الفتاوى و المعارك السياسية

مصطفى الأنصاري /

عادت الفتاوى السياسية في أوساط عربية وعالمية إلى المشهد مجدداً تثير الرعب والأسئلة، إذ بعد حين من تراجع الفكر المتطرف الذي كان المنجم الأبرز لهذا النوع من الفتاوى، برزت أخيراً حالات ذكرت بأثر هذا الخطاب في الصراعات السياسية في العالم.

برزت في الآونة الأخيرة أمثلة جديدة، خصوصاً في “طعنة رشدي” وتحريض فقيه مغربي على الجهاد لحسم خلاف حدودي، ودفع المفكر الروسي ألكسندر دوغين ثمن فتاواه السياسية غالياً في أعز ما يملك، ابنته، التي قالت روسيا إن عملاء أوكرانيين اغتالوها.

ومع أن الفتاوى لم تكن منفصلة يوماً عن الصراعات في المنطقة، إلا أن تصاعد الأنشطة الإيرانية وسيطرة “طالبان” على أفغانستان وحرب أوكرانيا وسواها، فتحت الشهية لإضفاء البعد الديني والفكري مرة أخرى على الخلافات السياسية، مما ينذر بتأجيجها أكثر، ويخلق بؤر صراع جديدة.

تحالفات مشبوهة مع التطرف

ولاحظ المؤشر العالمي للفتوى أن هناك علاقة بين تنامي الخطاب المتطرف الإسلامي واليميني واضطراب “خريطة القوى العالمية لأسباب سياسية وعسكرية واقتصادية وبيئية تخلف آثاراً اجتماعية”، لافتاً في تقريره الأخير إلى أن ذلك ولد مخاوف بنشوء حرب عالمية ثالثة على هوامش المواجهات الدولية، “تقوض مواجهة الإرهاب وتعزز من وجوده على مساحات كبيرة من الأرض”، وذلك جراء ما سماه “تحالفات علنية أو خفية بين الدول الكبرى والمتطرفين نتيجة بعض الممارسات والأفكار السياسية المساعدة”، مما رجح معه تهيؤ الساحة الدولية والإقليمية بقوة لعودة التنظيمات الإرهابية على مساحة أوسع من الراهنة، خصوصاً بعد أن بات إمكان “دعم بعض الدول تنظيمات إرهابية لتحقيق أهداف استراتيجية أو مكاسب جيوسياسية” أمراً وراداً، في أسوأ السيناريوهات التي رسمها المؤشر الصادر عن دار الإفتاء المصرية.

وفي هذا السياق كشف المؤشر عن الدور الذي تقوم به الفتاوى السياسية في هذا الحقل، إذ قام بتحليل عينة مكونة من ثلاثة آلاف فتوى لبعض التنظيمات الإرهابية الفاعلة بين يونيو (حزيران) 2021 حتى مايو (أيار) 2022، فوجدها متأثرة بمجموعة أحداث أهمها “سيطرة طالبان وغزو أوكرانيا”، إذ كانت الفتاوى وقود تلك التنظيمات للتجنيد والدعم واستحلال الدماء، التي كانت في أكثر الأحيان مسلمة، في مثل منطقة “الساحل والصحراء”، التي قال التقرير إن ضحايا الإرهاب فيها تضاعفوا 1000 في المئة منذ 2007 لتشكل بذلك نصف حالات الوفيات الناجمة عن الإرهاب على مستوى العالم.

وفي أغسطس (آب) من هذا العام، اتهم المجلس العسكري في مالي فرنسا التي دفعها إلى الانسحاب من البلاد بدعم التنظيمات الإرهابية في الدولة والإقليم، وهو ما نفته باريس، إلا أن المسؤولين في باماكو صعدوا التهمة إلى مجلس الأمن الدولي. وفي هذا السياق رأت تقارير إعلامية في عودة “داعش” إلى المشهد في الشرق الأوسط بعد هزيمته، مؤامرة من قوى دولية، أرادت توظيفه.

