ألمانيا .. سيناريو الدولة العظمى

 

 

محمد عبد المنعم

 

كل عامين يتجه رجال الجيش ووزراء الدفاع وتجار الأسلحة ومصنعوها من جميع أنحاء العالم إلى معرض الأسلحة الضخم في لندن، قد تكون هناك حروب بين هذه الدول، لكنهم ينسون أحقادهم بينما يشترون أسلحة جديدة وأكثر تطورًا مثل العربات المصفحة والطائرات المروحية والصواريخ بالإضافة إلى أقنعة الرؤية الليلة.

وفي جانب من المعرض، تعرض واحدة من أكبر منصات العرض منتجات شركة “راينميتال” الالمانية العملاقة، حيث تبيع هذه الشركة التي مقرها ديسردولف الألمانية ما قيمته 3 مليارات يورو من المعدات العسكرية والأسلحة والدبابات والذخائر المعروضة، كأنها مقتنيات متحف ثمينة، قد تجعل الناظر ينسى أنها آلات للقتل.

لكن يبدو أن ألمانيا هي التي تناست ذلك فتخلت عن حياد سياستها الخارجية المعلن، وبحسب الصحفي المتخصص بتجارة الأسلحة أندرو فاينستين، فإن ألمانيا لها دور في تصدير الأسلحة خاصة إلى الدول غير المستقرة وأماكن الصراعات والقمع، وأهمها منطقة الشرق الأوسط، وهكذا تؤدي دورًا في ضمان دموية تلك الصراعات.

 

ومع تصاعد الأزمات والحروب، أثار تصدير السلاح للأنظمة الديكتاتورية كثيرًا من الجدل في ألمانيا.

وإذا نظرنا إلى القانون فإن قطاع الأسلحة الألماني لا شأن له بهذه الحرب، فعلى سبيل المثال من المحظور – بحسب القانون الألماني – تصدير الأسلحة إلى الدول التي يمكن أن تستخدمها في تعكير حالة السلام، لكن وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لاين تفعل ذلك غير مبالية بأصوات علت حين امتدت صفقات تصدير الكثير من الأسلحة إلى الدول التي تشهد نزاعات، وزجت ألمانيا بنفسها في سباق تسليح دول منطقة الشرق الأوسط، وساهمت عبر أسلحتها بتأجيج الصراعات في المنطقة.

 

الحرب مربحة

هناك العديد من الطرق للحصول على الربح، أحدها يكشفه تحقيق استقصائي لقناة “دويتش فيلله” الألمانية، الذي يأخذنا إلى جزيرة سردينيا الإيطالية في البحر الأبيض المتوسط التي يعرفها الكثير من الألمان كوجهة سياحية، ولعل ما حدث في مطار كالياري الإيطالي حيث تهبط الطائرات المحملة بالمصطافين، لكنها هذه المرة اصطفت بالقنابل في عرض مثير يظهر الأسلحة المستخدمة في الحروب بطائرة شحن إلى جوار طائرات السياح.

وفي سردينيا على بعد 450 كيلومترًا من كالياري، تُصنع القنابل في وادي قرب ديفنوفس يوجد مصنع ذو مظهر متواضع يصنع آلاف القنابل، ويعود إلى شركة تُدعى “RWMItalia”، والاسم اختصار لشركة “راينميتال للأسلحة الذخائر”، وهذه الشركة تابعة لـ”راينميتال” الألمانية المصنعة للأسلحة، وتنتج أسلحة من أجل الربح، لكن أين تُستخدم لاحقًا الأسلحة التي تصنعها “راينميتال” في سردينيا؟

في عام 2011 نشر أحد موظفي منظمة “هيومان رايتس واتش” صورًا عن مكونات القنابل، وكانت القنابل تحمل رمزًا يحدد مصدرها، عُثر عليها في مدينة صعدة شمال اليمن ، الأمر الذي اضطر الشركة للاعتراف بأن الرقم المتسلسل الذي تحمله القنابل يتبعها.

