تاريخ الإسلاموفوبيا والتعصب الأوروبي

آية المرزوق /

عندما نتطرق للحديث عن الإسلاموفوبيا، نادرًا ما نجد بين صفوف الليبراليين والحداثيين من يملك فهمًا صحيحًا لهذه الكلمة الشائكة. «الإسلاموفوبيا» ليست نوعًا من الرهاب الذي قد يتم تشخيصه من طرف طبيب نفسي أو العلاج منه، وهي لا تعني خوفًا لا عقلانيًا من الإسلام والمسلمين، لكن الكثير من الليبراليين يجدون أنفسهم في سباق لأجل استنكار أحداث العنف الإسلاموفوبية التي يتعرض لها مسلمو الغرب، ويلقون باللوم على الأفراد الذين يرتكبون هذا العنف اللامبرر (الذين عادة ما يكونون مواطنين بيض من الطبقة المتوسطة) قصد تبرئة ذواتهم من كل الصفات التي تصاحب ذلك البغض الموجه لأقلية دينية معرضة للخطر. يخلق هؤلاء الليبرالييون فكرة خاطئة عن هذه الظاهرة، مفادها أن الإسلاموفوبيا هي الخوف الفردي أو الكره الشديد تجاه المسلمين وهو أمر أبعد ما يكون عن الحقيقة.

الإسلاموفوبيا هي أيديولوجية متجذرة في الثقافة الغربية، وبالتالي فهي جزء لا يتجزأ من السياسة الداخلية لبعض البلدان الغربية، أي أن الممارسات المعادية للمسلمين من طرف الدول لا الأفراد هي التي تولد ذلك الخوف الفردي من كل من يبدو مسلمًا، الأمر الذي يعزز مختلف الصور النمطية عن الإنسان المسلم.

ليست الإسلاموفوبيا عنصرًا دخيلًا على معظم المجتمعات الغربية، فقد أنتج عدد كبير من المفكرين الفرنسيين والبريطانيين أعمالًا يصفون من خلالها التخلف المزعوم للفرد المسلم عن ركب الحضارة، ضاربين بذلك مختلف الثقافات والحضارات في العالم الإسلامي عرض الحائط، في محاولة يائسة لتجريد المجتمعات المسلمة من كل خصوصياتها ومميزاتها وحصر هويتها الغنية في صورة نمطية مهينة مهندسة بدقة من خلال وسائل الإعلام وعدد من «الخبراء» الذين تكلفوا عناء دراسة هذا الإنسان الرجعي دون أن يتمكنوا من استخلاص أي ذرة من الحقيقة فيما يخص هذا الفرد المثير للاهتمام. لقد ساهمت مختلف الإنتاجات الاستشراقية، لأفراد عاشوا في مجتمع مسلم دون أن يعايشوه، في تبرير استعمار دول الشرق التي كانت في أمس الحاجة للحداثة والعلم الذي كانت شمسه قد أشرقت في أوروبا الغربية، وهكذا تحولت المجتمعات المسلمة على اختلافها وتعددها مشروعًا استعماريًا وساحة معركة إمبريالية ذات أبعاد براغماتية محضة قد شنها الشطر «المتحضر» من الكرة الأرضية على نظيره «المتخلف».

نشأت إذن فكرة كون المسلمين عنيفين بالفطرة من رحم هاته الكتابات وأقبل مفكرو الغرب على ربط الإسلام بالإرهاب والتعصب الديني، كما اخترع الأمريكان عبارة «الحرب على الإرهاب» التي لم تكن في الحقيقة سوى حرب لأجل النفط والحفاظ على المكانة الاقتصادية والسياسية للدولة.

لا يخفى اليوم على معظمنا أن الحرب المزعومة التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية على الإرهاب لم تكن تستهدف هذا الأخير بقدر ما تعتمد على الاعتقاد الراسخ ( والباطل في حقيقة الأمر) بأن الفرد المسلم لا بد أن يكون عنيفًا ومتعصبًا لدينه ومعتقداته، وهو افتراض ينم عن جهل عميق ببنية معظم المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة ويعود للحقبة الاستعمارية ويعبر عن النظرة الدونية تجاه الأمم المحتلة التي تفشت آنذاك دون أن تختفي تمامًا مع الانتهاء المزعوم للاستعمار بشكله الكلاسيكي.