“طعن رشدي” يحيي فتاوى الدم

ولئن كانت الأنظار تتجه لفواجع مثل أحداث 11 سبتمبر (أيلول) ومذابح تجري هذه الأيام في الصحراء الكبرى ودول الساحل الأفريقي على يد “داعش” وفي الصومال عبر فرع “القاعدة” هنالك (الشباب المجاهد)، فإن تلك الاعتداءات لا بد أن تكون متكئة على “فتوى دم” من فقهاء التنظيم المزعومين، تبيح الدم المسفوك، عبر ذرائع تلك التنظيمات واسعة الحيلة في إسقاط المقولات والآراء الفقهية والآيات القرآنية حيثما شاءت أهواؤهم.

لكن التنظيمات المارقة ليست وحدها التي توظف هذا السلاح في تحقيق أهدافها السياسية، إذ تابع العالم في 12 أغسطس 2022 كيف طعن شاب لبناني متطرف، الكاتب الهندي – البريطاني سلمان رشدي محاولاً قتله، وذلك تطبيقاً لفتوى عمرها أكثر من 30 عاماً، حين أفتى مرشد الثورة الإيراني الخميني بإهدار دم الكاتب رشدي، فيما قال إنه رداً على روايته المسيئة للإسلام “آيات شيطانية”،

ومع نفي أطراف في النظام الحالي أن محاولة الاغتيال كانت مدبرة من جانبه، إلا أن ابتهاج المحسوبين عليه بالخطوة ومباركة أذرعه في لبنان والعراق وإيران العملية، جعل تصديق الرواية الرسمية غير وارد.

وهي الجريمة التي استشعرت شخصيات إيرانية فداحتها، لدرجة دفعتهم إلى إصدار بيان يندد بها، باعتبارها تشكل خطراً على الدولة، ويخشون أن يدفع الشعب الإيراني ثمنها، داعين في ما نقل موقع “راديو فردا” إلى “وضع الخنجر جانباً والإمساك بالقلم… وأن التخويف والإرهاب قد يغلقان الأفواه على المدى القصير، لكنهما يفرزان بذور الكراهية والعداوة”.

“الدبابة” على الحدود الجزائرية – المغربية

وغير بعيد عن ولاية الفقيه في إيران صار مشهوراً توظيف تيارات الإسلام السياسي السنية والشيعية “الفتوى” في ترجيح كفة جمهورها أو معركتها السياسية، في مثل أحداث ما يسمى “الربيع العربي”، التي كانت فيها الفتاوى تقاتل جنباً إلى جنب مع الدبابات أثراً وتبريراً وتجنيداً.

ومع ما خلقت تلك المرحلة من الصراعات والشقاقات جراء ذلك التوظيف، إلا أن “اتحاد العلماء المسلمين” الذي يعتبر لسان الإخوان المسلمين الفقهي العابر الحدود لم يتعلم من تلك الحقبة، وفق ما يعتبر ناقدوه، فلم يمض وقت طويل على تصريحات رئيسه أحمد الريسوني التي زادت العلاقات بين المغرب والجزائر المشتعلة أصلاً، توتراً، حتى أصدر أمينه العام علي القرة داغي بياناً بارك فيه العلاقة بين إسرائيل وتركيا.

هذا التناقض أثار لغطاً وأسئلة أكثر حول موضوعية الاتحاد المشكوك فيه ابتداءً، بوصفه أحد تركات يوسف القرضاوي، ومنابره التي تخدم مشروع الإخوان السياسي، تحت ذريعة الفقه والفتوى، و”النصح للمسلمين أينما كانوا”، وفق أبجديات الاتحاد، وهو الذي كان بالأمس يخون دولاً إسلامية أخرى قامت بعلاقة شبيهة أو أقل من التي أعلنت عنها أنقرة، ووجدها بيان داغي، “بالغة الأثر في تخفيف معاناة شعبنا الفلسطيني الصامد”، مصدراً قوله بآية قرآنية، ترخص في هذا النوع من “البر والقسط”!

