الولايات المتحدة تخذل أصدقاءها دوماً

عباس المهدي /

“لن ننخرط في أي عمل عسكري في أوكرانيا، لكننا سنفرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا”.

من خلال تلك الجملة المقتبسة حرفياً من خطاب الرئيس الأمريكي بايدن بشأن الأزمة مع روسيا عقب غزوها أوكرانيا يُمكن تلخيص السياسة الأمريكية بأكملها؛ كثيرٌ من الوعود قليلٌ من التنفيذ.

فبعد أسابيع من التشاحن المتبادل وسيول التعهدات الأمريكية والأوروبية لأوكرانيا بضمان أمنها، ها قد حانت ساعة الحقيقة، عبرت القوات الروسية الحدود ووطئت أقدام جنودها تراب أوكرانيا، التي عجزت عن الدفاع عن أرضها فاستعانت بحلفائها، الذين وقعت في تلك الأزمة بسببهم، فأين الحلفاء؟

لا حلفاء اليوم، الكل انكمش – وعلى رأسهم أمريكا القوة الأعظم في العالم كما يُفترض- وبدلاً من الذود العسكري عن الحليفة تخلّوا عنها واكتفوا بالمزيد من العبارات المُندِّدة والعقوبات التي لن تغيّر واقعاً على الأرض تصنعه الدبّابات الروسية!

وهو ما يُعيد للأذهان التاريخ العريض لأمريكا في خذلان حلفائها، لتبدو في تلك المواقف نقيضاً واضحاً لروسيا التي تبذل جهوداً جبّارة لنصرة أصدقائها حول العالم، وأبرزهم الرئيس بشار الأسد على سبيل المثال

خيانة منذ البداية

المشهد المأساوي في أفغانستان ليس بعيداً عن الأذهان، ففي أغسطس/آب الماضي قرّر الرئيس الأمريكي بايدن التخلّي عن كل شيء، والكفَّ عن دعم الحكومة الأفغانية، وهو ما نتج عنه تهاوي النظام الأفغاني في أيام، وعودة حركة “طالبان” لحُكم قندهار بأسرع من الخيال، وكأن 20 عاماً من الحرب لم تغيّر شيئاً في البلاد.

هذا السلوك الأمريكي قديم للغاية، ربما منذ نشأة أمريكا ذاتها، وأقدم سيناريو معروف في هذه الحالة هو ما فعلته مع فرنسا، فبالرغم من أن الأخيرة بذلت جهوداً هائلة لدعم الولايات الأمريكية لانتزاع استقلالها عن التاج البريطاني، فإن الدولة الأمريكية الوليدة لم تحفظ ذلك الجميل لباريس، وعقب اشتداد ساعدها تراكمت الخلافات بينهما حتى كادت أن تصل إلى الحرب.

وفي الكونغرس الأمريكي، هدّد الرئيس أندرو جاكسون بإعلان الحرب على فرنسا لو لم تدفع بعض المستحقات التجارية المتأخرة عليها، وهو ما اعتبره الفرنسيون نكراناً جبّاراً لجميلهم في دعم الثورة الأمريكية، ولاحقاً وصف السياسي الفرنسي الشهير ألفونس دو لامارتين هذا الموقف قائلاً: “لطالما كنت مندهشاً من عدم تعاطف أمريكا مع بلادنا”!.

لم تكن هذه هي بادرة الخيانة الوحيدة التي ارتكبتها الولايات المتحدة خلال حرب الاستقلال، فعندما احتاجت إلى جهود بعض السكان الأصليين في الحرب، منهم هنود ديلاوير Delaware Indians الذين وُعدوا بدولة مستقلة عقب النجاح في الانفصال عن بريطانيا، وهو ما لم يتم مطلقاً، بل عقب الاستقلال تخلّص جنود أمريكيون من “وايت آيز” قائد تلك الجماعات الهندية حتى لا يكرروا مطالبهم بدولة مستقلة مُجدداً، ولم ينَل الهنود دولتهم التي وُعدوا بها.

