كورونا ونظريات المؤامرة داخل الأحزاب الشعبوية المتطرفة

د. أمير حمد

تزدهر نظريات المؤامرة من لاهاي إلى شتوتغارت مرورا بباريس، ويدّعي أتباعها أنهم يقاومون “السيطرة على الضمائر”، أو يتصدون لشبكات من “المعتدين جنسيا على الأطفال”، أو حتّى يكافحون “مخطّطا وبائيا” وضعته بحسبهم الطبقة الحاكمة سعيا لتحقيق أهداف غامضة.

ويقول أنصار هذه النظريات إنهم يدافعون عن “خطاب بديل” للحقائق الرسمية، مستلهمين حركة “كيو آنون” الأميركية لبث قراءتهم للوقائع المبنية على المؤامرات على شبكات التواصل الاجتماعي.

ومع إقصائهم من تويتر ويوتيوب، اعتبروا أنهم مضطهدون وانكفؤوا إلى منصّات ثانوية لتبادل معلومات يتهمون وسائل الإعلام الرئيسية بإخفائها، وغالبا ما تكون خاطئة.

وبين أتباع هذه النظريات، أنصار لحركة “كيو آنون” وبروتستانت متطرفون وشعبويون يمينيون وأنصار للبيئة مؤيدون للطب البديل، ورؤساء شركات وعاطلون عن العمل، وحتى أطباء.

يثير صعود هذا الخليط غير المتجانس قلق أجهزة الاستخبارات التي تخشى زعزعة استقرار الديموقراطيات الأوروبية.

حركة كيو آنون

أوضح المنسق الوطني للاستخبارات الفرنسية لوران نونيز “نظريات كيو آنون تصل إلى فرنسا. نظريات المؤامرة تلقت دفعا كبيرا مع شبكات التواصل الاجتماعي، نرى أنها تنظم صفوفها أيضا في خلايا سرية. هذا يشكل خطرا بالطبع”.

تكثر المجموعات الأوروبية التابعة لحركة كيو آنون أو الرديفة لها على شبكات التواصل حيث تجمع أنصارا، فتحظى مجموعة “ديكودور” في فرنسا بثلاثين ألف منتسب على تطبيق تلغرام، فيما يتابع أكثر من مئة ألف شخص أكبر وجهين من وجوه نظريات المؤامرة في ألمانيا أتيلا هيلدمان وكزافييه نايدو، ويجمع البريطاني تشارلي وارد حوالى 150 ألف متابع يمطر عليهم مقاطع فيديو مؤيدة للرئيس الأميركي السابق دوناد ترامب.

أشخاص من آفاق مختلفة

أوضح مصدر في أوساط الاستخبارات في فرنسا “ثمة مزيج من الظروف القائمة: تداعي النسيج الاجتماعي الاقتصادي، وحركة تعبير احتجاجي قوي على المنصات الرقمية حيث من السهل نقل خطابات المؤامرة، واستحقاقات انتخابية قادمة”.

من جهته، قال مسؤول كبير في الاستخبارات الفرنسية “هذه الحركات كانت موجودة بدرجات متفاوتة منذ عشر سنوات أو خمس عشرة سنة، وهي تستمد زخمها من تيار مناهض للأنظمة القائمة يقوم على نظريات المؤامرة. وثمة تداخل مع مجموعات صغيرة من اليمين المتطرف”، مشيرا إلى أن الظاهرة الجديدة تكمن في تجمع “أشخاص قادمين من آفاق مختلفة”.

من الذي اختلق الوباء؟

عشيّة الانتخابات التشريعية في هولندا، التقى ثلاثة آلاف شخص في ساحة “شان دو مارس” في لاهاي في مسيرة احتفالية احتجاجا على القيود المفروضة لمكافحة وباء كوفيد، تحت مراقبة عناصر من خيالة الشرطة. كان البلد شهد قبل بضعة أسابيع أعمال شغب غير اعتيادية استمرت عدة ليال، بعد فرض حظر للتجوّل. وشارك في التظاهرة جنبا إلى جنب ناشطون شعبويون ومنددون بحكومة عالمية ومدافعون عن الطب الطبيعي وغيرهم. والقاسم المشترك بين هذه الفئات المختلفة هو التشكيك في الخطاب الرسمي حول كوفيد-19.

فمن الذي اختلق الوباء؟ تختلف الأجوبة على هذا السؤال باختلاف الناس، لكن الأكثر شيوعا بينها يشير إلى وجهين من وجوه الرأسمالية العالمية هما بيل غيتس وكلاوس شفاب منظم المنتدى الاقتصادي العالمي.

