هل أصبحت ألمانيا رهينة لـلغاز؟

عادل فهمي /

“ألمانيا يمكن أن تتجمد هذا الشتاء، إذا واصلت فرض عقوبات علينا”، تبدو هذه رسالة “روسيا” من وراء تخفيض إمدادات “الغاز” إلى “ألمانيا” و”إيطاليا”، الأمر الذي يطرح تساؤلاً مُلحًا: من يكون المتضرر الأكبر إذا قرر الرئيس الروسي؛ “فلاديمير بوتين”، قطع إمدادات “الغاز” تمامًا عن “أوروبا”: “موسكو” أم خصومها الغربيون ؟

فبعد أشهر من الحرب الأوكرانية وما تبعها من فرض “أوروبا” عقوبات على “موسكو”، شملت حظرًا كليًا لـ”الفحم”، وجزئيًا لـ”النفط”، قررت “روسيا” خفض إمدادات “الغاز” إلى “ألمانيا”؛ أكبر عميل لـ”الغاز الروسي”” في العالم، وكذلك “إيطاليا” إحدى كبار زبائنه، مما يُهدد بكارثة حقيقية لـ”برلين” تحديدًا إذا توسعت “العقوبات الروسية”.

وسبق أن فرضت “روسيا” حظرًا على تصدير “الغاز” لعدد من الدول الأوروبية لرفضها شراءه بـ”الروبل”، منها: “بلغاريا وبولندا والدنمارك وهولندا” وغيرها.

ولكن هذا الحظر استهدف إما دولاً لم تُعد تعتمد على “الغاز الروسي”، بشكل كبير، وإما أن أسواقها صغيرة، ولذلك يمكنها استبدال الإمدادات الروسية بمصادر أخرى.

ولكن القرار الروسي الأخير قلل من توريد “الغاز”؛ لـ”ألمانيا”، أكبر مستهلك للطاقة في القارة، وكذلك “إيطاليا” التي تُعد من كبار المستهلكين بـ”الاتحاد الأوروبي”، مما يجعل تأثيرات القرار كبيرة حتى لو كانت “العقوبات الروسية” خفضًا وليست قطعًا، ولكن الأخطر أن القرار إنذار بإمكانية القطع الكامل.

وحتى قبل هذا القرار؛ بدأت المصانع الأوروبية، التي تعتمد منذ فترة طويلة على الطاقة الروسية الرخيصة، في وقف أعمالها.

مبررات “موسكو”..

وأعلنت شركة (غازبروم) الروسية العملاقة، في يونيو 2022، خفضًا جديدًا لشحناتها من “الغاز” إلى “أوروبا”، عبر خط أنابيب (نورد ستريم) بمقدار الثُلث.

ومن بين الأسباب التي قالتها “موسكو” لتبرير قرار تخفيض إمدادات “الغاز” إلى “ألمانيا”، عدم توافر ضواغط من شركة (سيمنز) الألمانية، إذ: “لا يمكن في الوقت الحالي استخدام سوى ثلاث وحدات لضغط الغاز” في محطة الضغط (بورتوفايا)؛ بشمال غربي “روسيا”، حيث يجري تزويد خط (نورد ستريم-1).

وكانت (غازبروم) قد أعلنت عن خفض إنتاجها من: 167 إلى: مئة مليون متر مكعب، وبذلك يصل خفض الإمدادات اليومية الإجمالي عبر خط الأنابيب الذي يربط “روسيا” بـ”ألمانيا”؛ عبر “بحر البلطيق”، إلى نحو: 60%.

بموازاة ذلك، خفضت (غازبروم) شحنات “الغاز” إلى مجموعة (إيني) الإيطالية؛ بنسبة: 15%.

ونددت “ألمانيا” بالقرار، ووصفته بالسياسي.

هل تستطيع “أوروبا” و”ألمانيا” الاستغناء عن الغاز الروسي ؟

تختلف دول “أوروبا” في مدى اعتمادها على “الغاز الروسي”، إذ تُمثل الإمدادات الروسية نحو: 55% من الواردات إلى “ألمانيا” قبل الحرب، و100% لدول مثل: “لاتفيا وجمهورية التشيك”، حسب صحيفة (الغارديان) البريطانية.

وإضافة إلى “الغاز”، كانت “برلين” تعتمد على الواردات الروسية في توفير: 50% من استهلاكها لـ”الفحم”؛ و35% من استهلاكها النفطي، عندما غادرت “أنغيلا ميركل”؛ منصب مستشارة “ألمانيا”، في أواخر العام الماضي، جراء سياساتها لضمان الطاقة الرخيصة.