 

المتاهة

هناك طلب شراء جديد للأسلحة بقيمة 411 مليون يورو، لبلد يقع في منطقة من أكثر المناطق التي مزقتها الصراعات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لكن راينمتال لن تفصح عن اسم هذا البلد!

بدأت الصورة تتضح بالتدريج، فكل المؤشرات تشير إلى النمو خاصة في قسم “راينميال ديفينس للصناعات الدفاعية”، حيث بلغت المبيعات ,53 مليارات يورو عام 2017، أي بزيادة نسبتها 14% عن العام السابق.

فمنذ بدء عاصفة الحزم عام 2015، كان هناك شك بشأن تماشي تصدير الأسلحة مع القانون الإيطالي، فالدستور الإيطالي الذي يدين الحرب وكذلك قانون تصدير الأسلحة يمنعان هذا النوع من التصدير، فكيف مع ذلك يمكن لشركة راينميتال تصدير القنابل من سردينيا إلى الدول المتعاقدة معها؟

أجابت وزيرة الدفاع الإيطالية روبرتا بينوتي أن هذا لا يقع في دائرة اختصاصها، فتلك القنابل – في رأيها – ليست إيطالية، مضيفة أنها جزء من عقد وقعته شركة أمريكية ثم منحت العقد لشركة راينميتال الألمانية التي تمتلك مصانع في إيطاليا.

الألمان في المقابل يعدونها أسلحة إيطالية، فوزير الاقتصاد الألماني يقول عن القنابل التي تبيعها راينميتال: “المشكلة التي تتحدثون عنها تتعلق بتصدير أسلحة مصنعة في ألمانيا، والقانون الألماني يُطبق فقط على الأسلحة التي تُصدر من ألمانيا”، فمن إذًا المسؤول عن تصدير القنابل من أكبر شركات إنتاج الأسلحة في ألمانيا؟

 

تجارة الموت

حين يجتمع مجلس الأمن الاتحادي المؤلف من المستشارة الألمانية وأهم وزرائها في لجنة تقرر سرًا بانتظام عمليات تصدير الأسلحة، فإنها تستند إلى المبادئ الأساسية للحكومة الألمانية التي تقول إنه لا يمكن توفير الأسلحة للبلاد التي تخوض صراعات مسلحة أو حيث يوجد خطر اندلاع تلك الصراعات.

لكنه مبدأ مرن كما تُظهر آخر الأرقام، ففي عام 2017 صادقت الحكومة الألمانية على صادرات أسلحة إلى بلدان لا تحقق الشروط المطلوبة، فقد باعت الشركات الألمانية أسلحة وذخيرة “مرخصة” بقيمة مليار يورو في المنطقة العربية.

كما يعد تصدير مصانع الأسلحة الكاملة جانبًا مهمًا من إستراتيجية “راينميتال دينيل”، ففي المحصلة تقول الشركة إنها صدرت 39 مصنعًا للأسلحة والذخيرة، ويشيد رئيس فرع الشركة بأن تلك المصانع تمنح العملاء فرصة لتصنيع أسلحتهم بأنفسهم، لكن من الصعب معرفة هؤلاء العملاء الذين تسلحهم الشركة عبر جنوب إفريقيا.

وبحسب وثائق سرية نشرها مجموعة من قراصنة الإنترنت ، فإن الشركة الألمانية شاركت في إنشاء مصنعين في ادول الخليج، ما يعني أنها باعت عملية الإنتاج بأكملها، وفي هذه الحالة لا تملك الشركة الألمانية السيطرة على الإنتاج.

عبر سردينيا وجنوب إفريقيا سلحت راينميتال التحالف العسكري في حرب اليمن، وزودته بالقنابل من البحر الأبيض المتوسط والمصانع الجاهزة من جنوب إفريقيا. ولا يبدو أن للشركات الألمانية أي رادع يمنعها من التصدير للأطراف المتحاربة في أي صراع مسلح، فبينما تحصل السعودية وحلفاؤها على مصانع أسلحة، تبدو ألمانيا مهتمة أكثر بالحصول على الأموال عن طريق تسليح خصمهم اللدود إيران التي تساند الطرف الآخر في حرب اليمن.

