العالم يستعد لحقبة جديدة

 

د/ أمير حمد

تنازلت ميركل عن منصبها كرئيسة لحزبها الحاكم CDU المسيحي الديمقراطي فتوالت اثر ذلك أصوات البرلمانيين من حزبها في مناقشات عن من يتولى هذا المنصب من بعدها.
الانتخابات المحلية هذا العام كانت سببا في استقالة هورست زيهوفر وزير داخلية ألمانيا عن رئاسة حزب CSU المسيحي الاجتماعي الحليف في الحكم، كما شهد العام إقالة رئيس مكتب حماية الدستور من منصبه، لوصفه سياسة ميركل الخاصة بالأجانب بالساذجة ووجود تيارين راديكاليين بحزب SPD الاشتراكي الديمقراطي شريك ميركل في الحكم الراغبين في حل الحكومة .

من الواضح أن السياسة الأمريكية الـ “دونالدية” تتبع نهج التأثير المباشر على دول العالم بكل القضايا كقضية البيئة واحترام حقوق النساء والصحافة وكذلك هجرة اللاجئين.
صرح دونالد ترامب قبيل الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي أنه ضد هجرة لاجئي أمريكا الجنوبية وعليه فقد قرر تأمين الحدود الجنوبية المتاخمة للمكسيك ببعثه آلاف الجنود لكبح الهجرة السرية. يقول أن رمي الجندي الأمريكي بحجر بمثابة رميه برصاصة وعليه يجب الرد بإطلاق النار دون اعتبار !!
لم يقف ترامب عن التوغل في شق أمريكا بين أجانب وأمريكان وفقراء وأقليات وبين أثرياء. كل المقصود هو الدفاع عن أمريكا وإعادتها إلى مركزها الأول في العالم ، بهذا الشعار أكد ترامب سياسته المستفزة وأغرى الأمريكان بالتطور الاقتصادي الذي أحدثه بتخفيض الضرائب وتوسيع قطاع توظيف العاطلين عن العمل.
يقول بأن أمريكا ليست ألمانيا تفتح بابها للكل حتى الارهابيين فيقتلوا المواطنين ويغيرون المنظومة الاجتماعية والثقافية.
رد أكثر من سياسي ألماني على هذا الاتهام بتعلم ألمانيا من أخطائها الأمر الذي لا يعني أن تغلق بابها أمام اللاجئين المطاردين حقا. نعم للاجئين ولا للإرهابيين والمستغلين لحق اللجوء.

بعد أعوام عديدة من رئاسة حزب CDU المسيحي الديمقراطي استقالت أنجيلا ميركل، فألقى لها الرؤساء والسياسيون القبعات على البساط احتراما لها وتقديرا لسياستها الانسانية المنفتحة. تقول ميركل بأنه حان الوقت لإتاحة تقليد منصب رئاسة الحزب لغيرها وإن كنت قد ربطت تقليد هذه المهمة بمنصب المستشارة لمساندة كل وظيفة منها للأخرى.
هذا وقد قدم تقرير علمي اعترافا بجهود ميركل زعيمة ألمانيا الدولة الأولى الأكثر دعما لدول أفريقيا وآسيا. لقد كان قرار ميركل بفتح الحدود عام 2015 للاجئين سلاحا ذو حدين، فمن جانب نالت ألمانيا اعجابا كبيرا من دول العالم لدعمها للاجئين والاستفادة من تجربة الحرب العالمية الثانية ومن جانب أخر اشتدت كراهية وحقد الأحزاب المتطرفة للاجئين بل وأدى ذلك لتكوين حزب AFD البديل الذي يمثل أكبر معارضة برلمانية وممثل في جميع ولايات ألمانيا في الوقت الراهن.
ذهبت ميركل كرئيسة للحزب غير أن أزمة اللاجئين لا تزال تنسب في معظم الأحوال إليها، أي سوء سياستها وإدارتها. يقول متحدث حزب اليسار بأن ميركل لم تكن على خطأ وإنما كان من الممكن استقطاب اللاجئين تدريجيا بعد التأكد من هوياتهم حتى لا يحدث الذي حدث من أعمال تخريب وإرهاب بألمانيا.
ورد في استاتيكيا أجراها معهد البحوث السياسية الألماني بأن معظم الألمان يشتاقون إلى ألمانيا قبل التغييرات الأخيرة “الرابطة الأوروبية ووجود اللاجئين” يقول معظم الألمان بأن خوفهم ليس من التنافس على سوق العمل وحده بل من تلاشي وتمزق صورة ألمانيا التي عرفوها آمنة يسودها النظام والمنظومة المنضبطة.
لهذا أكد سارتسين بنظراته المتطرفة في كتابيه بأن ألمانيا بدأت بالفعل بهدم بنيتها والتنكر لمواطنيها لصالح الأجانب واللاجئين.
لا غرابة أن نقرأ في أكثر من صحيفة ألمانية بأن ميركل “آخر جندي في جبهة القتال ضد التطرف والانطلاق والعداء للأجانب والآخر المختلف. نعم هذه هي ميركل البروتستانية ـ ابنة القس التي استطاعت بجدارة رئاسة حزبها ديمقراطيا 18 عاما دون انقطاع.