”ليتوانيا” هي الدولة الوحيدة التي أوقفت استيراد الوقود من “روسيا”، في 03 نيسان/إبريل 2022، مع بقاء بقية القارة ممزقة بين احتياجاتها من الطاقة وعدم الرغبة في وضع أموال بخزائن “روسيا”، حسبما ورد في تقرير لموقع (إكوارتز).

وقبل العملية الروسية العسكرية في “أوكرانيا” لم تكن هناك خطة طواريء ألمانية لتأمين إمدادات أخرى. كما لم يكن لدى الحكومة بديل عملي للواردات الروسية، حسب تقييم أجراه نائب المستشار وزير الاقتصاد؛ “روبرت هابيك”، عقب توليه السلطة؛ في كانون أول/ديسمبر الماضي.

ولكن مشكلة “ألمانيا” ليست فقط في كونها تعتمد بشكل كبير على “الغاز الروسي”، ولكنها أيضًا مستهلك ضخم، يصعب عليه إيجاد بدائل في ضوء قلة المعروض بالسوق، كما أنه ليست لديها حتى الآن منشآت لتسييل “الغاز” لاستقبال “الغاز” القطري أو المصري أو الأميركي القادم من وراء البحار، وفي أفضل الأحوال سوف تعتمد على استقبال “الغاز المُسال” الذي يصل لدول أوروبية أخرى ثم نقله عبر الشبكات الأوروبية لـ”ألمانيا”.

بدائل ألمانية مستقبلية

وعززت “ألمانيا” ودول “الاتحاد الأوربي” جهودها لإيجاد بديل لـ”الغاز الروسي”، حيث بحثت “برلين” مع “قطر” استيراد “الغاز المُسال”، كما وقَّع “الاتحاد الأوروبي” اتفاقًا إطاريًا مع “مصر وإسرائيل” لنقل “الغاز المُسال” الإسرئيلي والمصري من منشآت التسييل المصرية إلى “أوروبا”، بينما عقدت “إيطاليا” اتفاقًا لتعزيز مشترياتها من “الجزائر” القريبة منها.

ولكن حتى الآن؛ لم يظهر أنه تم الوصول لاتفاقات نهائية، مع هؤلاء، وهناك تساؤلات حول إمكانية أن يكون “الغاز” المُستقدم من هذه الدول كافيًا لاستبدال “الغاز الروسي” المُصدَّر لدول “الاتحاد الأوروبي”؛ والذي يُقدَّر حجمه في عام 2021؛ بـ 155 مليار متر مكعب من “الغاز الطبيعي” من “روسيا”، وهو ما يُمثل نحو: 45% من واردات “الاتحاد الأوروبي” من “الغاز” وما يقرب من: 40% من إجمالي استهلاك “الغاز”.

في حين أن الحديث عن زيادة تُقدر بأقل من عشرة مليارات متر مكعب من “إسرائيل ومصر” وليس بشكل فوري، أما “قطر” التي تُعد ثاني أكبر مُصدّر لـ”الغاز” بعد “روسيا”، فإنه لم يُعرف حجم “الغاز” الذي تنوي تصديره لـ”أوروبا”؛ وتحديدًا “ألمانيا”، ولكن “الدوحة” لديها إلتزامات قديمة تجاه زبائنها المخلصين في “آسيا”، وهم زبائن، بعضهم حلفاء لـ”أميركا” ويُفترض أنهم معادون لـ”موسكو” بالتالي، وحتى المحايد منهم في الأزمة يصعب عليه إيجاد بديل لـ”الغاز القطري” عبر الشراء من “روسيا”، لأن معظم “الغاز الروسي” الموجه لـ”أوروبا” يأتي من “منطقة الأورال”؛ وليست هناك وسيلة يسيرة لنقله إلى “آسيا”.

كما أن القطريين اشتكوا من إصرار الأوروبيين على أنهم لا يُريدون إبرام تعاقدات طويلة الأجل في مجال “الغاز”، وهو الأمر الذي تُريده “الدوحة” لكي تستطيع توجيه استثمارات كبيرة لعملية التصدير لـ”أوروبا”.

ولكن إذا قلل “بوتين” إمدادات “الغاز”، قبل أن تجد “برلين” البديل، فإن قدرتها على ملء مخزونات “الغاز” المخصصة للشتاء سوف تتراجع.

وإذا قرر “بوتين” بدلاً من تخفيض إمدادات “الغاز”؛ لـ”ألمانيا”، قطعها، فإن “برلين” قد تكون في مأزق كبير، وقد يمر الاقتصاد الألماني بركودٍ حاد.

