الحكومة الألمانية الجديدة تتبنى خططًا كبيرة

د. أمير حمد /

نشر موقع «ڤوكس» الأمريكي مقالًا للكاتبة جين كيربي، مراسلة الشؤون الخارجية وشؤون الأمن القومي، حول الطموحات والتطلعات والتوقعات المرجوة من الحكومة الألمانية الجديدة. وفي البداية أشارت الكاتبة إلى انتهاء عهد أنجيلا ميركل رسميًّا. وتتولى الحكومة الائتلافية الجديدة السلطة في ألمانيا، لتضع نهاية لمسيرة امتدت 16 عامًا من الحكم تحت قيادة المحافظين.

صدمة التحديث.. لكنها ليست ثورة

تؤكد الكاتبة أن السياسة الألمانية قائمة على الاستقرار وبناء التوافق. وهذه الحكومة الجديدة، وهي ائتلاف من ثلاثة أحزاب تشكَّل بتوافق الآراء، هي خير مثال.

لكن المستشار الجديد أولاف شولتس، وهو اشتراكي ديمقراطي، سيقود حكومة ائتلافية من أحزاب «الاشتراكيين الديمقراطيين» و«الخضر» و«الديمقراطيين الأحرار»، ويتبنى رؤية أكثر حداثة، ولديه مجموعة أولويات سياسية. ويبدو أنها حكومة أكثر تقدمية وتوجهًا نحو المستقبل ستحل محل نهج ميركل في الحكم.

ييول كريستيان أوديندال، كبير الاقتصاديين في مركز الإصلاح الأوروبي ومقره برلين: إنه «بعد 16 عامًا من التقدم الضئيل للغاية، أعتقد أن ألمانيا تمر بنوع ما من صدمة التحديث». ويتبنى التحالف سياسات مثل خفض سن التصويت في الانتخابات إلى 16 عامًا، وتوسيع حقوق المواطنة، والاستثمار في الإسكان الميسور التكلفة، وإضفاء الشرعية على الماريجوانا، وتسريع بعض التزامات المناخ في البلاد.

وهذه ليست ثورة، لكن التغيير المتواضع لم يزل يمثل تغييرًا، إذا تمكن الائتلاف من تنفيذ مقترحاته. ولم يزل هذا زواجًا سياسيًّا غريبًا، وسيُختبر التوافق الذي أوصل الحكومة إلى السلطة في وقت مبكر. وسيتولى شولتس زمام الأمور في وقت تواجه فيه ألمانيا موجة خطيرة من فيروس كورونا، وقد تشير الطريقة التي تتعامل بها هذه الحكومة مع الجائحة إلى مدى تماسكها وفعاليتها واستقرارها.

شولتس يحقق انتصارًا من خلال جمع الائتلاف

تلفت الكاتبة إلى أن شولتس والحزب الاشتراكي الديمقراطي فازا بفارق ضئيل في الانتخابات الفيدرالية في سبتمبر (أيلول) 2021. وسبق له أن شغل منصب نائب المستشارة ووزير المالية في حكومة ميركل، وقد صورته الحملة باعتباره قائدًا كفئًا وثاني أفضل قائد يخلف ميركل التي لم تزل شعبيتها كبيرة.

ولم يفز الحزب الاشتراكي الديمقراطي بمقاعد كافية في البوندستاج (البرلمان الاتحادي الألماني) ليحكم وحده، ولم يفعلها أي حزب آخر؛ مما يعني أن مجموعة من الأحزاب يلزمها تشكيل ائتلاف حاكم، وهذه هي القاعدة المتَّبعة في السياسة الألمانية.

ولم يرغب أي من الحزبين الكبيرين «الحزب الاشتراكي الديمقراطي» أو «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» في تشكيل ائتلاف كبير (ظل موجودًا لمدة 12 عامًا من 16 عامًا في عهد ميركل)؛ مما يعني أن ثلاثة أحزاب ستحتاج إلى الائتلاف، وهي ظاهرة نادرة جدًّا في المستوى الفيدرالي لم تحدث منذ عام 1949. لكن التصويت كان متقاربًا بدرجة كافية ليتيح للديمقراطيين الأحرار والخضر ذوي الميول اليسارية اختيار مَنْ يريدون العمل معه، وقد منحهم ذلك نفوذًا كبيرًا، حيث كان بإمكانهم تعيين المستشار القادم. وفي النهاية وافق الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وحزب الخضر، والديمقراطيون الأحرار، على الائتلاف.

