حركة مواطني الرايخ والانقلاب المزعوم

أحمد الجمال /

في مقال نشرته “فورين بوليسي” ربط فيه بين “حركة مواطني الرايخ” وبين نظريات المؤامرة الرائجة في صفوف أنصار دونالد ترمب، كتب لوسيان ستايانو-دانيالز، الباحث المتخصص في التاريخ العسكري، تحليلاً عن خلفيات اعتقال السلطات الألمانية في السابع من الشهر الجاري 25 شخصاً على الأقل بتهمة التآمر لاقتحام البرلمان الألماني ومهاجمة الشبكة الكهربائية الألمانية وقلب حكومة برلين، مع اتهام 25 شخصاً غيرهم بالمشاركة في المؤامرة.

ورأى الكاتب أن المتهمين خططوا للهجوم منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 بوحي من الهجوم الفاشل الذي نفذه يمينيون متطرفون مؤيدون للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب على مقر الكونغرس الأميركي في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021. وفي المقابل، لم يكن المخطط الألماني محض “محاكاة محلية لأصل أميركي”، بل مزج المستوحى من أميركا مع أفكار محلية، ومرد ذلك أن تلك “المجموعة ألمانية تماماً ومتجذرة في تفسير غريب للتاريخ الألماني”.

ولفت الكاتب نفسه إلى أن التقاطع بين عناصر محلية وعالمية تشكل إحدى سمات التطرف اليميني الألماني، بالتالي فمن الممكن أن يولّد نتائج غير متوقعة. وأضاف، “من بين تلك الروابط العالمية، تُعَد نظريات مؤامرة كثيرة، يسارية متطرفة ويمينية متطرفة على حد سواء، جزءاً من المساحة الفكرية لحركة “كيو آنون” [حركة يمينية متطرفة في الولايات المتحدة]. بالتالي، ليست نظريات المؤامرة الألمانية استثناء”.

وأشار الكاتب أيضاً إلى أن المتآمرين الألمان يسمون أنفسهم  Reichsbűrger “مواطني الرايخ” في إشارة إلى الرايخ الثاني، أي الإمبراطورية الألمانية التي استمرت بين عامي 1871 و1918. وامتدت تلك الإمبراطورية بين إرساء الوحدة الألمانية وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى.

وتذكيراً، يُروّج أنصار “حركة مواطني الرايخ” لعقيدتهم منذ سبعينيات القرن العشرين، حين بادر إلى نشرها مانفريد رودر، القانوني الذي كان ينفي حدوث الهولوكوست، بغرض إحياء النازية وألمانيا الإمبريالية السابقة للنازية في آن.

وأشار الكاتب إلى أن المتآمرين الألمان يعتبرون الحكومة الألمانية الحديثة امتداداً مستمراً لسلطات الاحتلال التي أقامها الحلفاء في ألمانيا عقب هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.

بالتالي، تعبّر أفكارهم عن حنين إلى الرايخ الثاني [الإمبراطورية الألمانية] والرايخ الثالث (ألمانيا النازية). وكذلك يرغب كثر منهم في استعادة ألمانيا حدودها لعام 1937. ويحمل المتآمرون عداءً لليهود، في حين لا يدفع كثر منهم الضرائب بسبب عدم اعترافهم بالحكومة، وليسوا بعيدين من العنف، إذ يتحملون مسؤولية عملية قتل جرت في عام 2016 وتسع عمليات قتل عام 2020.

ووفق الكاتب، يعتقد المتآمرون بأن الرايخ الثالث لا يزال مستمراً لكنه يفتقد إلى المؤسسات، ولذا، فإنهم يسعون إلى إنشاء مؤسسات له. ويفسّر ذلك الأمر سبب ضمّهم ضباط شرطة وجيش سابقين وموظفين مدنيين سابقين. واستطراداً، فقد شملت صفوف أولئك المعتقلين نائبة سابقة من اليمين المتطرف، ومسؤولاً سابقاً في أمن الدولة بألمانيا الشرقية السابقة، وأعضاء سابقين في القوات الخاصة لألمانيا الموحدة. ولفت إلى وجود معتقل من النبلاء، هو الأمير هاينريتش الثالث روس كوستريتز، على رغم انتمائه إلى شريحة النبلاء الثانويين لأنه ليس من أعضاء الأسرة الإمبراطورية السابقة التي انحدر منها القيصر السابق (آل هوهنزلرن)، بحسب زعم صحف أميركية. وقد توّلت أسرة الأمير كوستريتز إمارة محلية في شرق ألمانيا في عهد الحكم القيصري الألماني.

