القيم الغربية وأرواح غير الغربيين

عيسى نهاري*

بينما تشتعل الحرب بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، استعاد الباحث الأميركي بول سوليفان ذكريات المحاضرة التي ألقاها في القاهرة إبان التسعينيات. جاءت المحاضرة بالتزامن مع اندلاع إحدى الأزمات في الشرق الأوسط، وكان موضوعها ميثاق الحقوق الأميركي وتعديلاته العشرة.

يستذكر سوليفان في حديثه لـ “اندبندنت عربية” بأن أول تعليق من الحضور كان كالآتي، “هذا كله عظيم يا دكتور سوليفان، ولكن لماذا تحرم الولايات المتحدة العرب من الحصول على الحقوق نفسها؟“.

يقول سوليفان الذي يعمل منذ عقود باحثاً في شؤون الشرق الأوسط، إن ما انطوى على ذلك التساؤل آنذاك “معركة شاقة”، لكنها اليوم “أكثر تعقيداً”، في ظل الغضب الذي يغزو الشارع العربي، ويلقي بظلاله على رؤيته للعالم الغربي.

ولدى سؤال الباحث الأميركي عن تأثير الموقف الغربي الداعم لإسرائيل في قدرة الدول الغربية على تسويق قيمها الليبرالية بعدما تخلت عنها في غزة وفق مراقبين، أجاب، “عندما ننظر إلى الطريقة التي تنظر بها المنطقة للموقف الأميركي تجاه الحرب، ومدى غضب الشباب وغيرهم في العالم العربي، نلحظ تضاؤل مصداقية الولايات المتحدة في مثل هذه القضايا“.

أما المحزن لسوليفان أن الولايات المتحدة على رغم أنها تتمتع بـ “إمكانات هائلة يجب توظيفها لتحقيق الخير”، إلا أنها أضاعت كثيراً من الفرص والتأثير الدبلوماسي في تعاملها مع الحرب في غزة، وهذه ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة التي يحدث فيها ذلك”، على حد قوله.

“فاقت كل خيال متشائم”

يرجع مراقبون التغاضي أو محاولة تبرير قتل إسرائيل للمدنيين إلى رؤية فوقية يمارسها الغرب، مشيرين إلى صمت دول أوروبية مثل ألمانيا تؤكد على حقوق الإنسان وحرية التعبير في سياستها الخارجية إلا في الأزمة الأخيرة، وحظر النمسا والمجر المسيرات الداعمة للقضية الفلسطينية، ومطالب وزيرة الداخلية البريطانية المقالة سويلا بريفرمان بوقف الاحتجاجات المناهضة للقصف الإسرائيلي على غزة، لأنها “تنشر الكراهية في شوارع لندن”.

يقول هشام الغنام المشرف العام على مركز البحوث الأمنية إن “العرب لن يثقوا بعد اليوم بأن الغرب حريص على حقوق الإنسان أو القيم الليبرالية، وهذا قد ينعكس بالإسراع باتجاه التحول شرقاً، وتمتين العلاقات مع قوى أخرى في العالم وثقافات مختلفة لطالما تجاهلتها دول منطقتنا، بعيداً من الغرب وأكاذيبه”.

وأشار إلى أن “ازدواجية المعايير الغربية لا تمارس على الفلسطينيين وحدهم، ولكن تجاه كل منطقتنا وشعوبها”، واصفاً الحرب الأخيرة على غزة بأنها “فاقت كل خيال متشائم”، وهو ما يؤكد ازدواجية المعايير لدى الدول الغربية والمتجلية في دعمهم لتحرير أوكرانيا من جهة، ودعمهم في الوقت نفسه للاحتلال الإسرائيلي”.

وقال الباحث “قبل 45 عاماً كشف ادوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” عن طريقة تفكير الغرب تجاه منطقة الشرق الأوسط. هم ينظرون إلى شعوب الشرق على أنها أقل شأناً من الشعوب الأوروبية، وأنها بحاجة إلى من ينقذها، وهم يحولون رؤيتهم الفوقية هذه إلى سياسات يمارسونها تجاه كل منطقة الشرق الأوسط.

إضافة إلى النظرة المتعالية، تلعب خصوصية علاقة الغرب بإسرائيل وفق الغنام دوراً في إعطائها الضوء الأخضر “لقتل ألاف الأطفال والنساء وتدمير المستشفيات والمدارس ودور العبادة دون أن يصدر منهم حتى مجرد إدانة لذلك، بل يبررون لها جرائمها باسم الدفاع عن النفس وكأن الشعب الذي يرزح تحت الاحتلال منذ عقود لا حق له بالدفاع عن نفسه”.

