الطابور السادس والجيل العربي السابع

د. نزار محمود

هناك قول ألماني يستخدم عندما يريد شخص ما ويدعو أحداً أو آخرين الى عدم القنوط والاستسلام، فيقول: Kopf hoch!

نعم لنرفع رؤوسنا عالياً ولا يجب أن نقر بالهزيمة الأبدية.  ولا ينبغي أن تنتهي وتكتفي هذه الصرخة عند عاطفيتها أو حتى عنترياتها، لأنها عند ذلك ستبقى جوفاء لا معنى لها! إنها ايذان ببدء عمل العقل النظيف والقلب السليم والإرادة العازمة.
لسنا أول ولا آخر الشعوب التي خسرت معاركاً في الحياة، ولسنا من أولئك الذين لا حضارة ولا مساهمة لهم في تاريخ البشرية والإنسان.
لكننا يجب أن ندرك في ذات الوقت أننا تخلفنا عن ركب التطور  وهوينا إلى مستنقعات الضعف، تتناهشنا نفوس بعضنا المريضة والكسولة والجاهلة، من جهة، وأنياب الذئاب المتربصة والمنقضة بتكالب علينا، من جهة أخرى.

كنت قبل أيام قد كتبت مقالاً تحت عنوان: الطابور السادس، استخدمت ذلك المصطلح للتعبير عن حال أولئك المهزومين فينا أخلاقياً وثقافياً من خائري العزيمة، وختمته بالتساؤل عن مدى تفشي ذلك الطابور في مجتمعاتنا وشعوبنا العربية، وما وقفت عليه من عظم المصيبة التي راحت تسحقنا كما يعمل النار في الهشيم.
ولكي لا نبقى في دائرة النقد السلبي والنفس التشاؤمي والموقف العاجز أعود لأتحدث اليوم عن ما يمكن أن نعالج به واقعنا كطابور سادس. وفي هذا أجد في مراحل العمل التالية ما تستوجب مناقشته:

المرحلة الأولى:
وهي مرحلة احياء  كرامة الإنسان العربي وثقته بنفسه واستنهاضها ونفخ روح الغيرة والعزم فيها. وهنا  يلعب المفكرون والمؤرخون والتربويون وعلماء النفس والسياسيون والإعلاميون ورجال الدين المتنورين دورهم الأساسي في ذلك، وفق منهج يضع الكرامة الإنسانية تاجاً على رأسه، والهمة والثقة بالنفس والعزيمة والصبر ومجاهدة النفس وبوعي في جعبة مهمته الصعبة.

المرحلة الثانية:
انها مرحلة بناء عقل الإنسان وتطوير قدراته الإنجازية المتميزة في خلق معرفة جديدة وابداع متميز. ان تعلم ما يعرفه الآخرون واللهاث بتثاقل خلف خطواتهم لن يعيننا على اللحاق بهم ناهيك عن تجاوزهم. هذه الأمنية ليست خيالاً ولا طوباوية، ففي التاريخ الإنساني أمثلة كثيرة.

المرحلة الثالثة:
أرجأت الحديث، وربما أخطأت الترتيب في عرض ما إرتأيته من مراحل في بلوغ ما أسميه الجيل العربي السابع، القادر على النهوض بكبوة شعبه وأمته، واللحاق بالشعوب الأخرى ولعب دور طليعي في تقدم الإنسانية. إن هذه المرحلة هي مرحلة تشكيل المنظومة الأخلاقية الإنسانية المتحضرة التي ستزرع في النفوس الكرامة وتحتضن الارادة والعزيمة لمن شمر عن عقله وساعديه من أجل علم متميز  وعمل جاد.

انها لعمري عملية صعبة، لكنها لن تكون مستحيلة، بعون الله، على جيل شاب واع يحترم نفسه، ويسعى من أجل غده.