تلك المواقف تكرّرت كثيراً في التاريخ الأمريكي المخزي بكثرة تخليها عن حلفائها وعدم قُدرتها على دعمهم كما ينبغي ويتوقّع منها كدولة عُظمى، نستعرض عدداً منها في هذا المقال..

الأكراد: لُدغوا مرات ومرات

في السبعينيات، رعى هنري كيسنجر خطط إيران لتسليح أكراد العراق كوسيلة لاستنزاف بغداد، وعقب الصُلح بين البلدين تخلّى الأمريكيون عن الأكراد مطلقين المجال أمام بغداد لقتل الآلاف منهم في عمليات عسكرية انتقامية، وعندما أرسل مصطفى بارزاني برقية إلى كيسنجر أكد له فيها حرفيّاً أن “الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية أخلاقية وسياسية تجاه شعبه الذي التزم بسياسة الأمريكيين”، لم يرد عليه كيسنجر إلا بعبارات دبلوماسية لا تقي ضد الرصاص ولا تشفي الجراح، وامتنعت واشنطن عن بذل أي جهود لإنقاذ الأكراد.

أيضاً، في عهد الرئيس جورج بوش الأب، طلب التعاون مع الأكراد للإطاحة بنظام صدام حسين عام 1991م عقب ضربته القاصمة له إبان حرب الخليج في العام السابق مباشرة، وهو ما استجاب له الكُرد، وخاضوا مواجهات شرسة مع النظام العراقي، الذي ما إن قرّر تنفيذ عمليات عسكرية موسّعة في الأراضي الكردية حتى تخلّت عنهم الإدارة الأمريكية وتركتهم يواجهون المجازر الجماعية وحدهم.

وهو السيناريو الذي تكرّر في عهد ترامب لكن داخل سوريا هذه المرة، بعدما تحالف مع الأكراد القاطنين على الحدود التركية السورية، وخاضوا عدداً من المعارك معاً ضد تنظيم داعش خسر الأكراد فيها ألف رجل، سحب ترامب القوات الأمريكية من شمال سوريا عام 2019م، مُفسحاً المجال لتركيا بشنِّ هجومٍ على الفصائل التركية المقاتلة في سوريا، التي اتهمتها بدعم المتمردين الأكراد على أراضيها.

فيتنام: الهروب على جثث المتعاونين

عقب توقيع الأمريكيين اتفاقية باريس عام 1973م، والتي اعتنت بوضع تسوية للحرب في فيتنام، قرّرت واشنطن سحب قواتها من الصراع، وهو ما وضع الجيش الفيتنامي الجنوبي في ورطة، فقواته لم تكن تسمح له بالصمود أمام أعدائه الشماليين.

وكما هو متوقّع سقطت فيتنام الجنوبية – حليفة أمريكا “سابقًا”- في سيناريو نسخة بالكربون مما جرى في أفغانستان، وانهارت الدفاعات الفيتنامية بأسرع مما توقعت المخابرات الأمريكية، كما لم تخلُ تلك الأحداث الدراماتيكية من مشهد يشمل لجوء آلاف الفيتناميين للطائرات الأمريكية؛ طمعاً في الهروب من بلادهم، بالضبط كما تابعنا في النموذج الأفغاني.

الطائرات الأمريكية انتقت عدداً ضئيلاً من المتعاونين الفيتناميين معهم إبان الحرب، أما الباقون فتُرك مصيرهم في مهبِّ الرياح، وعاشوا سنواتٍ مروّعة من التنكيل والاعتقال تحت الحكم الشيوعي الجديد المُعادي لكل ما يمتُّ لأمريكا بصِلة، أحدها تعرُّض عائلات المتعاونين الفيتناميين مع أمريكا للقتل الجماعي على أيدي الشيوعيين في الشوارع بعد أن تخلّت عنهم راعيتهم أمريكا.