أجواء مليئة بالثقة

ومن ثم كان تحالف «إشارة المرور» – الذي سُمِّي على اسم ألوان الأحزاب – ولكنه ليس توافقًا أيديولوجيًّا طبيعيًّا. ويقف الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر على الجانب الأيسر من الطيف السياسي، ولذا فهما أكثر توافقًا. لكن الديمقراطيين الأحرار يؤيدون السوق الحرة للغاية، ويدعمون خفض الضرائب، والتي لا يتماشى دائمًا مع الأجندة الاجتماعية الطموحة.

وجرت المفاوضات وسط قليل من الخلافات العلنية وقليل من التسريبات. وأنهت الأحزاب الثلاثة صفقة ائتلافية في غضون شهرين فقط، وجرى تحديدها في وثيقة مفصلة إلى حد ما مؤلفة من 177 صفحة. ووجد التحالف طرقًا للتوفيق بين الأولويات الكبيرة للجميع. وحصل كل منهم على بعض أو كل ما يريده؛ مما سمح لهم بتسويق الاتفاقية بين قواعدهم الحزبية.

وبهذا حصل حزب شولتس، الاشتراكي الديمقراطي،على المستشارية، إلى جانب وزارات مثل الداخلية؛ مما يسمح لهم بتعزيز أوراق اعتمادهم الأمنية، والإسكان والعمل، وهو أمر يعكس برنامج الحزب بشأن الأجور والسكن.

وحصل حزب الخضر على وزارة الخارجية، بقيادة الزعيمة المشاركة للحزب أنالينا بيربوك، التي تتبنى سياسة خارجية تتمحور حول حقوق الإنسان، خاصة في روسيا والصين. كما يقود روبرت هابيك، القائد المشارك للخضر، وزارة الاقتصاد والمناخ الجديدة، والتي ستمنحهم فرصة للعمل مع القطاع الصناعي الأكثر أهمية في ألمانيا أثناء انتقاله إلى سياسات أكثر صداقة للمناخ.

وفاز الديمقراطيون الأحرار بوزارة المالية برئاسة زعيم الحزب كريستيان ليندنر. وسيمنحهم هذا السيطرة على الإنفاق، مما يؤدي إلى كبح جماح أي خطط إنفاق طموحة. ووافقت حكومة الائتلاف الآن على عدم زيادة الضرائب لدفع ثمن البرامج المدرجة في جدول أعمالها.

وحتى قبل إعلان الحكومة الائتلافية رسميًّا، بدأ الحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب الديمقراطي الحر وحزب الخضر في إيجاد طرق للعمل معًا. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) عملت الأحزاب الثلاثة معًا على تدابير جديدة محتملة لكوفيد-19، وتخطط لإدخال تفويضات جديدة للقاح.

تقول سودها ديفيد ويلب، باحثة في صندوق مارشال الألماني ومقره برلين، إن هذا الائتلاف خيار رائع حقًا، حيث أرادت الأحزاب ذلك، وكان لدى الجميع ما يكسبونه. وكما قال شولز نفسه جرت المفاوضات في «جو ودي، ولكن مكثف، وأجواء مليئة بالثقة».

ويمكن أن تساعد المصلحة الذاتية في الحفاظ على الائتلاف. يقول أودندال: «تتفق الأحزاب الثلاثة على أنها تدير هذا الائتلاف وعيونها على انتخابات 2025. وتريد التأكد أن هذه ليست مجرد مرة واحدة، ولكنها يمكن أن تستفيد من الائتلاف، وأن تؤدي أداءً جيدًا في الانتخابات المقبلة».

وعلى الرغم من الاختلافات تتفق الأحزاب الثلاثة على بعض الأمور الكبيرة. والأحزاب الثلاثة تقدميَّة اجتماعيًّا إلى حد ما في أمور مثل حقوق المثليين. واقترح الائتلاف حماية أكبر للأشخاص المتحولين جنسيًّا، وإنهاء القيود المفروضة على التبرع بالدم من الرجال المثليين. وتتفق الأحزاب أيضًا حول فكرة أن على ألمانيا أن تمضي قدمًا أسرع قليلًا لمواجهة تحديات مثل تغير المناخ.