وانطلاقًا من هذا الربط العشوائي الخالي من المنطق بين الهوية المسلمة والإرهاب، تسعى الدول الغربية اليوم إلي نزع الشرعية والمصداقية عن الجهات المقاومة للاحتلال، خاصة ذات الخلفية المسلمة منها وتساوي بين المقاومة والإرهاب، بالرغم من أن لكل المضطهدين حقًّا طبيعيًّا في العنف المشروع المبرر أخلاقيًّا. فإذا كان الاحتلال عنيفًا، لا يسع المقاومة الناجعة إذن إلا أن تقابل العنف بالعنف.

ثم هنالك تلك الإسلاموفوبيا الناجمة عن حنين لماض كان فيه العالم الإسلامي خاضعًا لرحمة العالم الأوروبي، فالرجل الأبيض المؤمن كل الإيمان بتفوقه الثقافي والعرقي على الأفريقي أو الآسيوي، يرى في وضعه على قدم المساواة مع غيره من الأعراق اختلالًا للتوازن الطبيعي للعالم ولميزان القوى، وفي هاته الحالة، لا تختلف الإسلاموفوبيا عن كل من العنصرية والكره الموجه للأجانب. يمثل المسلم المعاصر في الغرب – لكونه كائنًا أصلانيًّا – المستعمرات السابقة للدول الأوروبية والسكان الأصليين الذين لا يزالون ملتزمين بسعيهم لأجل محو الاستعمار، يثقل كاهلهم ما خَلَّفَهُ هذا الأخير من تبعية اقتصادية تبقيهم في الحضيض.

إن العنف الناتج عن الإسلاموفوبيا (والذي يوصف بكل الأوصاف ما عدا كونه إرهابًا) هو عنف مدمج في القوانين، تشرعه الدولة بنفسها وتحث عليه مواطنيها، فنرى في مدينة ديربورن بولاية ميشيغان الأمريكية مراقبة مكثفة للأوساط المسلمة وتنميطًا عنصريًّا تقوم به الدولة تجاه أفراد يفترض بها حمايتهم، لكنها بالمقابل تحملهم ذنب جرائم لا علاقتهم بها وتدينهم بسبب هويتهم المسلمة. ولكل من فرنسا وبلجيكا طرق أكثر صرامة في التعامل مع الهوية المسلمة التي تمثل في نفس الوقت تذكيرًا بالمستعمرات السابقة والتاريخ الدامي للدولتين، تحت ذريعة اتباع سياسة علمانية.

يتطلب القضاء على الإسلاموفوبيا وغيرها من الأيديولوجيات القمعية المتخلفة فهمًا صحيحًا لها، إضافة إلى تحصين المجتمعات الغربية والشرقية على حد سواء من نزعة العدائية تجاه كل ما هو غير مألوف.

وإن كانت الحكومات والأنظمة تغذي مظهرًا من مظاهر الكره وتقننه، فإن واجب المجتمع المدني أن يتصدى للتنميط العنصري الذي يستهدف مختلف الأقليات الإثنية والعرقية لأجل خلق مجتمع متماسك وصامد في وجه الأزمات ومتحد الشرائح والطبقات.

إن المجتمعات التي تسمح للكره أن ينمو فيها تكون وسطًا سامًّا لا مجال فيه للتنمية أو التقدم، يُحْكَمُ الوسط الذي يعجز عن تقديم الحماية والكرامة لأفراده بالزوال في آخر المطاف، في حين تبقى الأمم التي يتحد أفرادها على اختلاف ألوانهم وأعراقهم ودياناتهم صامدة، وتُفْتَحُ لها أبواب التطور والنمو على مصراعيها.

.