احتقار الذات
آخر مراحل الانهزام والسقوط

ابطال ساحة الحبوبي في ناصرية العراق لا يعرفون الخنوع ولا يقرون بالهزيمة، وهم بالتالي لا يعرفون لاحتقار الذات من مكان في نفوسهم، ولا يرضون للذل وشماً على جباههم.
كنت قد كتبت يوماً مقالاً بعنوان: الوطن ليس صنماً، نعبده ونتزلف له. هو شيء نحبه عندما يحبنا هو، ونجله عندما يحفظ كرامتنا، وهو ليس أكثر من رمز اعتباري لجميل صنعنا وحسن اخلاقنا. فعندما لا يمثل ذلك الصنم والراية شيئاً انسانياً مقدساً، لا يعدو أن يكون خرافة ومخدراً وحشيش، وسبيلاً لابتزاز السراق والنصابين والغشاشين. فكم من الاف سيقت الى الموت باسمك يا ” وطن” وكم دمرت أحلام من أجلك أيها الشبح.

وفي خضم تلاطم صور الأوطان والمتاجرين فيها والمغشوشين والمستغلين بها، من جهة، والمتنعمين بكرامة وسعادة وحياة فيها وبسببها، من جهة أخرى، يعيش البشر على هذه الأرض.
حتى أن بعضهم كان عبر التاريخ قد عاش الوطن شجرة مقدسة، أحياناً، وكشعوذة دجل، أحياناً أخرى.
كثيرة من الشعوب كانت قد أقامت حدود أوطانها بالحديد والنار والقتل والنهب والسلب، ولا زالت تناور هنا وهناك.
لكنه هو الإنسان في أنانيته وغريزة تملكه وهيمنته، من جهة، ونخوته واستعداده للتضحية من أجل ما يفهمه من حقوق له ولأقرانه من بني الوطن والبشر، من جهة أخرى.
غير أنه لا يحق للإنسان العزيز احتقار ذاته عندما تسود شعبه أيام ذل وتخلف وقهر وظلم وخيانة وعمالة.

وأجدني محتاجاً لتوضيح ما أعنيه بالشعب وحتى بالوطن هنا:
فالشعب هو مجموعة من البشر قامت بينهم علاقات تعاون وتخادم إنساني مشروع، وتخاطبوا بلغة يفهمونها، وتحاججوا وفق قيم وعادات قبلوها وركنوا اليها. وهي بالطبع معايير، عليهم واجب تهذيبها الدائم.
أما الوطن فهو ذلك الوعاء المكاني، والحاضنة التاريخية والاقتصادية والبيئية التي ضمت ما انجزه ذلك الشعب وما يحلم به.
وهكذا تقوم على هذه الأرض أوطان تعتز  وتفخر بها شعوبها، ليست اصناماً، وإنما منجزات بشرية في العلوم والفنون والقوانين وازدهار  الحياة الكريمة.
لكن هذه الشعوب ذاتها كانت قد شهدت أيام وفترات ظلم وفوضى وتخلف ما كانت شعوبها لتفتخر بها أوطاناً وثنية فارغة، بل راحت تعمل بجد ونكران ذات وكرامة لكي تعيدها أوطاناً جديرة بالاحترام والانتماء.
إن الإنسان النبيل الأصيل لا  يجب أن يرضى أن يكون ظالماً، ولا ينبغي له كذلك أن يقبل بالظلم والخنوع.

وهكذا نقف اليوم نحن البشر من العرب لننفض من بين صفوفنا طابورنا السادس المنهزم اخلاقياً وثقافياً وعزيمة، المتنصل عن وعيه وكرامته ودوره الإنساني والناكر لمنجزات أبناء ثقافته وحضارته، والمستسلم لهزيمته.
ولنتذكر، ونحن نعيش في المانيا، كيف أعاد أبناء هذا الشعب بناء وطنه “طابوقة طابوقة”، وهو يطبخ قشور البطاطس ليسد رمق جوعه، دون الاستسلام الأبدي لإندحاره وتعليق تقاعسه وكرامته على شماعة النازية وعبث قادتها.

.