أما الريسوني فإنه في الوقت الذي دعا فيه ملك المغرب محمد السادس مواطنيه إلى الكف عن الإساءة إلى الجزائر بأي شكل، كان هو دعا إلى الزحف نحو “تندوف” (المنطقة الحدودية) وإعلان “الجهاد” لحسم الخلاف الدائر برؤية دينية، مما أثار قدراً هائلاً من اللغط بين شعبي البلدين. واعتبر على نطاق واسع سواء في المغرب أو الجزائر تصريحاً “متهوراً وعديم المسؤولية”، وفقاً للكاتب المغربي إسماعيل الحلوتي.

لم يكن هذا التوظيف للفتاوى مفاجئاً طبقاً لتاريخ التيارات الإسلامية والأنظمة المتصارعة، إلا أنه يذكر مجدداً بأي دور خطر يمكن للفتوى أن تلعبه، وسط مجتمع عربي استوقف مجلة “فورين بوليسي” حجم استهلاكه للفتوى وإصدار وتتبع غرائبها، إذ “يمكن تكريسها لأي موضوع، كبيراً كان أم صغيراً، ويبحث عنها المخلصون باستمرار مثل الزيوت التي تلطف”.

وتعتبر المجلة السياسية الأميركية أن العدد الهائل من الفتاوى التي يتم إصدارها الآن عربياً “يثير سؤالاً حول مدى شرعيتها، فهي في بعض الأحيان تقدم تبريراً دينياً واهياً لكل أنواع الفوضى”.

وكان مؤشر الفتاوى المصري رصد قبل عامين 1.5 مليون فتوى، تبحث قضايا مختلفة، وحلل بعض محتواها الذي كان يتأثر غالباً بالأحداث السياسية مثلما سبقت الإشارة.

“مقتدى الصدر” وألغام الحروب القديمة

ويتم في هذا السياق استدعاء فتاوى أقدم في عصور مضت لتجيب عن أسئلة الحاضر، ويفجرها الخصوم ضد بعضهم بعضاً، على نحو شبهه الكاتب السعودي عبدالله البخيت بألغام الحروب القديمة التي تتفجر في الوجوه بغتة، تبتر الأطراف وتشوه أجساد الأبرياء الذين لم يكن لهم دخل في صراع من زرعوها قبل عقود.

لهذا يرى البخيت أن “شيخ الدين الذي كان عليه زمن ابن تيمية يجب أن يموت. اليوم لن يسمح العلم لرجل الدين بالتحدث في الحرب، فهذا شأن الجيش وقرار الحرب في يد الملك حصرياً حتى وإن دس تحت كلمة جهاد”.

لكن طوفان المريدين العراقيين الذي اقتحموا القصر الجمهوري في بغداد استجابة لفتاوى وتوجيهات رجل الدين “مقتدى الصدر” بين مؤشرات عدة على أن توظيف الدين في السياسة لم يزل حياً في أذهان الشيوخ والمريدين. 

على الرغم من ذلك رجحت تقارير أن آثار توظيف الدين السلبية في المعارك السياسية دفعت إلى تراجع كبير بين أعداد المتدينين في الدول العربية بحسب استطلاع لصالح “بي بي سي” البريطانية، إذ كان محللون توقعوا بأن فظائع “داعش” وكوارث صعود الإسلام السياسي في حركات إرهابية مثل الإخوان المسلمين ستسهم في النفور من الدين لدى شرائح واسعة في المجتمع العربي.

الاستطلاع، الذي شارك فيه أكثر من 25 ألفاً من سكان عشر دول إضافة إلى الأراضي الفلسطينية في أواخر عام 2018 وربيع عام 2019، خلص إلى وجود طيف واسع من الآراء حول قضايا شتى من الدين إلى حقوق المرأة، فهل يعني ذلك أن نفوذ رجال الدين بالتالي توظيف فتاواهم السياسية سيشهد تراجعاً؟

ملائكة ينظرون بإعجاب للجنود الروس

إذا كانت دول العالم الثالث تنظيمات ودولاً اعتادت استخدام الأدوات الدينية في معاركها، فإن المجتمعات الغربية ليست في منأى عن تناقضات ومفارقات هذا الميدان، حتى وإن جرى تغليفه أحياناً بقوالب فكرية وأناقة خطابية.