التمييز يتكرر في “غزة”

يذكّر ما يحدث لغزة من تغاض غربي رسمي أو تهوين لمأساتها الإنسانية بالمقارنة بين ماريوبول الأوكرانية وحلب السورية التي بدأها المفوض الأوروبي جوزيب بوريل في مؤتمر بالدوحة مارس (آذار) 2022، وأثارت وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان الجالس بجانبه.

قال بوريل إن “ماريوبول الأوكرانية بمثابة حلب لأوروبا”، فرد الأمير فيصل “حلب هي حلب بالنسبة إلينا”. وعلى رغم الرد بهدوء دبلوماسي معهود، إلا أن بوريل قاطعه منفعلاً، “نحن الأوروبيون لم نفجر حلب”، فاستطرد الأمير قائلاً، “أتفهم ذلك، لكن تفاعل المجتمع الدولي مع الأزمتين كان مختلفاً”.

قبل ذلك النقاش المحتدم بأسابيع قليلة، وتحديداً في 26 فبراير (شباط)، تناقل العالم بامتعاض مقطع فيديو لكبير المراسلين الدوليين في قناة “CBS” الأميركية تشارلي داغاتا، يصف فيه معاناة الأوكرانيين من الحرب فقال، “كييف ليست مكاناً كالعراق أو أفغانستان حيث أصبحت فيها الصراعات واقعاً معتاداً. هذه مدينة متحضرة وأوروبية إلى حد كبير، حيث لا تتوقع حدوث ذلك، أو تأمل أن يحدث فيه”.

في الأسبوع ذاته”، قالت مراسلة قناة “ITV” البريطانية لوسي واستون، إن “ما حدث للشعب الأوكراني لم يمكن تصوره، هذه أوروبا وليس دولة نامية من دول العالم الثالث“. هناك أيضاً من قال عبر “BBC” “هؤلاء أوروبيون مثلنا، بأعين زرقاء وشعر أزرق يقتلون كل يوم”.

عيب هذا الطرح ليس وحده التضليل وتحريف الوقائع وفق مراقبين، بل يضاف إليه الافتراض المسبق الذي يقود صاحبه إلى ممارسة العنصرية ضد شعوب أخرى. فمثلاً، الافتراض بأن أي دولة أوروبية بالضرورة مستقرة دفع مراسل “CBS” إلى إغفال قرون الاقتتال التي عصفت بأوروبا. والافتراض بأن أي دولة ناجحة اقتصادياً دفع مراسلة قناة “ITV” إلى تحريف الحقيقة المتمثلة في تصنيف صندوق النقد الدولي لأوكرانيا دولة نامية بسبب أدائها الاقتصادي الضعيف.

ولا هناك أخطأ من الافتراض بأن العراق مكان لا يستغرب فيه الصراع لأنه ليس متحضراً ولا أوروبياً مقارنة بكييف المزدانة بالمعالم الأثرية والتاريخية. للعراق إرثه وثقافته وتاريخه، لكن الحرب تركت مدنه اليوم في حال سيئة، فبغداد التي تعاني آثار الحرب الأميركية والفوضى اللاحقة لا تختلف عن خاركيف الأوكرانية التي أنهكها القصف الروسي، كلاهما مدينتان اعتبرتا في محيطيهما مركزاً للثقافة والشعر والأدباء.

 ومع ذلك، بدا الإعلام المحسوب على الغرب متأثراً بأن الجغرافيا أو الوضع الاقتصادي أو لون البشرة كفيلة بجعل معاناة عرق أقسى من غيره، وهو ما أثار حفيظة كثير من سكان الشرق الأوسط خلال الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وتجلى الامتعاض مجدداً بعد اندلاع الحرب الأخيرة بين فصائل فلسطينية وإسرائيل.

ولم يقتصر الاستياء العربي من التناول الإعلامي، بل شمل مقارنة المواقف والتصريحات الرسمية، إذ تساءل البعض، ما الذي يجعل القصف الإسرائيلي العشوائي على غزة الذي منحته واشنطن الضوء الأخضر وفق منظمات حقوق الإنسان، يختلف عن الضربات الروسية التي نددت بها الولايات المتحدة؟

هيمنة الغرب على “البقية”

يعتبر محللون أن قدرة الغرب على التحكم بالرواية الإعلامية ليست إلا نتيجة للهيمنة الغربية التي تلت صعود الحضارات الغربية في النصف الثاني من الألفية الثانية، فما السر وراء ذلك، وهل للقيم الليبرالية التي تروج لها الدول الغربية كحقوق الإنسان دور في ذلك؟

يقول المؤرخ الأسكتلندي نيل فيرغسون في كتابه “الحضارة: الغرب والبقية” إن صعود الحضارات الغربية “قصة تقع في قلب التاريخ الحديث، وربما يكون اللغز الأكثر تحدياً الذي يتعين على المؤرخين حله. وعلينا حله ليس فقط لإشباع فضولنا، بل لتقدير مدى اقتراب تراجعنا وسقوطنا بأي درجة من الدقة، من خلال تحديد الأسباب الحقيقية للصعود”.

