الديمقراطية الأميركية في محنة

محمد زايد

يمثل إجبار رئيسة جامعة هارفرد كلودين جاي على الاستقالة نكسة عميقة للديمقراطية الأميركية التي كثيراً ما تباهى بها هذا المجتمع، وطرحتها واشنطن كركن أساس لدورها الدولي، بل وطرحتها إدارة الرئيس جو بايدن بشكل متبلور وأكثر وضوحاً من إدارات عديدة سابقة كشعار وعنوان لسياستها الخارجية للترويج والدفاع عن هذا المفهوم في مواجهة خصومها.

وبدأت وقائع القصة الجديدة المؤسفة من حملة شنتها دوائر أميركية ويهودية عديدة ضد كل من يسمح أو يسكت على انتقاد إسرائيل وعلى خلفية تظاهرات شهدتها الجامعة العريقة ضد تحيز السياسة الأميركية وجرائم الحرب الإسرائيلية.

ومن ثم تم استدعاء البروفيسورة اللامعة – من أصول سمراء – إلى الكونغرس الأميركي للتحقيق معها، وكذلك رؤساء جامعات آخرون، وأجبرت لاحقاً على الاعتذار عن تعبيرات عادية اعتبرت معادية للسامية، وبعدها بقرابة الشهر استكملت حلقات محاصرتها مما أدى إلى استقالتها، وطرح في ذلك حديث عن سرقات علمية ارتكبتها. المفارقة في الأمر أن صعود هذه السيدة إلى منصبها الرفيع كان حدثاً تفاخرت به الجامعة وأوساط أميركية في ضوء خلفيتها الإثنية، محاطة بضجة تميزها العلمي والشخصي لتتبوأ هذه المكانة في سن صغيرة نسبياً.

وفي الحقيقة أن هذه الواقعة تمثل حلقة أخرى من حلقات تحدي ما تمثله الولايات المتحدة من نموذج يروج عن نفسه الريادة في تطوير وبلورة الفكرة الديمقراطية، وهي ريادة من الخطأ أيضاً إنكارها، ولكن ما هو غير ظاهر بما يكفي أن هناك جوانب معقدة عديدة في هذا النموذج بحكم تركيبته الفريدة، وأن هناك ظواهر جديدة كبرى ضاغطة لتحدي مكانة هذا النموذج أصبحت تتجاوز الشوائب إلى ما هو أعمق.

أنماط تحدي النموذج الأميركي

من الواضح أن حالة الانحياز الأعمى الأميركي لإسرائيل عامة، وبشكل خاص خلال الحرب الجارية الآن وضعت واشنطن في سلسلة كبيرة من التشوه السياسي، إذ قادت هذه الحالة المنحازة والمصحوبة بنفوذ هائل للجماعات الصهيونية المتعصبة الأميركية ومعها التيارات “الإيفانجيلية” المتشددة دينياً التي تقف خلف القوى اليمينية المتشددة، والتي أوصلت كثيراً من القيادات الجمهورية للحكم وآخرهم دونالد ترمب -المجتمع الأميركي إلى حالة شبيهة بموجة المكارثية وفقاً للتراث الأميركي.

وربما ليس لهذه الحالة نظير منذ حال المناخ الذي شاع في خمسينيات القرن الماضي بفضل حركة السيناتور مكارثي ضد الشيوعية، التي عاملت كل الفكر الليبرالي واليساري وحتى المتفتح في خانة الشيوعية، وطاردت كل من يعبر عن رأي مخالف واعتبارها تاريخياً لاحقاً كأكبر نكسة للديمقراطية الأميركية في العصر الحديث وكانت نتائجها كارثية. والشاهد أن ما يحدث الآن بسبب حالة الانحياز الأعمى لإسرائيل يكاد يعيد تقاليد هذه المرحلة المظلمة، فبمجرد أن يرتفع صوت مخالف أو منتقد لإسرائيل تبدأ مطاردته وحصاره ومحاولة القضاء عليه.

هنا قد يذكرنا البعض بما حدث ضد كثير من الشخصيات المستقلة كالسيناتور بول فندلي الذي أرخ لهذا في كتابه الشهير (لقد تجرأوا على الحديث)، أو عالم السياسة اليهودي الشهير فنكلشتاين الذي كتب موضوعياً عن حرب أكتوبر (تشرين الأول) كما انتقد السياسات العنصرية الإسرائيلية، فطرد من عمله الجامعي في نيويورك، بل وتعرض للتشرد والمطاردة سنوات عديدة من عمره، ولكن الفارق الآن أن ما يحدث يتم على نطاق واسع ومن دون الحد الأدنى من التسامح وبشكل ممنهج.