قوى سرية

في الدنمارك، يؤكد افراد مجموعة “مان إن بلاك” (رجال بالأسود) أن فيروس كورونا “خدعة”، فيما تنتشر أعلام “كيو آنون” خلال التظاهرات المماثلة في برلين والتي يمكن أن تجمع ما يصل إلى عشرة آلاف مشارك. وحاول بعضهم حتى اقتحام البرلمان في آب/أغسطس الماضي. وأظهرت دراسة صدرت في ايلول/سبتمبر 2020 أن ثلث الألمان يؤمنون بأن “قوى سرية” تسيطر على العالم. وتبقى المواضيع التي ترفعها حركة كيو آنون من الحجج الأساسية بأيدي أنصار نظريات المؤامرة الأوروبيين.

ففي لاهاي، يطرح المصرفي السابق أرد بيسا مسألة شائعة بين أتباع كيو آنون، فيقول “ثمة ثمانية ملايين طفل يختفون كل سنة، هذا جزء من عالمنا، علينا ألّا نغضّ الطرف، ثمة كمية هائلة من قضايا التعديات الجنسية على أطفال يتم طمسها”.

والواقع أن هذا الرقم المأخوذ من المنظمات غير الحكومية لحماية الأطفال، يجمع كل حالات اختفاء الأطفال، بما فيها حالات هروب الأطفال من منازلهم، وهي تلقى حلأ في غالبيتها الساحقة.

دعم ترامب وأفكار اليمين المتطرف

أنصار كيو آنون المتشددون نادرون ومتكتمون نسبيا في أوروبا، إذ تبقى الحركة مترسخة في الولايات المتحدة، غير أن قاعدتها الإيديولوجية معمّمة إلى كلّ أنحاء العالم.

وتقول مديرة الإستراتيجيات في شركة “أكتيف فينس” للأمن المعلوماتي “جميع كيو آنون الأوروبيون يؤيدون الرواية الرسمية، أي دعم ترامب وأفكار اليمين المتطرف” ولو أن “كل مجموعة تكيّف رسائلها مع مصالح محلية”.

وفي نهاية المطاف، تخرج الشائعات التي تتناقلها هذه “النواة الصلبة” المؤمنة بنظريات المؤامرة على تلغرام، لتغزو النقاش العام.

التطهير الرقمي

يذكر الباحث توم دو سميت بأن “تويتر أنجز عملا هائلا بإغلاقه حسابات”. لكنه لفت إلى أن هذا التطهير الرقمي لم يصل إلى جذور نجاح هذه النظريات، موضحا “ثمة شعور بالغضب ليس حكرا على اليسار ولا على اليمين، بل هو مناهض للنخب. وهذا الشعور لم يتبدد”.

ففي كانون الثاني/يناير، شهدت ألمانيا نموذجا لتشويه الكلام، حين وردت فجأة آلاف الرسائل على عدد من شبكات التواصل الاجتماعي، تندد بمسعى لإقامة “صالات استمناء” للأطفال في دار حضانة في تيلتوف جنوب برلين.

ونقل بعض نواب حزب “البديل لألمانيا” اليميني المتطرف هذه المعلومات، ما دفع نائبة من الغالبية لانتقاد مثل هذا المسعى، في حين أن المسألة انطلقت في الحقيقة من مقال أُسيء فهمه في صحيفة محلية.

وفي فرنسا، شاهد ملايين الأشخاص الوثائقي “هولد آب” الذي يقدم منبرا لأطباء ونواب وباحثين وعلماء اجتماع بدون تمييز، لعرض نظريات مؤامرة على مدى ثلاث ساعات تقريبا تتقاطع بوتيرة سريعة.

وقبل عام من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، حذر مسؤول من الغالبية الحاكمة “هذا الفيلم يقدم عملا يختزل كل طروحات المؤامرة الراهنة. لديهم منابر في كل مكان، يجب أن تكون لنا نحن أيضا منابر”.

الأحزاب الشعبوية الأوروبية

وأظهرت دراسة أجراها معهد جان جوريس عام 2019 أن القاعدة الناخبة لزعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبن هي الاكثر تقبّلا لنظريات المؤامرة.

وفي هولندا، نجح تنظيم “المنتدى من أجل الديموقراطية” الشعبوي في زيادة عدد مقاعده في البرلمان بأربعة أضعاف بعد حملة انتخابية مبنية على العداء لتدابير مكافحة وباء كوفيد، مع تفادي الخوض في خطاب المؤامرة.

وفي أورك، بلدة صيادي السمك الصغيرة الواقعة في “حزام الكتاب المقدس” البروتستانتي المتشدد، حيث كان مرض الحصبة لا يزال منتشرا في 2019، حقق المنتدى أكبر تقدم بحلوله في المرتبة الثالثة.

