تونس ولعبة الكراسي الديمقراطية

جوهر حميد

انطلقت في تونس مفاوضات سياسية ماراتونية قادها الرئيس قيس سعيّد بحثا عن مرشح توافقي لخلافة رئيس الحكومة المستقيل إلياس الفخفاخ من أجل نيل ثقة برلمان منقسم بينما تواجه البلاد أزمة اجتماعية خانقة.

وقدم الفخفاخ استقالته على إثر أشهر من خلافات حادة خرجت للرأي العام بين رأس السلطة الرئيس قيس سعيّد ورئيس حزب النهضة راشد الغنوشي.

وجاءت استقالة الفخفاخ استجابة لطلب الرئيس إثر اتهامات تلاحقه في ملف تضارب مصالح وتحقق فيه لجنة برلمانية، كما تشبث حزب النهضة ذو المرجعية الاسلامية بسحب الثقة منه بسبب هذا الملف على إثر خلافات معه حيث تقول مصادر تونسية إن حزب النهضة كان يريد الضغط من خلال الملف على رئيس الحكومة لكن الأخير لم يرضخ لتلك المحاولات.

ودفعت النهضة باستقالة الفخفاخ بعد أن فشلت في اقناعه بتوسيع الائتلاف الحاكم وإشراك أحزاب أخرى وشعرت وكأنها مهمشة داخل الحكومة التي تضم أحزابا تلتقي مع سعيّد في الدفاع عن مبادئ ثورة 2011 وتختلف مع النهضة في بعض السياسات.

ويرى مراقبون في هذا السياق أنه بالنسبة للمشهد السياسي في المستقبل ربما “سنشهد تحوّلاً في التحالفات، من ما كان يسمى بائتلاف الثورة (حكومة الفخفاخ) الى الشق الآخر البراغماتي… الانتقال من منطق الثورة الى منطق البراغماتية المبنية على المصلحة السياسية”.

وظهر في الآونة الأخير توافق علني بين حزب النهضة وحزب “قلب تونس” (27 نائبا) الذي يترأسه رجل الأعمال نبيل القروي الذي كانت تؤيد اتهامت وجهت له بالفساد خلال حملاتها الانتخابية. لكن الحركة الإسلامية أصرّت منذ بداية ضمان أغلبية المقاعد في البرلمان على إشراك “قلب تونس في الحكم” لكن قوبل طلبها برفض متواصل من الفخفاخ.

وقد ترشح نبيل القروي للانتخابات الرئاسية الفائتة وانحصر السباق بينه وبين قيس سعيّد في جولة ثانية حاسمة خسر فيها أمام تصويت شعبي فاق 70 في المئة لصالح سعيّد.

ودفعت استقالة الفخفاخ بالرئيس “أستاذ القانون الدستوري السابق والمدافع عن مبادئ ثورة 2011″، من جديد ليكون لاعبا أساسيا في المشهد السياسي وفقا لما ينص عليه الدستور، وليقود مشاورات مع الأحزاب السياسية والكتل النيابة والمنظمات على أن يقدم مرشحه خلال مهلة عشرة أيام. مرشح الرئيس سيكون مقيدا وفقا للدستور بتشكيل حكومة خلال شهر وعرضها على البرلمان لنيل الثقة. غير أن مهمّة الرئيس لن تكون بالهيّنة لإقناع النهضة (45 نائبا من أصل 217) التي فشل مرشحها لرئاسة الحكومة الحبيب الجملي مطلع العام 2020 في نيل ثقة البرلمان وتم المرور إلى الفخاخ الذي رشحه الرئيس وقبلت به درءا لانتخابات برلمانية سابقة لأوانها آنذاك.

واستغرقت المفاوضات السابقة منذ أن أجريت الانتخابات النيابية في تشرين الأول/أكتوبر 2019 نحو أربعة أشهر من التجاذبات السياسية إلى حين تم الاتفاق على الفخفاخ ونيله الثقة نهاية شباط/فبراير.

هل يُحل البرلمان

وحتى إذا لم توافق حركة النهضة على المرشح الذي سيقدمه الرئيس فإن الأخير ربما يقدم على حل البرلمان والتوجه إلى انتخابات مبكرة وهي الفكرة التي دعت لها أكبر نقابة عمالية بشرط تعديل قانون الانتخابات والقيام باستفتاء على النظام البرلماني لتجاوز المأزق الذي وضعت فيه الأحزاب السياسية البلاد.

وصف نور الدين الطبوبي، أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل، النظام البرلماني المعتمد في بلاده بـ”العاجز”.

وقال الطبوبي، خلال مقابلة مع إذاعة “شمس أف أم” التونسية (خاصة) إن “القانون الانتخابي يجب مراجعته (…) هل النظام البرلماني قادر على إصلاح تونس، وإلاّ فإنّ المسألة يهتمّ بها الشعب؟”.

