أوروبا الجديدة وهيمنة اليمين المتطرف

تقديم د. أمير حمد

مع فوز الليبراليين المتحمسين في هولندا في نوفمبر الماضي، واقتراب لوبان من قصر الإليزيه، ينظر مؤلف كتاب “أوروبا الجديدة” في إمكان تحول المملكة المتحدة قريباً إلى حالة ليبرالية شاذة. يقول:

من المسلم به على نطاق واسع أن بريطانيا، وللأسف، أصبحت أكثر انعزالية منذ استفتاء خروجها من الاتحاد الأوروبي (بريكست) مع نأيها بنفسها عن السياسة الأوروبية. لكن هذا لا يقتصر على حزب “المحافظين” وحدهم. فدهشة الليبراليين البريطانيين وارتباكهم في أعقاب نتائج انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) في هولندا ــ حيث حقق حزب غيرت فيلدرز اليميني المتطرف انتصاراً كبيراً ــ يشيران إلى تلك العزلة. فبعدما استهلكت الحروب الثقافية التي بدأت عام 2016 المملكة المتحدة، غاب عنها ككل تحول الاتحاد الأوروبي نحو موقف أكثر مناهضة للمهاجرين.

من احتلال حزب فيلدرز، الذي يشن حملة على “تسونامي اللجوء”، المركز الأول في هولندا، إلى حرق الحافلات وأعمال العنف المناهضة للمهاجرين التي اندلعت في قلب دبلن في الأسبوع نفسه، ناهيك عن تقدم حزب البديل من أجل ألمانيا وحزب مارين لوبان في فرنسا في الاستطلاعات، يتفاعل المجال السياسي في أنحاء القارة كلها مع المستويات التاريخية للهجرة – التي استفاد منها اليمين المتطرف.

عام 2022، وصل ما يقرب من مليون طالب لجوء إلى الاتحاد الأوروبي وسويسرا والنرويج، إضافة إلى حوالى 4 ملايين أوكراني كانوا التمسوا الأمان هناك بالفعل. طلبات اللجوء في الاتحاد الأوروبي ارتفعت بنسبة 38 في المئة منذ عام 2019، مقتربة من أعلى مستوياتها المسجلة بين عامي 2015 و2016، عندما تطرقت الصحافة الأوروبية للمرة الأخيرة عن “أزمة هجرة”. تثير هذه الأرقام قلق الزعماء الأوروبيين، ليس فقط لأنها تشير إلى أن أياً من التدابير التي اتخذت عام 2016 لم تثبت فعاليتها، بل أيضاً لأنها تثير قلق الناخبين الأوروبيين.

في هولندا، انتهى حكم رئيس الوزراء مارك روته الوسطي الذي دام 13 سنة بشكل نهائي. يمثل فيلدرز شكلاً راديكالياً بشكل خاص من السياسة التي تكتسب زخماً عالمياً. حصل السياسي الهولندي، الذي بدأت حملته الطويلة للوصول إلى هنا قبل 17 سنة عندما أسس حزب الحرية، على ربع المقاعد في البرلمان بفضل دعوته إلى وقف قبول طلبات اللجوء وصد المهاجرين عند الحدود الهولندية. ومع ذلك، فإن هذا التحول نحو مواقف أكثر صرامة لا يقتصر على هولندا فقطـ إنه اتجاه أصبح واضحاً بشكل متزايد في جميع أنحاء أوروبا.

في ألمانيا، تغير نهج التعامل مع الهجرة بشكل كبير منذ انتهاء ولاية أنغيلا ميركل. يقول المستشار أولاف شولتز، متحدثاً عن أعداد اللاجئين: “في نهاية المطاف علينا أن نرحلهم على نطاق واسع”.

وبالنظر إلى احتلال حزب “البديل من أجل ألمانيا” المناهض للمهاجرين المرتبة الثانية في الاستطلاعات، بنسبة 21 في المئة – متقدماً بخمس نقاط كاملة على حزب شولتس الديمقراطي الاجتماعي التاريخي – فإن تصريحات شولتس إنما تعكس المزاج العام في البلاد. كما أن فريدريش ميرز، زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي [حزب ميركل سابقاً]، قام بإعطاء الأولوية لموضوع الحد من الهجرة كسياسة رئيسة له التي لم تخل من تعليقات حول فقدان ضواحي برلين لهويتها الألمانية.