الحدود الفاصلة بين حرية التعبير.. وازدراء الأديان
أربعة أخبار لفتت نظري في صحف الشهر الماضي كونها تمس العلاقة الشائكة بين حرية الإنسان في التعبير عن آرائه وما يعرف بازدراء الأديان أو التجديف أو الإساءة للشخصيات الدينية، وهذا موضوع في غاية الأهمية لأن الخطوط الفاصلة بين القضيتين غير محددة تماما من ناحية، وبسبب أن الأخيرة قد ظلت تستخدم كأداة لتكميم الأفواه وغطاء لخدمة الأجندة السياسية من ناحية أخرى.
ـ الخبر الأول تناول نتائج الاستفتاء الذي جرى في جمهورية إيرلندا حول إلغاء المادة المتعلقة بتهمة ازدراء الأديان من الدستور، حيث صوت 64.85% لصالح إلغاء المادة في مقابل 35.15% طالبوا بالإبقاء عليها، وبالتالي سيتم إبعاد تلك المادة من نصوص الدستور.
ـ أما الخبر الثاني فهو يتعلق بقرار المحكمة الأوروبية دعم حكم قضائي صدر في النمسا ضد سيدة حكمت المحاكم الإقليمية بتغريمها 480 يورو، إضافة إلى مصاريف التقاضي بتهمة الإساءة للرسول محمد (ص) عام 2009 حيث قالت المحكمة الأوروبية في حيثيات قرارها إن “الإدانة الجنائية ضد سيدة نمساوية أطلقت تصريحات مسيئة للرسول وتغريمها 480 يورو لا يعد انتهاكا لحقها في حرية التعبير”، وأضافت أنها وجدت “أن المحاكم المحلية في النمسا قامت بتوازن دقيق بين حق المرأة في حرية التعبير وحق الآخرين في حماية مشاعرهم الدينية، والحفاظ على السلام الديني في النمسا”.
ـ جاء في الخبر الثالث أن السلطات الإيرانية اعتقلت الصحافي الإيراني بويان خوشال الملاحق بتهمة الإساءة للإمام الحسين وأئمة آخرين، فيما كان يحاول مغادرة البلاد، وكان خوشال قد كتب مقالا في صحيفة “ابتكار” الإصلاحية عن “وفاة” الإمام الحسين وليس “استشهاده” مما أثار “استنكارا وسيلا من الانتقادات” من قبل الإيرانيين حسبما أفادت وكالة “ميزان أونلاين” التي أوردت الخبر، وهى وكالة تابعة للسلطة القضائية الإيرانية.
ـ أما الخبر الأخير فقد تناول قرار المحكمة العليا الباكستانية بإلغاء حكم الإعدام الصادر في حق امرأة مسيحية تدعى، آسيا بيبي، تمت إدانتها في قضية تجديف بسبب تعليقات مزعومة صدرت عنها تضمنت ازدراء للإسلام وذلك بعد أن اعترض جيرانها على شربها الماء في أكوابهم لأنها ليست مسلمة.

شهدت المجتمعات الإسلامية والمسيحية في العصور الوسطى انتشار اتهامات الزندقة والهرطقة ضد الأشخاص الذين ترميهم السلطات الحاكمة أو الدينية بمخالفة ما يعتقد أنه صحيح العقائد، ولكن المشكلة الحقيقية في هذا الخصوص تمثلت في أن تلك الاتهامات لم تكن تعبر عن وصف موضوعي وإنما عكست وجهة نظر تلك السلطات لماهية الدين الصحيح، وبالتالي فإنها كانت على الدوام تستغل لقمع الآراء المخالفة وتحقيق مكاسب بعيدة كل البعد عن الدين.
أما في العصور الحديثة فقد تسللت اتهامات التعدي على الأديان إلى العديد من البلدان الأوروبية أخذت من القانون الفرنسي الصادر في عام 1819، والذي اشتمل على مواد تتضمن عقوبات على ازدراء الأديان، كما أن تلك الاتهامات وجدت لها أيضا مكانا في قوانين العقوبات المطبقة في العديد من البلدان العربية والإسلامية.

