السودان: المثقف وقضايا التحول الديمقراطي

حمد زيدان

تعد المرحلة الانتقالية قبل الوصول إلى ديمقراطية راسخة دائمًا من أصعب المراحل تاريخيًّا في حياة الشعوب؛ إذ تحتاج إلى جهد كبير لتجاوز المطبات المختلفة، التي تتكاثف في هذه المرحلة. وعندنا في السودان بعض من خصوصية، أو قل بعضًا من حساسية تجاه هذه المرحلة؛ لأننا خضنا تجارب عديدة لثورات كانت عظيمة، ولكننا فشلنا في الوصول إلى استقرار سياسي بعد ٦٠ عامًا من الاستقلال.

ثمة سؤال حاضر في أذهان النخبة السودانية يطرح نفسه بكل قوة، يتعلق بكيفية الخروج من الدائرة المغلقة (ثورة-ديمقراطية- انقلاب). في هذا المقال أتناول أدوارًا يمكن أن يلعبها المثقف للدفع نحو الوصول إلى ديمقراطية مستدامة وكسر هذه الحلقة.

التنوير في زمن الثورة

وأقصد هنا التنوير بالاستخدام الكانطي للكلمة؛ أي بالمعنى الأشمل لها، وليس المحصور فقط في المجال الديني، إذ يعرفه كانط بأنه الخروج من حالة القصور إلى حالة الرشد، وهو قصور ناتج من عدم استعمال المرء عقله، والقبول بالعيش تحت الوصاية؛ لذلك كان شعار التنوير هو «تجرأ على استعمال عقلك». إن هذا القصور يحفز آخرين على تنصيب أنفسهم أوصياء على الناس، وقد تحدث كانط عن الثورة في مقاله «ما هو التنوير» قائلًا: «عن طريق الثورة يمكن أن نسقط استبدادًا فرديًّا،أو أن نضع حدًّا لاضطهاد يقوم على التعطش للثورة والنفوذ، ولكننا لن نبلغ بها إصلاحًا حقيقيًّا لنمط التفكير، على العكس من ذلك ستنتعش بسببها أحكام مسبقة جديدة على غرار الأحكام المسبقة القديمة، لتشد إلى حبالها السواد الأعظم المفتقد للفكر».

إذن لمحاولة تجنب ما وصفه كانط بتكوين أحكام مسبقة جديدة، وتجنب استبدال استبداد جديد باستبداد لا بد من تشكيل حمولة ثقافية موازية للحراك السياسي، تكون أول خطوة فيها الخروج من حالة القصور بعدم قدرة المرء على استخدام فهمه دون قيادة الغير، وهذا يعني أن التنازل للغير عن حق التفكير يعد أولى مراحل الهزيمة، وهذا يتطلب تقديس القيم لا الأشخاص ولا التيارات، مهما كان كسبهم ومكانتهم.

كذلك إن من أهم أدوار المثقف نشر الوعي المعرفي في التفريق بين الشخص والموضوع، بين الرسالة وحاملها؛ للوصول إلى حالة نقاش صحي موضوعي تزدهر فيها الأفكار الأكثر صلاحية بعيدًا عن حالات الاستقطاب الأعمى.

الانحياز للديمقراطية

ينبغي للمثقف أن ينحاز لترسيخ القيم الديمقراطية أولًا قبل الوقوع في براثن الانحياز لطرف دون الآخر؛ لأنه في وقت الانتقال وقبل ترسيخ الديمقراطية، يتحول الانقسام الحزبي والأيديولوجي لانقسام طائفي بعيدًا في ممارسته السياسية عن التعدد الديمقراطي. فالديمقراطية تعني التوافق أولًا على المبادئ الديمقراطية من تداول سلمي للسلطة عن طريق الانتخاب وبسط الحريات والشفافية، وسيادة القانون، وحفظ الكرامة الإنسانية، وغيرها من المبادئ المعروفة، ثم التنافس على الباقي المختلف فيه. أما القفز على المراحل يؤدي إلى تشاكس مستمر وصراع يعجل بتدخل طرف غير ديمقراطي بعد أن تهيأ له الساحة بفشل التجربة الديمقراطية. إن سعي المثقف للحصول على هذا التوافق أولى من اتخاذه موقفًا مؤيدًا لأي كيان سياسي.

كذلك من المعروف أن من آفة السياسة السودانية صراع الأقران، سواء كان هؤلاء الأقران شخصيات أم كيانات، بحيث يفضل كل طرف حكم طرف ثالث، ولو كان عسكريًّا من أن يحكم الطرف الآخر. لكن حينما يكون النظر إلى الأحداث موضوعيًّا يغلب المصلحة من قبل الأكثرية الحية؛ فإن ذلك يشكل ضغطًا على السياسي، شخصًا كان أو كيانًا لممارسة أكثر رشدًا تتغلب فيها مصلحة الجماهير على الصراع السياسي القائم على المنافسة والتقليل من الخصم.

ينبغي كذلك للمثقف أن يكون ذا حساسية عالية تجاه الخروقات والاعتداءات التي ترتكب على القيم الديمقراطية. إن الصمت تجاه تزوير الوقائع وحوادث الاعتداء الجسدي واللفظي تجاه أحزاب أو كيانات ذات رأي مخالف للرأي السائد، أو السكوت عن محاولات تكميم الأفواه وتخوين كل مختلف، يؤدي إلى إنهيار سريع للعملية الديمقراطية، وقد يهدد السلام والنسيج الاجتماعي، غير أن هذا الصمت موقف غير أخلاقي أيضًا.

الواقعية السياسية

إن تملق الجماهير، وعدم الوقوف ضد رغباتها، حتى وإن كانت تدفعها العاطفة التي تطغى في حالات الهياج الثوري، هو نوع من الانتهازية.

إن ما يميز المثقف عن غيره هو التحليل العقلاني للأحداث، وهو ما يستلزم واقعية سياسية تزداد الحوجة إليها في عالم تزداد فيه كل يوم وتيرة الصراع على النفوذ والموارد، خصوصًا في بلاد ذات أهمية جيوسياسية، وفي فترات الانتقال وعدم الاستقرار السياسي، إذ تمثل عامل جذب للتدخلات الخارجية.

يخون المثقف شعبه عندما يتخلى عن مهمته في الغوص في أعماق الواقع لتحليله وكشف أعداء التحول الديمقراطي المستترين عن أعين الجماهير، عندما تتحول مساهمته إلى مجرد هتاف يلهب الحماس ويجلب له التصفيق، حينها يقدم مصلحته الذاتية وراحته النفسية على المصلحة العامة.

الديمقراطية لعبة ليست صفرية

إن الديمقراطية ليست لعبة صفرية يخسر فيها المهزوم كل شيء، وإنما عملية سياسية يكسب فيها الجميع؛ إذ يكسب المهزوم فيها الحرية السياسية مع احتمال كسبه مستقبلًا مع استدامة العملية الديمقراطية. وكلما مالت اللعبة السياسية إلى الصفر بإقصاء أحد الأطراف، بحيث يجد نفسه خاسرًا كل شيء، ازدادت نسبة الانقلاب على الديمقراطية. لذلك فإن على المثقف الوقوف بحزم ضد محاولة بعض التيارات مصادرة الحراك الثوري لصالحها والقضاء على الأطراف الأخرى.

.