وقال “ستيفان كوثس”، نائب الرئيس ومدير الأبحاث لدورات الأعمال والنمو في معهد “كيل”: “سوف يحدث تغيير بالنسبة للصناعات كثيفة الاستخدام للغاز حتى بدون مقاطعة”. وأضاف أن التضخم سيؤدي إلى تفاقم مشاكل الأسر ذات الدخل المنخفض ويُزيد التكاليف الاقتصادية الإجمالية.

وقدَّرت دراسة لمجموعة من معاهد الطاقة الألمانية؛ الشهر الماضي، أنَّ توقف إمدادات “الغاز والنفط” الروسيَّين فجأةً قد يُفقد الاقتصاد الألماني: 12% من ناتجه المحلي الإجمالي.

ولكن الأمر قد يتعدى الخطر الاقتصادي إلى خطر على حياة المواطنين، ففرض حظر على “الغاز الروسي” في المدى القريب، من شأنه أن يعيث فسادًا في اقتصاد “ألمانيا”؛ إذ لا تستخدم “ألمانيا”؛ “الغاز الروسي”، لتوليد الكهرباء والمساعدة في تشغيل مصانعها فحسب، بل في تدفئة المنازل، حسبما ورد في تقرير لموقع شبكة (CNBC) الأميركية.

هل تستطيع “روسيا” قطع الغاز عن أوروبا ؟

السؤال المحوري هنا: هل يمكن أن يُخاطر الرئيس الروسي؛ “فلاديمير بوتين”، بقطع “الغاز” عن “أوروبا”؛ وتحديدًا “ألمانيا”، مما يعني فقدانه دولارات ثمينة هو في أمسِّ الحاجة لها في وقت تُحارب قواته بـ”أوكرانيا” ويُحاصَر اقتصاده من قِبل الغرب، وفُرض حظر على تصدير نفطه إلى “أوروبا” ؟.

للإجابة عن هذا السؤال، يجب فهم أن “روسيا” تُعد دولة مهمة، ولكن ليست الأهم في تصدير “النفط”، غير أنها تُعد الدولة الأولى والمركزية في مجال تصدير “الغاز”.

ولكن رغم ذلك؛ إيراداتها من “الغاز” أقل بكثير من إيراداتها من “النفط”، المشكلة بالنسبة لـ”أوروبا”؛ وخاصة “ألمانيا”، أنه بينما يمكن لها إيجاد بديل لـ”النفط الروسي”، فإن الأمر أصعب بالنسبة لـ”الغاز”، لسببيين: أن نسبة صادرات “روسيا” من “الغاز” كبيرة جدًا فهي الأكبر عالميًا بنسبة تُعادل ربع صادرات العالم، بينما نسبتها أقل في تجارة “النفط” العالمية، كما أن “الغاز” أصعب في تداوله من “النفط”، حيث يعتمد بشكل كبير على النقل عبر الأنابيب، والتسييل يحتاج إلى مرافق مجهزة مسبقًا، وهي نادرة في “أوروبا”، ولاسيما “ألمانيا” تحديدًا.

وبلغ إجمالي صادرات “روسيا”: 489.8 مليار دولار في عام 2021، حسبما نقل تقرير لوكالة (رويترز) عن البنك المركزي.

من إجمالي الصادرات الروسية، بلغت قيمة “النفط” الخام: 110.2 مليار دولار، والمنتجات النفطية: 68.7 مليار دولار، و”الغاز الطبيعي” عبر خطوط الأنابيب: 54.2 مليار دولار، و”الغاز الطبيعي المُسال: 7.6 مليار دولار.

أي إنه في العام الماضي؛ وبينما كانت أسعار “النفط والغاز” منخفضة أو طبيعية، شكل مجمل إيرادات “روسيا” من “الغاز” نحو: 70 مليار دولار، بينما بلغت قيمة مبيعات “النفط” ومشتقاته نحو: 170 مليار دولار، وفي الأغلب هذه الأرقام قد زادت بمعدل أعلى من الضعف بعد قفزة أسعار الطاقة إثر الحرب الأوكرانية.

ويعني هذا أن “روسيا” يمكن أن تستخدم ورقة “الغاز” لإيلام “أوروبا”؛ ردًا على حظرها “النفط الروسي”، دون أن تضرر ماليًا، رغم أنه يصعب أن تبيع “الغاز” المخصص لـ”أوروبا” في أسواق أخرى؛ وذلك لسببين: أنها تستطيع إيجاد بدائل لـ”النفط”؛ الذي تبيعه لـ”أوروبا” في أسواق أخرى مثل “الصين والهند”.

