الهوة تزداد بين أمريكا وأوروبا

عاطف عبد العظيم

العلاقات بين ضفتي الأطلسي متدنّية. من إيران إلى التجارة مع الصين، إلى التغيّر المناخي، جانبا الأطلسيّ غير متفقين، والغرب منقسم على نفسه.

منذ بداية رئاسة ترامب تزداد حدة التوتر بين أمريكا وحلفائها التاريخيين في أوروبا وتتسع الهوة بين الطرفين. خبراء يرون أن الفجوة ستبقى تتسع بين ضفتي الأطلسي حتى مع وجود جو بايدن، وذلك لأسباب عدة.

إنّ توترات الولايات المتحدة مع أوروبا ليست جديدة. فمن المعروف جيّداً أن حرب العراق فرّقت شركاء الأطلسي، وألقت التداعيات السابقة بظلالها على السياسة. واليوم، بات مفهوم وقيمة التحالف عبْر الأطلسيّ، في حدّ ذاتهما، موضع تساؤل. ودونالد ترامب هو أول رئيس أمريكي حديث يقوّض التكامل الأوروبي، بدلاً من أن يشجعه؛ ويَعتبر الاتحاد الأوروبي تهديداً، لا حليفاً؛ ويحقن حلف الناتو بالاشتراطات والتشكك.

التوتر قديم وقبل ترامب

ببطء، ولكن بشكل مؤكد، يواصل فالق منتصف المحيط الأطلسي توسيع المسافة الفاصلة بين أوروبا وأمريكا الشمالية من الناحية الجيولوجية بمقدار بوصة واحدة تقريبا كل عام. وعلى الصعيد الجيوسياسي أيضا يتكرر هذا الأمر، فقبل جيل واحد من الآن، كانت الولايات المتحدة الحليف الذي لا غنى عنه لأوروبا. بل إن أمريكا بدت تحت رئاسة دونالد ترامب وكأنها “عدو” (على حد تعبير ترامب نفسه) أكثر منها صديق لأوروبا.

بفوز المرشح الديمقراطي جو بايدن، علت أصوات الاحتفال في أوروبا فوق أي صوت آخر. ولن يمر وقت طويل قبل أن يجد الأوروبيون أنفسهم مضطرين للاعتراف بأن الصدع بين القارة وبين الولايات المتحدة يتسع، بغض النظر عن ساكن البيت الأبيض، بحسب المحلل السياسي الألماني أندرياس كلوت.

وقد بدأ توتر العلاقات بين أوروبا وأمريكا قبل وصول ترامب إلى الحكم بوقت طويل. وكانت البداية المتقطعة لهذا التوتر في عهد الرئيس جورج بوش الابن قبل أن يأتي خلفه باراك أوباما ليعيد ترميم الشروخ في العلاقة بين الحليفين، ولكن ما فعله أوباما لم يكن في أغلب الأحوال أكثر من محاولة لتجميل الصورة. وكان أوباما، ومعه نائبه آنذاك جو بادين، هو من أعلن أن محور الاستراتيجية الأمريكية أصبح آسيا وأن المحيط الهادئ، وليس المحيط الأطلسي، هو ما بات يشكل جوهر اهتمام أمريكا.

ازدراء قادة أوروبيين والإشادة بمستبدين

كما أن الرؤساء الأمريكيين السابقين كانوا يشكون، وإن بطريقة مهذبة، من أن الأوروبيين، وبخاصة الألمان، لا ينفقون بشكل كاف على تسليح جيوشهم ويعتمدون على حلفائهم في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وبخاصة الولايات المتحدة، ويستفيدون مجانا من نظام تجاري عالمي شكلته أمريكا. وبحسب التحليل الذي نشرته وكالة بلومبرغ للانباء، يقول أندرياس كلوت إن ما فعله ترامب ببساطة هو نزع الطبقة الدبلوماسية اللامعة عن هذه الخلافات الأمريكية الأوروبية. وكما لم يفعل أي رئيس أمريكي منذ الحرب العالمية الثانية، أظهر ترامب ازدراءه للقادة الأوروبيين مثل المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، حتى وهو يشيد بحكام مستبدين مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

كما أن ترامب لا يعتبر “الغرب” مجتمعا للقيم الليبرالية والدفاع الجماعي ولهذا يبدو أنه يتحلل. وفي حروبه الكلامية، اعتبر ترامب أن الاتحاد الأوروبي هو ثاني أخطر بعبع لأمريكا بعد الصين، وفرض رسوما إضافية على واردات بلاده من الصلب والألومنيوم وغيرها من الاتحاد الأوروبي لحماية “الأمن القومي” الأمريكي.

وحتى على الصعيد العسكري، أثار ترامب الشكوك حول مدى التزامه بحلف الناتو.

ويقول كلوت إن ترامب بدد جميع الافتراضات الأوروبية بشأن العلاقات الجيوسياسية. فمنذ الحرب العالمية الثانية، كانت القوة العسكرية والترسانة النووية الأمريكية أفضل رادع لدى الغرب في مواجهة أي عدوان قد تشنه موسكو. كما أن الحضور الأمريكي على مدار تلك السنوات ساهم في احتواء العداءات الداخلية بين الأوروبيين، كما كان الحال بين فرنسا وألمانيا. وبهذه الطريقة كانت القوة الأمريكية شرطا لتحقيق التكامل الأوروبي. وكانت أمريكا تمثل شخصية الأب للألمان. ولذلك، فإن احتمالات تدهور العلاقات الأمريكية الأوروبية في المستقبل أقوى من احتمالات إصلاحها، حيث إنه لدى اثنين من بين كل ثلاثة أوروبيين نظرة سلبية تجاه الولايات المتحدة، وهناك انقسام كامل بين الألمان بشأن أولوية العلاقة مع الولايات المتحدة أو الصين، ويفضل شباب ألمانيا الصين.

ازدياد الانقسام الأوروبي!

لذلك، ما هي “الخطة ب” أو البديلة لدى الأوروبيين؟

يقول وزير خارجية ألمانيا هايكو ماس “الرد على مبدأ أمريكا أولا (الذي رفعه ترامب) هو أوروبا موحدة”. والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحب الحديث عن “السيادة الأوروبية”، لكن لا أحد يعرف ما تعنيه هذه التعبيرات على أرض الواقع. فتكوين “الجيش الأوروبي” مازال حلما بعيد المنال. ومازال من الصعب حديث وزراء خارجية أوروبا بلسان واحد عندما يتعلق الأمر بفرض عقوبات على هذه الدولة أو تلك.

ورغم أن الأوضاع لن تكون بنفس حدتها بعد فوز بايدن بالرئاسة، فإن التوترات القائمة بين ضفتي الأطلسي لن تختفي. وكما هو الحال بالنسبة لترامب، فإن بايدن سيسعى إلى وقف مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي بين روسيا وألمانيا “نورد ستريم2” (تيار الشمال2)، كما سيواصل الضغط على ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية لزيادة إنفاقها العسكري في إطار الناتو، وسيصر على ضرورة استخدام جيوش هذه الدول في المهام، التي لم تعد الولايات المتحدة تراها مهمة بالنسبة لمصالحها كما هو الحال في شرق البحر المتوسط أو في أفريقيا.

وقبل كل شيء، فإن أي رئيس أمريكي يتوقع من حلفاء بلاده الأوروبيين الوقوف إلى جانب واشنطن في مواجهة الصين. لذلك فكلما تمسك الأوروبيون بمفهوم “السيادة الأوروبية” الغامض، قلت أهميتهم بالنسبة لأمريكا.

.