حتى أن قضايا الهجرة أعادت تشكيل أقصى اليسار في ألمانيا. فلقد نجحت النائبة سارة فاغنكنيشت، ذات النفوذ، بتقويض حزب “دي لينكه” اليساري في البرلمان في وقت تعمل فيه على بناء قوة يسارية مناهضة للمهاجرين في المجال السياسي. هذا دليل على أنه ما من شريحة سياسية يمكن أن تكون محصنة.

في الدول الإسكندنافية، التي طالما اعتبرتها بريطانيا منارة للقيم التقدمية، اتخذت كل من الدنمارك والسويد منعطفاً يمينياً واضحاً في شأن الهجرة.

في الدنمارك، قاد هذا التوجه يسار الوسط، الذي ينتمي في واقع الأمر إلى يمين معظم أحزاب يمين الوسط الأوروبية في موقفه من اللجوء أو تفكيك “غيتوهات” المهاجرين.

وفي الوقت نفسه، في السويد، حيث يشكل حزب “الديمقراطيون السويديون” اليميني المتطرف أكبر حزب داخل حكومة أقلية يمينية، يمكن أيضاً ملاحظة تحوله نحو اليمين في شأن الهجرة. وكذلك تجري مناقشة حزم جديدة صارمة حول المكان الذي يمكن أن يعيش فيه طالبو اللجوء أو ما إذا كان يمكن ترحيلهم بسبب ما يسمى بـ”أوجه القصور في نمط الحياة”.

صحيح أن الانتخابات في إسبانيا وبولندا سارت في الاتجاه الآخر هذا العام. لكن في كل منهما، انتصر يسار الوسط بفارق ضئيل على اليمين الذي أصبح متطرفاً بعمق في شأن مسألة الهجرة. ناهيك عن رسوخه. ربما تراجعت حصة حزب “فوكس” اليميني المتطرف في إسبانيا إلى 33 مقعداً من 55 مقعداً، لكنه لم يكن يحتل أي مقاعد في البرلمان على الإطلاق عام 2016.

من الواضح أن المفوضية الأوروبية تراقب هذا كله بقلق. لكن ليس بذعر. صحيح أن حزب فيلدرز قد يدعم استفتاء على “نيكست” (خروج هولندا من الاتحاد الأوروبي)، لكن التوقعات تشير إلى أنه سيتخلى عن ذلك في مقابل تشكيل حكومة ائتلاف.

في شكل عام، تنظر المفوضية إلى جورجيا ميلوني في إيطاليا باعتبارها النموذج لما سيكون عليه اليمين المتطرف حين توليه السلطة. إذ قامت استراتيجية ميلوني السياسية على إجراء صفقة واضحة مع شركاء الائتلاف الحكومي المترددين: تنحية موقفها المناهض للاتحاد الأوروبي جانباً في مقابل السلطة، لكنها تحافظ في الوقت نفسه على التزامها بسياساتها المناهضة للجوء.

لا يخشى المطلعون في بروكسل من استيلاء قادة اليمين المتطرف على السلطة ومغادرة بلدانهم الاتحاد الأوروبي، وإنما يتمثل قلقهم في سيطرة هذه الحكومات على مؤسسات الاتحاد الأوروبي وإعادة تشكيل أوروبا وفقاً لأيديولوجياتها.

سيتوقف مستقبل هذا السيناريو إلى حد كبير على الانتخابات الفرنسية في عام 2027، إذ لا تزال فرنسا تشكل قوة محورية في تشكيل الاتحاد الأوروبي، كما كان الحال في عصر نابليون.