ورغم أن طبيعة النّظام السياسي في تونس حاليا لم تكن واضحة في نص الدّستور، إلا أن توزيع الصلاحيات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، جعل منه نظاما شبه برلماني خلق في الانتخابات الأخيرة كتلا هجينة أربكت عمل المؤسسة التشريعية الأولى في البلاد.

ودعا الطبوبي كلّ المنظمات والجمعيات الوطنية والأطراف الفاعلة في المجتمع المدني الديمقراطي، الذي ينبذ العنف ويكرّس الحريات، إلى الضغط الإيجابي والمنظّم والمؤطّر لتعديل الخيارات نحو المصلحة الوطنية، وفق تعبيره.

ورأى أن النظام البرلماني عاجز اليوم عن تقديم مقترحات لمصلحة البلاد وإيجاد حلول، كما أنّ القانون الانتخابي به مشكل كبير.

وتعتمد الانتخابات في تونس على التمثيل النسبي، أي توزيع المقاعد على القوائم المتنافسة حسب نسبة الأصوات التي حصلت عليها كل قائمة، وتقتضي تحديد “الحاصل الانتخابي”، بقسمة عدد الأصوات في كل دائرة على عدد المقاعد المخصص لها.

وأردف الطبوبي أن “الأحزاب البرلمانيّة مهتمّة فقط بالمناكافات والغوغائية وتسجيل نقاط على حساب بعضها البعض، ومختلف النواب يعتمدون في أسلوب حِوارهم في البرلمان على السبّ والشتم”.

هذا ويشهد البرلمان، منذ فترة، تجاذبا مستمرا بين كتلة “الدستوري الحر” (16نائبا) وبقية الكتل، وخاصة “النهضة”.

ويصف المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي وضع الرئيس التونسي مثل الشخص الذي “يمشي على خيط رفيع”، مبينا أنه أصبح في وضعية حرجة لأنه يجب أن يحسن اختيار مرشحه لرئاسة الحكومة هذه المرة حتى يتمكن من الحصول على الأغلبية البرلمانية… وإن فشل في ذلك سيعرض البلاد الى مرحلة دقيقة وربما انتخابات مبكرة”.

وليس بالأمر الأمر الهين تحديد توجه الرئيس التونسي لاختيار مرشحه. فقد عبّر في أكثر من مناسبة عن كرهه الشديد للمناورات السياسية “داخل الغرف السوداء” كما أن له كامل الصلاحيات في أن يفرض شخصية ربما لا تفضلها الأحزاب.

ويقول أستاذ القانون الدستوري سليم اللغماني إن الرئيس “يملك صلاحية حلّ” البرلمان بينما “ستخسر الكتل النيابية الكثير” إن تم اقرار انتخابات مبكرة.

في انتظار النتائج …

وقد أظهرت استطلاعات للرأي تم نشرها في وسائل اعلام محلية مطلع الأسبوع الحالي تقدم “الحزب الدستوري الحرّ” في نوايا التصويت. وتقود هذا الحزب المحامية والمدافعة عن نظام الرئيس الأسبق الراحل زين العابدين بن علي، عبير موسي.

وتقود موسي حملة ضد حزب النهضة وراشد الغنوشي وتتهمه بالتسبب في تأزم الوضع في البلاد منذ الثورة.وقامت كذلك بالاحتجاج في مقر البرلمان وعطلت سير جلسة كانت مخصصة لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية.

وهذا مؤشر آخر على أن التجاذبات السياسية والخلافات داخل البرلمان ستكون فاصلة في عملية منح الثقة للمرشح الجديد.

وفي حال فشل مرشح الرئيس سعيّد في كسب ثقة البرلمان بـ 109 أصوات ، فتتعزز فرضية المرور إلى انتخابات نيابية مبكرة نهاية العام 2020 والبلاد لم تخرج بعد من أزمة اقتصادية واجتماعية حادة.

وتتواصل في الجنوب التونسي منذ أسابيع احتجاجات اجتماعية للمطالبة بالتشغيل بالقرب من حقول لاستخراج النفط والغاز كما استطاع المحتجون إيقاف الانتاج في منشآت نفطية في ولاية تطاوين.

كما أثرت أزمة كوفيد 19 على اقتصاد البلاد المهدد بانكماش قد تبلغ نسبته 6.8 في المئة وبخسارة أكثر من 130 ألف شخص وظائفهم، حسب تقديرات رسمية. بينما يقدر اقتصاديون أن الأرقام ربما تتجاوز المعلن عنه بكثير مع تواصل غياب الاستقرار الحكومي.

بالموازاة مع ذلك، فإن المفاوضات مع المانحين الدوليين ربما تتأثر بتغير المسؤولين والبلاد في حاجة مستمرة لتمويلات خارجية لاصلاح وضع المالية العمومية وقد أقرّ الفخفاخ سابقا بأن غالبية الشركات الحكومية مفلسة تقريبا.

.