العالم الثالث عنهما، وهي مسألة ذات أهمية في عملية ترتيب شكل العالم في السنوات القادمة.

كما أن ازدواجية المعايير الغربية في الصراع أعطت شرعية كبيرة لانتقادات بكين وموسكو ومعهما كثير من دول جنوب العالم الرئيسية لهيمنة الغرب على النظام العالمي والمؤسسات الدولية، كما أن الجانب الأقل شهرة في نتائج الأزمة هو التغيير الذي أحدثته لدى الشعوب خاصة الشباب.

وأعادت الأزمة إظهار الوجه الاستعماري العنصري للغرب، الذي حاول التخلص منه خلال السنوات الماضية (رغم أن قواته كانت تحتل العراق وأفغانستان وسوريا حتى سنوات خلت)،  وباتت وصمة العنصرية والاستعمار تطارد الغرب مثلما كان الأمر في الخمسينيات والستينيات، وهو الأمر بالتأكيد سيساعد الصين المسلحة بقوة اقتصادية صاعدة ومعها روسيا في مساعيها لخلق نظام دولي منافس للنظام الذي يسيطر عليه الغرب.

هذا وقد وحذّر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل  من أن التكتل يواجه مشاعر “عداء متزايدة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي بل خارجه أيضاً”، بسبب اتهامات بالتحيز لإسرائيل وازدواجية المعايير بشأن الحرب في غزة.

وقال بوريل إنه يخشى أن يؤدي مثل هذا الشعور بالمرارة إلى تقويض الدعم الدبلوماسي لأوكرانيا في جنوب العالم وإضعاف قدرة الاتحاد الأوروبي على الإصرار على بنود حقوق الإنسان في الاتفاقيات الدولية.

وأضاف أنه يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يبدي “المزيد من التعاطف” إزاء ما يتكبده المدنيون الفلسطينيون من “خسائر في الأرواح” بسبب العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة.