الحريّة في أعناقهن
حكايات فردية تُؤسّس لذاكرة جماعية
موسى الزعيم
عن دار الدليل للطباعة والنشر في برلين صدر كتاب الحرية في أعناقهنّ “فصلٌ من سيرة بطولة الأسيرات الفلسطينيات” للكاتبة الفلسطينية باسلة الصبيحي.
يقع الكتاب في 430 صفحة، وقد سبق أن أصدرت الكاتبة الصبيحي عملين روائيين.
يمثّل الكتاب إضافة جديدة ونوعية إلى الأدب الفلسطيني المعاصر، وإلى أدب السجون على نحو خاص، بما يقدّمه من مقاربة مركّبة تجمع بين البحث التوثيقي والرؤية الإنسانية واللغة الأدبية التي تنقل التجربة من حدود الألم إلى فضاء أكثر رحابة، الفضاء العالمي الذي يمثل معادلاً ضدّيًا للسجن وبالتالي فضاء المعرفة والقراءة، فالكتاب لا يكتفي بعرض شهادات الأسيرات الفلسطينيات ولا يقدّم سردًا حقوقيًا جامداً، بل يشيّد نصاً يكتنز بالوجدان والمعرفة، ويؤسس لذاكرة جماعية، تعيد للمرأة الفلسطينية صوتها وموقعها ودورها داخل المشهد الكفاحي، وتعزّز حضورها الفاعل في الحركة النضالية.
في فصول الكتاب:
يتوزع العمل على ثمانية فصول من خلال ترتيب الخبرات والسياقات، بحيث يتدرّج القارئ من الوعي الكبير تاريخياً بأصل المأساة الفلسطينية إلى التفاصيل الدقيقة التي تعيشها الأسيرة، كأن النص يرسم خريطة تُبرز امتداد القهر عبر الزمن، تسلسلاً منطقياً يبدأ من التاريخ لينتهي بالتجربة الحيّة.
يبدأ الكتاب من خلفية تاريخية وسياسية للقضية الفلسطينية، متتبّعة جذور الاحتلال منذ الانتداب البريطاني، عبر محطات النكبة، وأحداث ثورة البراق، والمجازر الأولى التي أسّست لحالات القمع الإسرائيلي اللاحقة، هذا الامتداد التاريخي ليس مجرّد استطراد، بل هو تأسيس ضروري يشكّل أرضية سردية لفهم تجربة الأسر والاعتقال باعتبارها جزءاً من سردية مستمرة عرفها التاريخ السياسي العالمي وليست حادثة طارئة على النضال الفلسطيني.

بعد الخلفية التاريخية، ينتقل الكتاب إلى الفصول الأكثر حساسية والتي تصب في صلب موضوع البحث:
شهادات الأسيرات، وما ترويه النساء من تفاصيل وظروف الاعتقال، والتحقيق، والاحتجاز الإداري، والإهمال الطبي، والعزل، والتفتيش العاري، وتجارب الحمل والولادة خلف القضبان. وفي هذه الشهادات يتجلّى صوت المرأة نفسها، لا عبر إعادة صياغة لغوية واشتغال سردي، بل عبر نقل مباشر من الضحايا، تحرص فيه الكاتبة على احترام اللغة الأصلية للتجربة بما تحويه مفرداتها من دلالات لها خصوصيتها في ذات الأسيرة، لذلك جاءت بعض هذه النصوص باللغة المحكية المحلية، بمعنى آخر بمنطوق الشخصيات نفسها ولسانها.
الأسيرة الفلسطينية في مركز السرد لا في هامشه
يُعالج الكتاب فكرة جوهرية مفادها أنّ المرأة الفلسطينية ليست تفصيلاً ملحقاً بالحكاية الوطنية، بل هي في صلبها، هي العنصر الفاعل فيها. وعليه نجحت الكاتبة في نقل الأسيرة من موقع المتلقّي السلبي للقهر إلى موقع الفاعل الذي يشترك في صناعة المعنى ومواجهة سلطة التعذيب والاعتقال، ويؤسّس لوعي معرفي يرتبط بالقضية ويعيد الاعتبار لدور النساء كجزء أصيل في حركة المقاومة الفلسطينية التحررية عبر الأجيال.
من هنا جاء تقديم الأسيرات في الكتاب ليس كضحايا الاعتقال وإنما كعناصر إنسانية فاعلة مقاومة، مقاتلة، تعي الواقع والظروف بالمعنى النضالي الواسع للكلمة، فهي تقاتل بقدرتها على الصمود، وبإصرارها على الكرامة، وبتحويل الأيام الثقيلة داخل السجن إلى فرصة للمعرفة، والتعليم، والكتابة، وتحصيل الوعي، والفعل السياسي من خلال الإضرابات.
توثيق آليات المنظومة القمعية
لا يكتفي الكتاب بالشهادات الإنسانية، بل يعمّق تحليله عبر الاستعانة بشهادات محامين فلسطينيين ونشطاء حقوقيين ذوي خبرة، منهم: “حسن عبادي، خالد المحاجنة، ورفيق أبو ضلفة” ومن خلال شهاداتهم وخبراتهم يكشف الكتاب عن الآليات والأساليب التي تُدار بها السجون من زاوية قانونية حقوقية وإنسانية أيضًا.
فيتحدث الكتاب عن الاعتقال الإداري والتوقيف بلا تهمة، وتجديد الاعتقال المفتوح، المحكمة العسكرية بوصفها جهازًا شكليًا تنحصر مهمته في شرعنة الاعتقال والأسر، وسجن سدي تيمان بوصفه نموذجًا حديثًا لممارسة أساليب الاعتقال والتعذيب وغيرها.
بالإضافة إلى قضايا الإخفاء القسري، والتحقيق العسكري، والاعتداءات الجنسية، والإهمال الطبي المتعمّد، وحرمان الأسيرات من العلاجات الأساسية التي تكفلها القوانين الدولية.
هذه القضايا تمنح العمل بعدًا توثيقيًا يعتمد على المعرفة المهنية من خلال شهادات ذوي الخبرة من القانونيين والمحامين لا على الانطباعات الشخصية، وهو ما يعزز فكرة أن تجربة الأسيرات ليست حادثة فردية عرضية، بل هي جزء من بنية أمنية عسكرية قمعية محكمة.
المرأة بين الأمومة والأسر
وهو من أهم أجزاء الكتاب، إذ تسرد الكاتبة في هذا الفصل الكثير من التجارب القاسية لنساء فلسطينيات داخل المعتقلات، لديهن دائمًا معاناتهن الخاصة بما يتعلق بأبنائهن. وهنا في هذا الفصل يبلغ السرد أقصى درجاته الإنسانية والوجع، حيث تتحوّل الزنزانة إلى مكان يُنفى فيه الشكل الإنساني والطبيعي للحياة.
فنقرأ هنا تجارب تتداخل فيها القصص الدرامية الموجعة مع سردية التوثيق، من خلال الحديث عن تجارب الحمل والولادة المقيّدة، أمهات اعتُقلن وهنّ حوامل وأنجبن داخل السجن، وأمهات يعانين من فصل الرضيع عنهنّ بعد أشهر قليلة. في حين تتحوّل الأمومة في المعتقل وخارجه إلى جرح مفتوح يبدأ منذ لحظة الاعتقال ولا ينتهي مع التحرر، إذ تعرض الكاتبة لتجارب أمهات عانين من التواصل مع أبنائهن بعد الإفراج عنهن ما شكّل لهنّ صدمة جديدة نغّصت فرحة تحريرهن.
من جهة أخرى تعددت في الكتاب قصص الأسيرات اللواتي يُحرمن من وداع أبنائهن أو حضور مناسباتهم، ما يكشف عن نوع خاص من الألم لا يقارن بغيره، إذ يصبح الزمن ذاته أداة تعذيب، في حين تتحوّل الذاكرة إلى وسيلة للبقاء.
لغة الكتاب بين الشعرية والتوثيق
جاءت لغة الكتاب متوهّجة لا تخلو من الشعرية في كثير من الأحيان، لكنّها لا تنزلق إلى خطاب بكائي أو رثائي، وإنما تعتمد على الإيقاع الداخلي أكثر من الزينة اللفظية، وتوازن بين العاطفة والمعلومة. وهذا الأسلوب يمنح النص حيوية خاصة ويخدم موضوعه، لأن تجربة الاعتقال في ذاتها ليست مجرد حدث سياسي بل معاناة وجودية تمسّ الروح والنفس واللغة. هذا ما تجلّى في النصوص التي نُقلت مباشرة على لسان أصحابها، أمّا فيما يخص لغة البحث والتوثيق فلهذا حديث آخر.
من جهة أخرى تقدّم الكاتبة وصفًا تفصيليًا للوجوه والأمكنة والأصوات، ما يجعل القارئ يشعر كأنه يرافق الأسيرة في لحظات التحقيق أو في العزل أو في “الفورة”. وهذا النوع من الكتابة يعزّز حضور التجربة في ذهن المتلقي، خاصة وأن أغلب النصوص تم تسجيلها مباشرة بلغة المعتقلات عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر برنامج بانوراما برلين، ما يجعل اللغة المحكية بحمولتها الأصلية حاملة لسردية الأسر بأمانة وصدق.
نقد الواقع ومساءلة الذات
على خلاف الأعمال التي تُعالج قضية الأسرى بمنطق العزاء الوطني أو تمجيد الذات، يمارس هذا الكتاب نقدًا مزدوجًا: نقدًا للاحتلال، ومن ثم نقدًا للمجتمع الفلسطيني والمؤسسات الفلسطينية التي تُهمل ملف الأسيرات أو تغضّ الطرف عنه بطريقة أو بأخرى، خصوصًا في الشق المتعلق بالرعاية النفسية والاجتماعية بعد التحرر، وخاصة من جهة الرعاية الصحية والعلاجية والرعاية النفسية. وهناك أمثلة أوردها الكتاب عن انتكاس بعض الأسيرات بعد تجربة الاعتقال والإفراج عنهن، بالإضافة إلى نقص التوثيق بما يتعلق بملفات الأسيرات، عددهنّ، مشكلاتهنّ، كذلك ضعف المتابعة القانونية ما يجعل المخرج الوحيد المعوّل عليه في الإفراج عنهن عمليات تبادل الأسرى أو أن يكنّ رهائن لصفقات سياسية عسكرية وغيرها.
هذا البعد النقدي الذاتي يشكّل خطابًا واعيًا لا يكتفي بالتعاطف، بل يدعو إلى مسؤولية جماعية وطنية تجاه الأسيرات باعتبارهن جزءًا من نسيج المجتمع. معاناتهن كفيلة بأن تدفع باتجاه وقفة نقدية ومراجعة ذاتية سياسية لمقولات الواقع ومحرجاته.
حكايات فردية تُؤسّس لذاكرة جماعية
يتميّز كتاب الحرية في أعناقهن بأنه استطاع الجمع بين القصص الفردية وبين الذاكرة الجماعية، والذاكرة الوطنية باعتبارها الخزان الفكري للنضال الفلسطيني. فالقارئ يتعرّف على الأسيرات بأسمائهن ووجوههن وتجاربهن الشخصية وعذاباتهن، وقد عملت الكاتبة على تثبيت ذلك من خلال الاسم، تاريخ الولادة، والمكان، وزمن الاعتقال، وتاريخ الإفراج. لكن القارئ في الوقت ذاته يدرك أنّ كل قصة هي قطعة من لوحة أكبر، من معاناة أشمل متجذّرة عبر الزمن، وبذلك يتحول الكتاب إلى سجلّ تاريخي إنساني واقعي غير رسمي للمأساة الفلسطينية النسوية داخل الأسر.
من جهة أخرى فإن حضور البرامج الإعلامية مثل برنامج بانوراما برلين أو البودكاست واليوتيوب يمنح العمل بعدًا توثيقيًا إضافيًا، إذ تتحول المقابلات الإعلامية إلى أرشيف حقيقي يمكن الاستناد إليه مستقبلًا، خاصة أنها تحمل شهادات بالصوت والصورة أحيانًا.