ويحدد فيرغسون ستة عوامل أسهمت في تأثير الحضارات الغربية وقوتها على مدى القرون الخمسة الماضية، لدرجة أن سكان العالم تأثروا بها في مشربهم وملبسهم ونظم حكمهم أكثر من أي حضارة أخرى، وهذه العوامل هي التنافس الاقتصادي، والعلوم، والطب الحديث، والملْكية، والنزعة الاستهلاكية وأخلاقيات العمل البروتستانتية.

إذ ساعد التنافس الاقتصادي والعلوم والملِكية الغرب على التفوق على آسيا والعالم الإسلامي وأميركا الجنوبية، وبفضل التقدم في الطب والاستهلاك والعمل توسع الغرب في أفريقيا، حيث اعتمدت حضارتهم على الطب الحديث، الذي ساعد في إطالة عمر كل من المستعمرين والأفارقة. ثم تفوق الاقتصاد الأوروبي المشترك على إمبراطورية الصين الثرية خلال القرن الخامس عشر، نتيجة للرأسمالية، وحشد الممالك الأوروبية مستكشفين مثل فيسكو دا غاما من البرتغال لاستكشاف العالم ورسم خريطته من خلال محطات تجارية.

وفي حين أعاقت القواعد الدينية التقدم العلمي في الشرق، وفق الباحث، سمحت العلوم بتقدم العالم الغربي وترسيخ مكانته كشرطي العالم، لافتاً بأن من شواهد التفوق الغربي هو أنه في الوقت الذي وجه ملك روسيا فريدريك بفصل الكنيسة عن الدولة وتعزيز نظام التعليم القائم على البحث العلمي، بدأ سلطان الدولة العثمانية عثمان الثالث في تطبيق قوانين دينية تمنع دراسة العلوم.

كما أدى سماح الولايات المتحدة بملكية الفرد إلى تغيير جذري في توزيع السلطة من خلال إعطاء ملاك الأراضي صوتاً في الحكومة. وقال فبرغسون “في البداية، بدا أن أميركا الجنوبية ستصبح الإمبراطورية الأعظم والأكثر ازدهاراً لوفرة الذهب والموارد الطبيعية فيها، وسيطرة الطبقة الحاكمة الصغيرة من الغزاة، ومع ذلك، مهدت أميركا الشمالية بخدمها المجتهدين وملكية الأراضي الطريق لمجتمع ديمقراطي مربح”.

ويشرح فيرغسون أن النزعة الاستهلاكية أسهمت في زيادة التأثير الغربي في العالم خلال الحرب الباردة بعدما هددت الحربان العالميتان بتدمير الحضارة الغربية.

وقتها أصبح الجينز والقمصان الموضة رائجة في جميع أنحاء العالم، ما دفع الكاتب إلى القول، إن “ثورة الملابس وجهت الموجة الأولى من العولمة في القرن العشرين، فأصبحت الأزياء عملة ثقافية ذات جاذبية جماهيرية”.

وأخيراً يعتبر المؤرخ الأسكتلندي “أخلاقيات العمل البروتستانتية” عاملاً حاسماً للنجاح العربي، وتتخلص فيما حدده عالم الاجتماع ماكس فيبر عام 1904، بما يشمل العمل الجاد والإخلاص وضبط النفس، العوامل التي ساعدت على تكوين الرأسمالية وجعلت البروتستانت أغنى من الكاثوليك. ويزعم الباحث بأنه عندما ارتفعت شعبية المسيحية في الصين، ازداد الازدهار الاقتصادي للبلاد.

يبقى السؤال الذي يؤرق الغربيين وغير الغربيين هو إلى متى سيحافظ الغرب على تفوقه، وهل من حظ للحضارات الشرقية لتولي زمام المبادرة؟

يقول المؤرخ إنه على رغم الصعود الصيني وعودة نشاط العالم الإسلامي، فإن “الغرب لا يزال يتمتع بميزة التعددية السياسية، والتنافس التجاري، والتطور العلمي، والتقدم الطبي، والأهم من ذلك كله، مازال الغرب يحتفظ بالحرية والإبداع لكتابة الفصل التالي في الحضارة الغربية”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحافي سعودي