على سبيل المثال تنص المادة 125 “إهانة العقائد الدينية” من القانون الجنائي السوداني لعام 1991 على أن ” من يسب علنا أو يهين، بأي طريقة أيا من الأديان أو شعائرها أو معتقداتها أو مقدساتها أو يعمل على إثارة شعور الاحتقار والزراية بمعتنقيها، يعاقب بالسجن مدة لا تجاوز ستة أشهر أو بالغرامة أو بالجلد بما لا يجاوز أربعين جلدة”.
من الجلي أن النص أعلاه صيغ بطريقة فضفاضة، فالإهانة والزراية ألفاظ تقبل العديد من التفسيرات، فقد يعتقد شخص في خطأ رؤية دينية معينة يرى شخصا آخر أن مجرد الحديث عنها يشكل إهانة للدين نفسه، ذلك لأن تلك الألفاظ حمالة أوجه، وتفسيرها يستند إلى اعتقاد ذاتي ويُعبر عن وجهة نظر فرد أو فئة من الناس ولا ينبني على معيار موضوعي يتم الاحتكام إليه.
وبالتالي فإنه يمكن تقديم أي شخص للمحاكمة لمجرد نشره مقالا أو صورا أو رسومات أو بأي وسيلة أخرى من وسائل النشر يتضمن كلاما عن أي دين من الأديان السماوية أو شعائره أو أتباعه، وكان هذا الكلام يحمل رأيا مخالفا أو وجهة نظر مغايرة للسلطات الحاكمة والمسيطرة فيعتبر الكلام إساءة للدين خاصة وأننا كما ذكرنا لا نملك معيارا موضوعيا لتحديد متى يكون ما تم نشره إساءة ومتى يكون رأيا.
في هذا الإطار يُمكننا التمعن في مفارقة واضحة مرتبطة بهذه المادة، فعلى سبيل المثال يوجد عدد كبير من أئمة المساجد وشيوخ الدين المسلمين لا يتورعون عن وصف اليهود في خطبة الجمعة كل أسبوع وفي برامج التلفزيون بأنهم “إخوان القردة والخنازير”، ويقولون إنهم في هذا التوصيف يستندون إلى ما جاء في القرآن وكذلك في الحديث المنسوب للسيدة عائشة، وكذلك إهانات للمسيحيين ومع ذلك فإن السلطات لا ترى في ذلك الوصف إثارة لشعور الاحتقار والزراية بمعتنقي الديانة المسيحية أو اليهودية، ولا تقدم هؤلاء الشيوخ للمحاكمة !
لكن ذات السلطات لا تتورع عن توجيه تهمة الإساءة للدين لكاتب أو مفكر لمجرد أنه أورد كلاما يتعلق بأحداث الفتنة الكبرى التي وقعت في صدر الإسلام، وهو ما يؤكد حقيقة أن تلك المادة وضعت في القانون لا لشيء سوى تقييد حرية التعبير وتكميم الأفواه عن الخوض في أمور الدين بعكس ما ترغب فيه السلطات.
وفي الخبر الذي أوردناه أعلاه عن الكاتب الإيراني خوشال ما يؤكد حقيقة ما ذهبنا إليه، فهو لم يفعل شيئا سوى الحديث عن وفاة الإمام الحسين بدلا من استشهاده، ومع ذلك أعتبر كلامه إساءة يستحق عليها الموت، وهو ما يشكل تغولا واضحا على حرية التعبير.

هذا الأمر كان أكثر وضوحا في التجربة المصرية، حيث تم استخدام نصوص المواد القانونية المتعلقة بازدراء الأديان بصورة استهدفت العديد من المفكرين والأدباء والمثقفين، بدءا من فرج فودة ونصر حامد أبوزيد، ومرورا بخليل عبد الكريم وسيد القمني، وصولا لفاطمة ناعوت وإسلام البحيري، وغيرهم وهو ما يؤكد أن تلك المواد لم يقصد منها حماية الدين بل معاقبة الناس على أفكارهم التي يمكن أن يرى فيها أي شخص إساءة للدين.
يُضاعف من الأثر السيئ لتلك المواد في العالمين العربي والإسلامي أنها تطبق في ظل وجود أنظمة استبدادية لا يتمتع فيها القضاء بالاستقلال المطلوب، ويُسيطر عليه في الغالب قضاة يحملون أفكارا دينية متشددة وتقليدية، وحتى إذا وجد قضاة مستنيرون فإنهم يواجهون ضغوطا وتهديدات من السلطات الرسمية أو الدينية لإنزال عقوبة ازدراء الدين بالمتهمين، وهو الأمر الذي نشاهد فصوله تجري حاليا في باكستان، حيث سمحت الحكومة باستئناف قرار المحكمة العليا في القضية المذكورة ومنعت السيدة آسيا بيبي من السفر خارج البلاد رغم تبرئتها من قبل المحكمة وذلك نتيجة للضغوط الشديدة التي مارسها التيار الديني المحافظ!

ليس هذا فحسب، بل إن تلك المواد تُطبَّق في بيئة اجتماعية ودينية متشنجة لا تقبل بالأحكام القضائية التي تتعارض مع توقعاتها، وتسعى لمعاقبة وإرهاب كل من تسول له نفسه مساعدة الأشخاص المتهمون بالإساءة للدين، وليس أدل على ذلك من أن محامي السيدة آسيا التي سبق ذكرها قد تعرض لتهديدات جدية بالقتل مما أجبره على مغادرة البلاد خوفا على حياته.

وهكذا فإن درس التاريخ يعلمنا أن تضمين مادة الإساءة للأديان في القوانين ظل على الدوام يستهدف الحد من حرية التعبير بمختلف أشكالها، ولم يكن الغرض من وجود هذه المادة هو حماية الدين بالدرجة الأولى وإنما تحقيق مرامي سياسية بائنة، وأن الجانب الديني فيها ضئيل ولا يُثار إلا لخدمة الجانب السياسي في الغالب.