ووصف شولتس الائتلاف بأنه «موحَّد الإرادة لكي يصبح هذا البلد أفضل». ووصفته بيربوك بأنه «بداية جديدة نحو مزيد من التقدم»، وقال ليندنر: «إنها مسؤوليتنا أن نطوَّر هذا البلد معًا». ويعتبر أنصار حزب الخضر والديمقراطيين الأحرار من أصغر الناخبين سنًّا في ألمانيا، ولذلك فإن التوجه نحو الائتلاف أمر منطقي إذا كان بهدف تولي السلطة الآن وبعد أربع سنوات أيضًا.

ويريد الائتلاف تقليل سن التصويت وإضفاء الشرعية على الماريجوانا، وهي قضية تخلفت عنها ميركل. وكان تغير المناخ قضية كبيرة بين جميع الأحزاب خلال انتخابات 2021، وهذه الاتفاقية تسرِّع الجدول الزمني لألمانيا للتخلي عن الفحم، من 2038 إلى 2030. وتدعو الخطة أيضًا إلى استثمارات اجتماعية، مثل بناء 400 ألف وحدة سكنية بأسعار معقولة، ورفع الحد الأدنى للأجر إلى 12 يورو في الساعة.

يقول إريك لانجينباكر، خبير في السياسة الألمانية والأوروبية وأستاذ بجامعة جورجتاون: «عندما تنظر بالفعل إلى التفاصيل، تجد أن وثيقة الائتلاف هذه وثيقة تقدمية على نحو لا يُصدَّق».

تغييرات كبيرة في السياسة الداخلية.. لكن ليس الخارجية

أشارت الكاتبة إلى أن ميركل أكدت على دور ألمانيا عالميًّا، ولذا ارتقت مكانتها؛ مما زاد أيضًا من أهمية ألمانيا. تقول سودها: «كانت ميركل ظاهرة. وعندما تولت المنصب لأول مرة في عام 2005، لم تكن تعتقد أننا في يوم من الأيام سنُطلِق عليها لقب قائدة العالم الحر».

لقد تركت ميركل هذا الإرث للحكومة الألمانية المقبلة. ولم تزل الخطوط الرئيسة للسياسة الخارجية الألمانية كما هي. يقول ماركوس كايم، الباحث في الأمن الدولي في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية: إن «الأمر يتعلق بالاستمرارية أكثر من التغيير».

أضاف كايم أن اتفاق الائتلاف يكرر كثيرًا من الأمور نفسها، لاسيما أهمية العلاقة عبر الأطلسي وأهمية الاتحاد الأوروبي. غير أن هناك بعض التحولات عندما يتعلق الأمر بالعلاقات مع الصين، وهناك إشارات محددة لقضايا مثل تايوان وشينجيانغ، وانتهاكات حقوق الإنسان. ويرتبط الأمر بإجراءات الحكومة الصينية، وتصور ألمانيا لتلك السياسات.

يقول تايسون باركر، رئيس برنامج التكنولوجيا والشؤون العالمية في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية: إنه «ليس مجرد خطاب غامض، هناك إشارة فعلية للتغيير».

ودفع حزب الخضر إلى مواجهة روسيا والصين بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، وتقديم هذه الجوانب على العلاقات المالية مع تلك القوى.

وركزت ميركل على السياسة الخارجية أثناء توليها منصب المستشارية، ويعتقد معظم الخبراء أن المستشارية وشولتس سيستمران في تحديد السياسة الخارجية، وسياسة الاتحاد الأوروبي، وتوجيههِما.

والسؤال الكبير الآخر هو مدى تأثير الخضر، وما إذا كانت أي سلطة ستنقل مرة أخرى إلى وزارة الخارجية؛ مما يمنح بيربوك مكانة دولية أكبر.

يقول الخبراء إنه من المرجح أن يرتفع مستوى التعامل مع قضية تغير المناخ. ولم تؤثر السياسة الخارجية، أو سياسة الاتحاد الأوروبي كثيرًا في الانتخابات، ولكن قد يُختَبر شولتس سريعًا في المهارات الدبلوماسية، خاصة مع الأزمة التي تختمر في أوكرانيا. ومن المتوقع أن تركز الحكومة الجديدة بشكل أكبر على الداخل، خاصة الجائحة والتعافي.

.