بعد خطابات البطولة والفداء .. أردوغان يتراجع

.

إبراهيم بدوي

ـ أردوغان على ما يبدو لا يمكنه الذهاب أكثر من ذلك في هذه المواجهة مع الولايات المتحدة، ويريد إنقاذ اقتصاد بلاده المتدهور، فآثر إطلاق سراح القس على وجه السرعة للخروج بما يحفظ ماء الوجه، من خلال محاكمة شكلية وصفها مراقبون بالمسرحية.

كشفت “مسرحية” محاكمة القس الأميركي أندرو برانسون، والتي انتهت فصولها نهاية الشهر الماضي بالإعلان عن إطلاق سراح القس، فصلا جديدا من مسلسل الخداع الذي يلعب بطولته الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بتصريحات “نارية خادعة” بعيدة عن الواقع.

فقبل ساعات من صدور الحكم التركي بإطلاق سراح برانسون أكدت تقارير صحفية أميركية إبرام صفقة بين واشنطن وأنقرة، يتم بموجبها الإفراج عن القس مقابل رفع الإجراءات العقابية التجارية الأميركية تجاه تركيا.

وكشف مسؤولان أميركيان كبيران لصحيفة “واشنطن بوست قبل المحاكمة، أنهما على علم بقرار الإفراج عن برانسون، ورسما المسار الذي تبعه القضاء التركي تماما، ليؤكدا حدوث الصفقة.

وقالت الصحيفة، إن المحكمة ستصدر حكما مخففا على برانسون، بما يكفل له الحرية بعد ما قضاه على ذمة القضية، ويسمح له بالرحيل عن تركيا والعودة إلى الولايات المتحدة، وهو ما حدث بالفعل، حيث حكم على الرجل بالسجن 3 سنوات وشهر و15 يوما، مما يعني أنه تم إطلاق سراحه، لأنه وفق القانون التركي، فإن من يحكم عليه بـ 3 سنوات، يطلق سراحه بعد عامين من السجن، وهو ما قضاه برانسون فعليا.

وكانت محطة “إن.بي.سي نيوز” قد ذكرت وفي وقت سابق للمحاكمة، أن الولايات المتحدة وتركيا، توصلتا لاتفاق يطلق بموجبه سراح برانسون، وتسقط اتهامات بعينها موجهة له خلال جلسة المحاكمة.

ونقلت المحطة عن مسؤولين، وشخص ثالث على اطلاع بالأمر، توقعهم بأن يعود برانسون إلى منزله في ولاية نورث كارولينا، خلال الأيام المقبلة، بعد إفراج الحكومة التركية عنه.

وأوضحت المصادر، أن الاتفاق الذي توصل إليه الطرفان، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر، ويقضي بإسقاط القضاء التركي عددا من التهم الموجهة لرجل الدين الأميركي.

هذا وقد تراجع 4 شهود في قضية القس المحتجز عن إفاداتهم السابقة، وقالوا إنه إما أسيء فهمهم، أو إن ما ذكروه سمعوه في وسائل إعلام، وإنهم ليسوا مصدر هذه الإفادات.

فتح إطلاق سراح القس الباب أمام تساؤلات عدة بشأن نزاهة القضاء التركي، الذي بات في قبضة الرئيس رجب طيب أردوغان، لاسيما بعد تعديل الدستور الذي منحه صلاحيات واسعة.

تصريحات نارية

وهاجم أردوغان في أكثر من مناسبة الولايات المتحدة الأمريكية، مشددا على أن مصير برانسون بيد القضاء وحده، نافيا بشكل قاطع وجود صفقة أميركية تركية بخصوص الأمر.

وصّرح في يوليو الماضي: “في رأيي هذه حرب نفسية ولن نتراجع مع العقوبات الأميركية، ونحن لم نساوم في قضية برانسون”.

وفي تغريدة على حسابه بتويتر، قال أردوغان: “إن من يظنون أن بإمكانهم ردعنا باستخدام لغة التهديد أو فرض عقوبات لم يعرفوا هذا الشعب بتاتا”.

وأضاف: “من الواضح أن من يتهموننا بعدم معرفتنا بحيثيات النظام الأميركي لا يعرفون شيئا عن تاريخ أمتنا. ونحن لن ننحني بتاتا لهذا النوع من الضغوطات”.

ووفقا لوسائل إعلام تركية، فقد صرّح الرئيس التركي خلال لقائه عددا من الصحفيين على متن الطائرة الرئاسية أثناء عودته من زيارة أجراها للمجر: “تركيا دولة قانون، وعلى الجميع احترام القرار الذي سيصدر بحق القس الأميركي أندري برانسون الذي يحاكم في تركيا بقضايا تجسس وإرهاب”.

وأوضح أن القانون يطبق على الجميع في تركيا، وأنه لا يمكن لأحد التدخل في قرارات الأجهزة القضائية، بما في ذلك رئيس الجمهورية.

وفي يوليو، حذر أردوغان الولايات المتحدة، من أن فرض عقوبات لن يجبر أنقرة على “التراجع”، ونقلت صحيفة حرييت التركية عنه: “على الولايات المتحدة ألا تنسى أنها يمكن أن تخسر شريكا قويا ومخلصا مثل تركيا ما لم تغير موقفها”.

وبيّن أن: “تغيير الموقف مشكلة ترامب، وليس مشكلتي”، واصفا التهديدات الأميركية بـ”الحرب النفسية”.

لكن يبدو أن أردوغان أدرك أن مصالحه المتشابكة مع الولايات المتحدة، بدءا من كونهما عضوين في حلف شمال الأطلسي، مرورا بالملف الكردي في الحرب السورية، فضلا عن قضية رجل الدين التركي المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن، وانتهاء بالعقوبات الأميركية التي ساهمت في فقدان الليرة التركية 40 في المئة من قيمتها هذا العام، جعلت الرئيس التركي يلجأ لطريق الخداع المعتاد، والظهور كبطل قومي أمام شعبه في الوقت الذي يفاوض فيه الولايات المتحدة على إنهاء عقوباتها.

نهج مستمر

وانتهج أردوغان ذات الأسلوب خلال تعاطيه مع أزمة الطائرة الروسية التي أسقطها الطيران التركي قرب الحدود السورية، في نوفمبر من عام 2015.

ووصل أردوغان إلى ذروة لهجة التصعيد مع موسكو، عندما شدد على أن بلاده ستواصل التعامل مع أي جهة تخترق الأجواء التركية مثلما تصرفت مع القاذفة الروسية “سو 24″، منددا بالتدخل الروسي في سوريا.

إلا أنه بعد أشهر من الدفاع عن العمل التركي تجاه الطائرة الروسية، بزعم أنها اخترقت المجال الجوي، واستخدام “خطاب شعبوي” بهدف استقطاب الأتراك، لم تنته الأزمة سوى بعد اعتذار شخصي من أردوغان لنظيره الروسي فلاديمير بوتن، حيث قدم في العام 2016 “تعاطفه وتعازيه الحارة” لعائلة الطيار الروسي الذي قتل في إسقاط الطائرة، و”اعتذاره” لروسيا وبوتن، و”كل ما بوسعه لإصلاح العلاقات الودية بين أنقرة وموسكو”.