وتساءل الكاهن ألوين ويتسلاغ لدى استقباله صحافيي فرانس برس في بيته الملاصق لإحدى الكنائس الكثيرة في البلدة “الناس هنا تساورهم شكوك حول اللقاح لأسباب طبية إذ لا نعرف مفاعيله، إنما كذلك دينية (…) الله هو من يهبنا الصحة والمرض. فهل يجدر بنا التدخل في المصير الذي يرسمه لنا؟”.

وعلى غرار “المنتدى من أجل الديموقراطية”، تتفادى بعض الأحزاب الشعبوية الأوروبية تبني خطاب المؤامرة بشكل رسمي، مفضلة اعتماد لغة ملتبسة يمكنها استقطاب ناخبين سئموا السياسة.

وفي مقاطعة بادن فورتمبرغ، معقل المناهضين للتدابير الصحية في ألمانيا، تقف كريستيا باوم تحت شمس ساطعة توزع منشورات.

قبل بضعة أيام من الانتخابات، تناقش هذه المتحدثة المحلية باسم “البديل من أجل ألمانيا” في الشؤون الصحية، مسألة كوفيد مع أنصار للحركة بلا كمامات ولا تباعد.

حزب الوطنيين و”جنون كورونا”

وتتفادى كريستينا باوم مناقضة هذه الحجج، إذ يرحب حزبها بكل الآراء، فتجيبه سائلة “ماذا تريد أن تفعل بهؤلاء الناس؟ تريد أن تقول لهم إننا سنضعهم على هامش المجتمع تماما؟”

وأوضح تقرير اصدرته عدة منظمات غير حكومية بينها “مؤسسة أماديو أنطونيو” في شباط/فبراير 2021 أن “الذين يصوتون لأحزاب اليمين المتطرف يميلون أكثر من سواهم إلى اعتناق نظريات المؤامرة المتعلقة بكوفيد. وهذا يشمل واحدا من خمسة ناخبين للبديل من أجل ألمانيا”.

ويلقى هذا الخطاب أصداء في فرنسا ولاسيما بين حزب “الوطنيين” السياديّ الذي يندد زعيمه فلوريان فيليبو بـ”جنون كورونا”.

خطابٌ يطعنُ في الدستور

وإن كان هذا المزيج من الخطابات التي تطرح نظريات مؤامرة يبقى في الوقت الحاضر محصورا في عدد محدود من التشكيلات السياسية، إلا أنه يثير تعبئة في صفوف أجهزة الاستخبارات الأوروبية.

وفي ألمانيا، تفرض رقابة مشددة على حركة “كويردينكن” المعارضة لتدابير مكافحة كوفيد، ولاسيما لارتباطها بحركات قريبة من اليمين المتطرف، يدعو خطابها بشكل نشط إلى الطعن في الدستور.

وأوضح مسؤول في الاستخبارات في بادن فورتمبرغ “نعمل على مجموعة من الأشخاص محدّدة بشكل واضح، يظهر لنا أنها على تواصل مع الأوساط المتطرفة. يمكن لنظريات المؤامرة أن تسرّع اعتناق التطرف وأن تشكل طريقا مؤديا إليه”.

ونظريات المؤامرة قد تفتح بابا لزعزعة استقرار الديموقراطيات بعدما باتت معممة على الجمهور العريض وتلقى انتشارا سريعا وتجمع حولها الكثير من الناس من توجهات مختلفة.

أخطر ما في الأمر

وأقر مسؤول كبير في الاستخبارات الفرنسية “نخشى أن ينتقل هؤلاء الأفراد إلى ارتكاب أعمال عنف”، مشددا على وجود “تدخل رسمي روسي عبر بث الأخبار” من خلال “شبكتي آر تي وسبوتنيك”.

ويلتقي أتباع نظريات المؤامرة بشكل أساسي على تطبيقي “تلغرام” و”في كاي”، وهما شبكتان اجتماعيتان أسسهما الشقيقان الروسيان بافيل ونيكولاي دوروف.

وقال الباحث الفرنسي سيلفان دولوفيه “أخطر ما في الأمر ليس العناصر الراديكاليون القلائل، بل التيار التحتيّ الذي يؤدي إلى ريبة وحذر متزايدين حيال المؤسسات”.

وردا على سؤال من وكالة فرانس 24 عما إذا كان يتوقّع اتّساع هذا التيار التحتيّ، قال المصدر في الاستخبارات الفرنسية إن “الرهان يكمن في معرفة ما إذا كانت الانتخابات ستشكل منفذا لهذه الرغبة في التعبير الاحتجاجي أم لا”.

وسيرتسم الجواب العام المقبل في الانتخابات المحلية والرئاسية التي تجري في فرنسا والانتخابات التشريعية في ألمانيا حسب وكالة فرانس 24.

.