لكن مخاوف الليبراليين الأوروبيين في ازدياد، خصوصاً مع ظهور الرئيس ماكرون ضعيفاً بعد أن فقد حزبه السيطرة البرلمانية. وبما أنه لا يستطيع الترشح لولاية ثالثة، هناك شعور واضح بين المطلعين في باريس بأن مارين لوبان لديها فرصة حقيقية للفوز بالإليزيه. ويظل السؤال الرئيس قائماً: إلى أي مدى قد تتمكن لوبان [حال فوزها] من محاكاة استراتيجيات ميلوني في إيطاليا؟

واليوم، نرى الجو السياسي العام في بريطانيا منشغلاً بأسئلة حول شرعية وحتى جدوى معالجة طلبات اللجوء في رواندا. لكن غالباً ما ننسى أن كلاً من ألمانيا والدنمرك تنظران في مخططات مماثلة.

وفي الوقت نفسه، قامت إيطاليا بالفعل بمعالجة طلبات اللجوء في ألبانيا. والقضية الحاسمة المطروحة الآن هي ما إذا كان الاتحاد الأوروبي ككل سيختار إما تجاهل أو تعديل الاتفاقات التي تشكل الأساس لقانون اللجوء، وهذا في نهاية المطاف مسألة صنع القرار السياسي.

والسؤال الملح هو: هل نشهد هيمنة اليمين المتطرف حتى نهاية العقد الحالي؟

هناك أدلة لا يمكن إنكارها على أن الهجرة غيرت المجتمعات الأوروبية بشكل كبير. على سبيل المثال، ارتفع عدد السكان المسلمين في فرنسا من 0.55 في المئة عام 1950 إلى أكثر من 10 في المئة الآن. أما ألمانيا، التي أعلنها المستشار هيلموت كول ذات يوم بأنها ليست “مجتمعاً للمهاجرين”، فأصبح الآن 17 في المئة من سكانها مولودين في الخارج. وعلى نحو مماثل، فإن 14 في المئة من سكان بريطانيا مولودون في الخارج، وهي النسبة نفسها في الولايات المتحدة. وحتى أيرلندا، المعروفة تاريخياً بهجرة شعبها للعيش في أماكن أخرى، أصبح الآن 18 في المئة من سكانها مولودين خارجها، وهو ما يتجاوز نسبة المولودين في الخارج في الولايات المتحدة.

أثناء تجوالي في القارة من أجل تأليف كتابي الجديد “هذه هي أوروبا”، الذي يسعى إلى توثيق التحول الدراماتيكي الذي شهدته القارة، كان أحد استفساراتي الأساسية: كيف يبدو الأمر بالنسبة إلى المهاجرين أنفسهم؟

كان أحد الأشياء التي أدهشتني هو أن طالبي اللجوء واللاجئين أنفسهم، بدءاً من الرجال السوريين في برلين إلى النساء الأفغانيات في أثينا، كانوا مدهوشين كيف أن أوروبا ليست أوروبا التي توقعوها، وإنما قارة تحولت بسبب الهجرة إلى مجتمع مختلف تماماً.

في فرنسا وألمانيا، شعر بعض المهاجرين أن الهجرة أكبر مما ينبغي في الواقع – وخصوصاً من المجموعات العرقية الأخرى. اعتقد كثر أن الطبقة الوسطى المولودة في أوروبا لم تكن مدركة إلى حد كبير لمدى التنوع الذي وصلت إليه المجموعات السكانية العاملة المستندة إلى الهجرة في القارة. أخبرني مهاجرون أنفسهم مراراً أن السلطات الأوروبية تتعامى عن استغلال المهاجرين أو تأثير العصابات العرقية.

هناك احتمال كبير أن تنتخب بريطانيا عام 2024 حكومة تحت قيادة السير كير ستارمر، الملتزم بسياسات لجوء أكثر ليبرالية من قيادة المحافظين الحالية. وقد يؤدي هذا السيناريو إلى تخلي حزب العمال عن خطة رواندا، في وقت تبدأ فيه دول داخل الاتحاد الأوروبي بتنفيذ سياسات مماثلة. خلال مرحلتها الشعبوية، شهدت بريطانيا شعوراً بالعزلة داخل أوروبا، التي بدت أكثر ليبرالية. لكن، قد تجد بريطانيا نفسها قريباً معزولة، لكن في سياق مختلف، داخل أوروبا حيث تتمتع شخصيات مثل غيرت فيلدرز وجورجيا ميلوني بالنفوذ.