الأمر الثاني أن الارتفاع الكبير في أسعار “النفط” يعني أنها ستعوّض ثمن “الغاز”؛ الذي قد تقطعه عن “أوروبا” من خلال الزيادة التي حققتها في أسعار “النفط”، حتى لو لم تستطع بيع غازها المخصص لـ”أوروبا” لزبائن آخرين، لأنه يأتي من حقول “منطقة الأورال” التي لا ترتبط بأنابيب مع منطقة “شرق آسيا”؛ (يمكنها تسييل جزء في البحر الأسود وبحر البلطيق ثم نقله عبر قناة السويس، إلى زبائنها الآسيويين، ولكنه لن يكون كبيرًا).

رسالة “بوتين”: لا يمكن فرض عقوبات مناسبة لكم دون أن تتوقعوا أن نرد..

حتى الآن، لم تقطع “روسيا”؛ “الغاز”، عن “ألمانيا” وأسواق “أوروبا” الرئيسة، ولكن من الواضح أن تخفيض الإمدادات له هدفان.

الأول: تقليل قدرة “ألمانيا” وبقية دول “أوروبا” على تخزين “الغاز”، في موسم الصيف استعدادًا للشتاء، وهي مسألة حيوية جدًا.

الثاني: رسالة بإمكانية قطع “الغاز” تمامًا مع توضيح أن هذا لن يضر “موسكو”.

فحتى الآن فرضت “أوروبا” عقوبات انتقائية على “روسيا”، فما تستطيع استبداله فورًا، حظرته تمامًا مثل “الفحم”، وما تستطيع استبداله جزئيًا أو بعد فترة وهو “النفط”، حظرته بشكل جزئي أو على مدى زمني أطول، وما لا تستطيع استبداله في المدى القريب والمتوسط، لم تحظره على الإطلاق.

وقام “الاتحاد الأوروبي” بوضع خارطة طريق للعقوبات، موائمة لمصالحه كتكتل، ولمصالح حتى أصغر أعضائه مثل: “المجر”، التي حظيت باستثناء من حظر “النفط”، و”قبرص واليونان”، اللتين حظيتا باستثناء مؤقت من العقوبات على شحن وتأمين “النفط الروسي”.

ولكن “بوتين” يلوّح بإلقاء حجر يُفسد الخطط الأوروبية، وهو: “لن نسمح لكم بفرض عقوبات مناسبة لكم، إذا كنت ستعاقبوننا بطريقة مُريحة لكم، فلتكن مقاطعة شاملة، وسنكون نحن الطرف الأقل تضررًا منها”.

ولكن لماذا تأخر “بوتين” في اتخاذ هذه الخطوة بعد خمسة أشهر من الحرب ؟

على الأرجح، “بوتين”، لا يُريد قطع شعرة معاوية مع الألمان.

كما أنه يُريد تأخير هذه الخطوة لاتخاذها في مرحلة تكون فيها “برلين” قد بدأت عملية تخزين “الغاز” المخصص للشتاء، بحيث يكون التوقيت متأخرًا بما يكفي لكي يُشكل صعوبة أمامها لإيجاد البدائل.

كما أن التأخر قليلاً سمح له بتحقيق تقدُّم بطيء لقواته في “شرق أوكرانيا”؛ (على حد مزاعم التقرير البريطاني)، وتحقيق انتصارات عسكرية، مع ظهور مؤشرات على بدء تراجع الزخم الأوروبي الداعم لـ”كييف”، وبعد أن أصبحت الأزمات الاقتصادية والتضخم هي الشغل الشاغل للرأي العام في الغرب، وظهور أصوات؛ كصوت الرئيس الفرنسي؛ “إيمانويل ماكرون”، تدعو إلى عدم إهانة “موسكو”، وتُطالب “كييف” بالتفاوض بما يحمله ذلك من دعوة ضمنية للتنازل عن بعض أراضيها بشكل غير رسمي.

وإذا مر الصيف دون حل “ألمانيا” تحديدًا لمشكلة “الغاز”، واقترب الشتاء وشبح تجمُّد الألمان في منازلهم بسبب نقص الطاقة، مازال ماثلاً، فإن ذلك قد يجعل “برلين” أقل حماسة لمعاقبة “روسيا”. وإذا بدأت المفاوضات التي تحدَّث عنها “ماكرون”، فإن ما تُريده “موسكو” ليس أن يكون الوضع الأوكراني فقط هو محور المباحثات، بل “العقوبات الغربية” عليها ضمن سلة التفاوض.

فبرد الشتاء القادم هو رهان “بوتين” الأساس لتخفيف “العقوبات الغربية” على بلاده، و”ألمانيا” التي قادت التوجه الأوروبي للاعتماد على “الغاز الروسي”، تبدو رهينة لـ”بوتين” أكثر حتى من “أوكرانيا”؛ بحسب تعبير التقرير البريطاني.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وكالات/مواقع

.