وعزا الكاتب في مقاله وجود نبيل بين المتآمرين إلى سياسات ألمانيا الشرقية الاشتراكية. فقد شعر نبلاء البلاد بالإحباط بعد إعادة توحيد ألمانيا، لأن ألمانيا الموحدة لم تُعِدْ لهم أملاكهم التي أممتها الحكومة الشيوعية في ألمانيا الشرقية.

ولفت إلى أن حزب “البديل لأجل ألمانيا” الذي تنتمي إليه النائبة السابقة بريجيت ملساك- وينكمان، يعارض إلزامية التلقيح ضد “كوفيد- 19”. ويؤمن المتآمرون بأن هنالك مجموعة دولية يسمونها “التحالف”، وتضم برأيهم حكومات وأجهزة استخبارات وجيوشاً من بلدان مختلفة، تشمل روسيا والولايات المتحدة، تعادي الدولة العميقة في ألمانيا الحالية، لذلك وفي شكل يدعو إلى الاستغراب، قرروا السيطرة على الحكم في ألمانيا بالتعاون مع واشنطن وموسكو، المنتصرتين الأبرز في الحرب العالمية الثانية، والتفاوض معهما لاحقاً لتأسيس ألمانيا جديدة، وهم تواصلوا مع مسؤول روسي واحد في الأقل، بحسب الكاتب.

عن حركة مواطن الرايخ

هنا يمكن الإشارة إلى أن أفكار الرايخ الرابع، قد وجدت لها إطاراً تنظيمياً منذ ثمانينيات القرن الماضي، وإن اكتسبت حضوراً قوياً في الألفية الثالثة ومارس أنصارها العنف بشكل ملفت للنظر بدءاً من عام 2016، مما جعل السلطات الأمنية الألمانية، تغير نظرتها إليهم، وتصفهم بالخطر الذي يهدد أمن البلاد.

أحد تقارير المكتب الاتحادي للجريمة في ألمانيا والصادر في 23 يوليو (تموز) عام 2017 يشير إلى وجود تهديد كبير على الدولة من قبل أعضاء حركة مواطني الإمبراطورية الألمانية أو “مواطني الرايخ الألماني”، لاسيما وأنهم لا يعترفون بمؤسسات الدولة، ومستعدون لممارسة العنف المفرط الذي يصل إلى حد تنفيذ عمليات إرهابية.

وتتبنى حركة “مواطني الرايخ”، أطروحات تعتبر وجود ألمانيا الحالي غير شرعي، وترى بالدولة القائمة شركة مساهمة محدودة تديرها الجماعات السرية الماسونية واللوبيات والمجموعات العالمية، وتعتقد أن المواطنين الألمان هم مجرد موظفين في هذه الشركة، وأن ألمانيا دولة محتلة، ودستورها غير صالح لأنه أملي من الحلفاء المنتصرين بالحرب العالمية الثانية، من غير إجراء استفتاء شعبي عليه.

لا يؤمن “أنصار الرايخ” الرابع بفكرة أن ألمانيا الحالية دولة ديمقراطية، على الرغم من أن كبار رجالات القانون الألمان يرفضون فكرة “ألمانيا المحتلة”، ويعتبرون أن البلاد تخلصت من هذه الصفة في اتفاقية عام 1955، كما أن واقع الحال يخبرنا بأن هيمنة الحلفاء على القرارات المهمة فوق الأراضي الألمانية انتهت بخروجهم منها عام 1991 وفق معاهدة 2 + 4 التي تأسست لتوحيد الألمانيين، ووقعتها ألمانيا الغربية، وألمانيا الديمقراطية، والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وبريطانيا وفرنسا.

في كل الأحوال سيضاف صوت “الرايخ الرابع”، إلى بقية أصوات اليمين المتشدد إلى حد المتطرف، وسيزخم مجرد الحديث عنه، نشوء وارتقاء أصوليات أخرى، شرقاً وغرباً، وعلى صعيد  مختلف الأمم والأديان، مما يعني أن عالم ديمقراطيات ما بعد الحرب العالمية الثانية، مهدد بقوة في وجوده ومستقبله، وبخاصة  في ظل الفراغ الاستراتيجي الأممي الحادث في حاضرات أيامنا، والتحركات المثيرة لجيوسياسة العالم، والضباب المختلف الألوان الإيديولوجية الذي يخيم عليه.

هل هي أجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية تعود من جديد؟

مهما يكن من أمر الجواب، فإن ألمانيا ستكون شريكاً رئيساً في رسم معالم وملامح العقود المقبلة.

.