في أدب السجون
يفتح الكتاب بابًا مهمًا في أدب السجون الذي نشط في الآونة الأخيرة على الصعيد العربي نتيجة الظروف المستحدثة في المنطقة. ما يميز الفكرة هنا أن أدب السجون ظل لعقود يهيمن عليه السرد الذكوري، ورغم وجود كتب سابقة عن الأسيرات، إلاّ أن هذا الكتاب يوسّع المساحة، ويقدّم عددًا كبيرًا من الشهادات الجديدة، ويعتمد على رؤية نسوية واعية تربط بين الجسد والحرية والاعتقال وظروفه والذاكرة والهوية. كما يفتح الباب أمام قضية طباعة النتاج الأدبي للأسير والاحتفاء به وهو في زنزانته، وهنا يسرد الكتاب تجارب يمكن أن نسميها “وطنية بامتياز” لمن رعوا هذا النتاج وأقاموا له حفل توقيع في حين أن صاحب الكتاب لا يزال حبيس الجدران.
كما يقدّم الكتاب صورة شديدة الوضوح عن العنف ضد الأسيرات الذي تمارسه إسرائيل على النساء الفلسطينيات، من خلال اعتقال الفتيات القاصرات، التفتيش العاري، الإهمال الطبي، والاعتداءات اللفظية والجسدية ذات الطابع الجنسي. وهي كلّها عناصر تكشف عن استهداف الاحتلال للمرأة بوصفها رمزًا وسلاحًا في آن.
مع ذلك، يمكن التوقف عند تحدّيات منهجية وأسلوبية تواجه الكتاب، منها أن الكتاب اعتمد على عدد كبيرٍ من الشهادات، وهذا عنصر قوة، لكن: بعض الشهادات تُنقل كما هي دون تعليق تحليلي، لا تُربط دائما بالمنهج العام أو بالسياق الحقوقي والسياسي وهذا يخلق فجوة بين المادة الخام والتحليل المطلوب من كتاب توثيق من جهة أخرى جاءت اللغة المستخدمة، رغم جماليتها وقوة خطابها العاطفي، تميل في الكثير من المواضع إلى الانفعال والشاعرية، ما قد يضعف الحياد المطلوب خاصة في الفصول البحثية التوثيقية في الكتاب ما يخلط بين الأدب والبحث، ومن جهة أخرى فإن التفاصيل التاريخية والسياسية الواردة في الفصول الأولى تبدو متشعّبة غير مترابطة بما يكفي للسياق المطلوب، ما يشتت القارئ ويبعده عن جوهر الموضوع “تجربة الأسيرات”.
إضافة إلى ذلك، يفتقر الكتاب إلى معالجة تحليلية معمّقة أو مقاربة نقدية قانونية مقارنة لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني، رغم أنه يحتوي على مادة أولية مؤهلة لذلك. كما أن غياب الجداول، الخرائط، أو الإحصائيات المتسلسلة زمنياً يقلل من قوة حجته البحثية.
وعليه فإن الكتاب يُقرأ باعتباره عملاً يقاوم بطريقة التوثيق ومن خلال فعل التحدي، فالكتابة فعل تحرّر وانعتاق، ونقل صوت الأسيرة إلى العلن هو مواجهة صريحة مع منظومة أرادت أن تُخفي هذه الأصوات في العتمة، لا يقدم الكتاب تعاطفاً عابراً، بل يقيم مسافة دافئة بين القارئ وبين النص، ليصبح هذا النص بشهاداته مرآة لواقع أشدّ قسوة من أن يُختصر في عبارات جاهزة.
هذا الكتاب يقدم إضافة غنية المكتبة الفلسطينية، ويثري أدب السجون، ويمنح النساء مساحة طال انتظارها، ويذكّر بأن الحرية تبقى وعداً لا يمكن اغتياله، ولا تُنال إلا بالصمود ففي كل صفحة من صفحاته، وكل شهادة، وفي كل ألم يُروى، هناك حكاية حقيقية لمن عاش تجربة الاعتقال، بل إن بعض الأسيرات تم اعتقالهن أكثر من مرة حين إنجاز هذا الكتاب، ما يؤكد أن البحث يلامس الواقع بشكل مباشر وآني، وعليه فإن فلسطين دائما مركز الحكاية، وتعود المرأة الفلسطينية إلى موقعها الطبيعي، وكل ما قيل ما هو إلاّ جزء يسير من سيرة بطولة الأسيرات الفلسطينيات وصمودهن.
.