ويرتبط بمسألة غزة المعايير المزدوجة التي تتناقض مع أحد أهم عناصر الفكرة الديمقراطية، فمفهوم الديمقراطية ليس مجرد حكم الشعب بالشعب وإنما يتضمن كثيراً من الأبعاد التي لسنا في حاجة هنا إلى تفصيلها، ومن بينها المساواة بين المواطنين أو مفهوم المواطنة، وبالقطع يتعارض مع الفكرة العنصرية والتمييز بين المواطنين على أساس ديني أو عرقي، ومن ثم تقتضي مسألة تصدي واشنطن لمفهوم المعسكر الديمقراطي العالمي أن يتسق هذا مع سياساتها تجاه القضية الفلسطينية وهو ما لم يحدث أبداً بل ويشهد تدهوراً ملحوظاً في الإدارة السابقة لترمب والحالية لبايدن التي ذهبت في انحيازها وتبنيها خطاب الحرب الإسرائيلي حتى أسابيع قليلة حداً غير مسبوق، وما زالت عاجزة عن إيجاد آلية لتكثيف ضغط على حليفتها تل أبيب لتقليل الانتهاكات التي تحرج واشنطن أمام العالم ونسبة لا يستهان بها من قوتها الانتخابية الداخلية.

وعموماً يظل من المستقر أن اتهام كثر في العالم الولايات المتحدة والغرب بتبني المعايير المزدوجة أحد أكبر ثغرات تصدي الغرب لطروحات حقوق الإنسان والديمقراطية ويفرغ هذه الادعاءات من معانيها.

ومن ناحية أخرى تأتي ظاهرة سلوك وتوجهات التيار اليميني الأميركي بزعامة دونالد ترمب حالياً وما حدث في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأخيرة كأحد أبرز التحديات إن لم يكن أخطرها أمام هذا النموذج، ففي الحقيقة أن تجليات هذا التيار أكبر حتى مما بدت قمته في ما حدث من اقتحام مؤيديه المؤسسات الأميركية التي ما زالت محاسبة ترمب في شأنها متواصلة ولم تنته بعد، فهذا التيار يتمرد حالياً على مبادئ أساسية في الفكرة الديمقراطية كونها سمحت بصعود ممثلي أقليات عرقية ودينية على الساحة السياسية، وهم لا يريدون الغفران لوصول باراك أوباما للحكم، وربما حتى غيره في مفاصل المؤسسات الأميركية، ولا يرتاحون لتوجهات هذه الأقليات العرقية ولا للتيار الليبرالي النشط الذي تتزايد شوكته في مفاصل الحزب الديمقراطي.

معضلة أكثر عمقاً

مع التسليم بالدور الرائد للولايات المتحدة في بلورة النموذج السياسي الديمقراطي، إلا أن الفهم المتعمق لطبيعة المجتمع الأميركي يفسر كثيراً من إشكالات هذا النموذج، والنابعة بشكل خاص من محورية دور رأس المال وجماعات الضغط في تسيير عمل هذا النظام وصياغة حركته.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك كتابات مهمة منذ منتصف القرن الماضي رصدت هذه الأبعاد، وكيف يسمح هذا النظام من خلال آليات الحملات الانتخابية والتمويل بطغيان قوى اقتصادية وسياسية تتمكن لاحقاً وفى معظم الوقت من التحكم في عملية صنع القرار السياسي والاقتصادي.

وهنا يأتي الحديث عن دور ما يسمى بالمجمع الاقتصادي العسكري وصناعة السلاح بشكل خاص وكذا دور جماعات الضغط الصهيونية والشركات الكبرى كجزء مهم من منظومة شديدة التعقيد وتخلق نتائج لا يمكن الاستهانة بها في عملية صنع القرار، ويحاط كل هذا بسيطرة هذه القوى ذاتها على مؤسسات الإعلام ومراكز الفكر والجامعات بدرجات مختلفة، مما ينتج منه التحكم في الرأي العام الأميركي ذاته، ومن ثم تكتمل حلقات السيطرة ولا يشعر المتنفذون سياسياً بأي حرج أمام الهيئة الناخبة لهم، ومن ثم تسقط كثير من هالات المثالية والشفافية في العملية السياسية الأميركية.

ومع كل هذه الخلفية كان النموذج الأميركي يسير على رغم عمق تناقضاته المستترة، ولكن ما يحدث اليوم يمثل بروزاً غير مسبوق في هذه التناقضات الداخلية، فالنمو الكبير في أعداد الأقليات العرقية والدينية مصحوباً معها توجهات مغالية في ليبراليتها ومعظمها بالمناسبة في أوساط البيض الأميركان، ويتزامن هذا مع رسوخ هائل لنفوذ اللوبي الصهيوني مدعوماً بتوجهات قوى أميركية مسيحية، كل هذا خلق مناخاً متزايداً من تراجع مساحة التسامح والاتزان في المجتمع والسياسة الأميركية لتأتي حرب غزة كاشفة ولتعمق من خلل مزمن ونموذج تهتز صورته بشكل كبير.