ففي الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا حضر مصطلح “الحروب الصليبية” كثيراً من الطرفين، إما باستخدام الجملة نفسها، أو معناها الاصطلاحي، وهو “الحرب المقدسة” التي يذهب قتلاها “شهداء إلى الجنة” وأعداؤهم إلى الجحيم، خصوصاً من جانب الروس ومنظرهم المعروف عالمياً ألكسندر دوغين، وهو الذي يعتقد أن فتاواه في التبرير لغزو كييف أهم محركات الانتقام منه باستهداف ابنته أو شخصه في عملية دامية، سارع بوتين إلى إدانتها.

وهكذا صار الدفاع العقائدي عن الصراع شائعاً، حتى من جانب الكنائس والمفتين في كل من كييف وموسكو والغرب، فلا يجد رئيس الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا البطريك كيريل غضاضة في تصوير الصراع على أنه حرب مقدسة تتجاوز السياسة، قائلاً، “لقد دخلنا في صراع ليس له أهمية مادية، بل ميتافيزيقية”، أي دينية، وفقاً لما وثقت مجلة “الإيكونوميست” التي صورت في تقرير لها كيف أن فسيفساء بكاتدرائية القوات المسلحة الروسية، غرب موسكو، “تظهر ملائكة تنظر بإعجاب إلى الجنود الذين قضوا في معارك الجيش في جورجيا وشبه جزيرة القرم وروسيا”، مما يعكس بحسب اعتقاد المجلة مدى الارتباط التاريخي للكنيسة الأرثوذكسية الروسية ومعارك النظام الحاكم.

بل إن المحلل السياسي الروسي ألكسندر نازاروف كان صريحاً في اعتبار “العقيدة” هي ما يوحد الغرب ضد بلاده، مؤكداً بحسب تصوره أن “الغرب الآن مثلما كان إبان الحروب الصليبية توحده العقيدة”.

ورفض في حديث مع “روسيا اليوم” النظر إلى الحروب الصليبية بوصفها حرباً بين المسيحية والإسلام، إذ رأى أن تلك الفكرة إنما يستخدمها المتطرفون الإسلاميون في محاولاتهم لحشد الجماهير لمواجهة الإمبريالية الغربية.

وأضاف، “إننا إذا ما نظرنا إلى السياق والحقائق التاريخية فسنرى أن البلاد الإسلامية لم تكن الهدف الوحيد للحملات الصليبية، فقد أعلن بابا روما رسمياً أن الحملات الصليبية هي ضد المسلمين والوثنيين من سكان بحر البلطيق ومسيحيي الكنيسة الشرقية من السلاف (الذين أسسوا روسيا في ما بعد)”.

في الجانب الأميركي وإن كان جاء مصطلح “الحروب الصليبية” على وجه التحذير من جانب وسائل إعلام، إلا أن خطاب اليمين المتطرف ونظريات المحافظين الجدد التي يلهم بعضها المفكر برنارد شو، وأخرى ليبرالية ينظر لها أمثال الفلسفي فرنسيس فوكوياما عن “نهاية التاريخ” والرد عليها “صدام الحضارات”، تروج لفتاوى تبدو أكثر سلمية، إلا أنها في تأثيرها لا تقل خطراً عن فتاوى المدونات الفقهية التي يوظفها بعض الإسلاميين حديثاً.

ويدافع الصحافي الأميركي ويليام بولك الذي عمل طويلاً في منطقة الشرق الأوسط، عن تشابه نظريتي “الصليبية، والجهاد” في الفكر الإسلامي والغربي، وسيطرة أفكارهما بالتوازي على الحضارتين، مضمناً تفاصيل ذلك في كتاب له من 582 صفحة، حمل العنوان نفسه، حاول فيه التعمق في أسباب الصراع الممتد بين “الشمال” و”الجنوب”، لأسباب في نظره تتجاوز تفسير بوش الابن للإرهاب، إلى آثار أبعد في التاريخ، حاول قراءتها لفهم الحاضر الأكثر تعقيداً.

اندبندنت