شاه إيران للسادات: لا تثق في الأمريكيين

شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي لطالما سعى لإقامة حلفٍ وثيق بالولايات المتحدة طيلة فترة حُكمه، رفضت واشنطن استقباله عقب الإطاحة به من الحُكم إلا بعد إلحاح طويل ولأسباب صحية بحتة، وفضلت عدم دعمه مُجدداً كما فعلت معه سابقاً حينما انقلب عليه محمد مصدّق عام 1953م.

ووفقاً للكاتب الصحفي المصري أنيس منصور، فإن الشاه قال للرئيس المصري السادات ذات يوم: “لا تثق في الأمريكان، ففي الوقت الذي كان فيه جيمي كارتر يرقص مع زوجتي في قصرنا بطهران، كانت المخابرات تعد عدتها للإطاحة بي”.

وهو ذات ما أكدته فرح ديبا أرملة شاه إيران محمد رضا بهلوي، التي كشفت في تصريحات صحفية منذ عامين أن واشنطن رفعت يديها عن دعم الشاه ما إن علمت أن مركبه السياسي يوشك على الغرق.

هذه المرارة بقيت في فم الشاه حتى في أيامه الأخيرة، فبعدما تعقّدت حالته الصحية بسبب انتشار السرطان داخل جسده، كان الشاه في المكسيك حينها ولما أُخبر بضرورة السفر إلى الولايات المتحدة أجاب طبيبه: “كيف يُمكنني الذهاب إلى دولة قضت عليّ؟!”.

أمريكا تدفع ثمن خيانتها

هذا الميراث الأسود لا يغيب أبداً عن أعين الباحثين الأمريكيين، فبحسب آرون ميلر الحاصل على دكتوراه في سياسات الشرق الأوسط والباحث في معهد كارنيغي للسلام الدولي، فإن التخلي المستمر لأمريكا عن حلفائها فور الحاجة إلى ذلك ظلّل على الإدارات الأمريكية المتعاقبة بختم “السُّمعة السيئة”.

وفي تحليله، اعتبر ميلر أن خطورة هذا التاريخ المخزي أنه يُشجع دائماً أعداء أمريكا على ارتكاب المزيد ضدها قائلاً: “إذا انسحبت دولة ما في مواجهة واحدة، فإنها لا بد أن تُواجه المزيد من التهديدات في مكانٍ آخر”، متوقعاً في مقاله المنشور في عام 2019م أن هذه المواقف المخملية ستدفع بوتين لمهاجمة دول حلف الناتو يوماً ما غير عابئ بالعواقب، وكذلك قد تهاجم الصين تايوان!

وفي ذات العام كتب هو وايت أستاذ الدراسات الاستراتيجية الأسترالي يدعو بلاده لإعداد استراتيجية دفاعية ضد التوغل الصيني في آسيا لا تشمل الاعتماد على الولايات المتحدة في أي شيء، لأن الدعم الأمريكي لم يعد مضموناً أبداً حتى لأقرب الأصدقاء.

في كلا المقالتين بدا صاحباهما وكأنهما يتنبآن من كتابٍ مفتوح، فبعد ذلك الميراث الطويل من الخزي دفع الصين للسخرية من جارتها تايوان من أن اعتمادها على أمريكا لحل خلافها مع بكين لن يؤدي بها إلى أن تكون نموذجاً جديداً من أفغانستان، والآن بات علينا أن نفتح القوس ونضيف ضحية جديدة للغدر الأمريكي وهي أوكرانيا.

هذا التخوّف أصبح أكثر من واقعي هذه الأيام، فبعد رخاوة رد الفعل الأمريكي في أفغانستان ثم أوكرانيا، من الوارد جداً أن تتشجع بكين وتحسم خلافاً طويل الأمد مع الولايات المتحدة حول تبعية الصين لها، وبالفعل فقد حذّرت تايوان من اختراق قطع حربية صينية لحدودها، وهو ما قد يشي بأن إدارة بايدن مرشّحة بشدة لدخول التاريخ كأول رئيس أمريكي يتخلّى عن حليفين وثيقين في وقتٍ واحد!

.