ورغم وجود الدلائل على ذلك، تبقى الحاجة ملحة بشأن سبل تهرب أكبر مصنعي الأسلحة في البلاد من القانون الألماني، فالشركات لديها صلات وثيقة بالحكومة؛ لأن لديها دورًا رئيسًا في الدفاع الوطني الألماني وسياسة ألمانيا الخارجية، كما تؤثر على الاقتصاد، لكنه ليس تأثيرًا كبيرًا كما تظهره تلك الشركات في بياناتها الصحفية.

إنها حرب مربحة حتى بالنسبة لصغار المستثمرين الذين يملكون أسهمًا في أكبر شركة لتصنيع الأسلحة في ألمانيا، شركة ألمانية استطاعت التحرر من القوانين الألمانية وصنع منتجاتها في دول تتمتع قوانينها بمرونة عالية، شركة تنجح في العثور على طرق لبيع ترسانة الدمار الخاصة بها في مناطق الأزمات دون مساءلة في بلد يفخر بمبادئه النبيلة.

 

سيناريو الدولة العظمى

تسعى ألمانيا إلى تأدية دور أكبر في المستقبل على الصعيد العسكري في إطار حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.

وتسعى على المدى الطويل أيضاً الى «وحدة دفاعية» بين بلدان الاتحاد الأوروبي، وهي محاولة حذرة لإعادة إحياء مشروع مجموعة الدفاع الأوروبي المقترح عام 1954 الذي تم التخلي عنه بعد رفض فرنسا له، في وقت تبحث أوروبا عن رؤية جديدة بعد صدمة خروج بريطانيا من الاتحاد.

وورد في نص خريطة الطريق الجديدة للسنوات المقبلة لكل من الجيش الألماني ولسياسة الأمن القومي انه «بات ينظر الى ألمانيا أكثر فأكثر على أنها لاعب مركزي في أوروبا». وأضاف النص أن «ألمانيا لديها مسؤولية المساهمة في شكل نشط في تشكيل النظام العالمي»، وأنها مستعدة «لتحمل مسؤولياتها وأخذ زمام المبادرة» في مواجهة التحديات «الأمنية والإنسانية».

ويعتبر تغيير النهج مهماً بالنسبة الى ألمانيا التي غالباً ما تواجه انتقادات، بأنها تسعى الى التمتع بازدهارها والبقاء في الوقت نفسه على الحياد.

وسمح قضاة المحكمة الألمانية العليا عام 1994 للبلاد بالمشاركة في عمليات حفظ السلام المتعددة الأطراف.

وينتشر الجنود الألمان حالياً في مسارح عمليات عدة، بدءاً بكوسوفو أو افغانستان ومالي. وأرسلت ألمانيا للمرة الأولى أسلحة الى مجموعة منخرطة في نزاع، هم عناصر البيشمركة الأكراد في العراق الذين يقاتلون ضد تنظيم «داعش» ولهم في الأردن قوات متمركزة.

وسيشهد الجيش الألماني ثورة صغيرة مع أول زيادة في معدلات الالتحاق بصفوفه منذ نهاية الحرب الباردة، بعد أن كان اشتكى في السنوات الأخيرة من عدم تجهيزه في شكل كاف.

وتعتبر ألمانيا ايضاً إحدى الدول المسؤولة عن قيادة اربع كتائب من حلف شمال الأطلسي ستعمل بنظام المناوبة في أوروبا الشرقية لمواجهة التهديد الروسي.

وأثار هذا الإجراء الذي اتخذ خلال قمة وارسو جدلاً واسعاً في ألمانيا، حتى داخل حكومة انغيلا مركل الائتلافية، اذ رأى فيها أعضاء الحزب الاشتراكي الديموقراطي خطوة تصعيدية ضد موسكو.

وفي محاولة لطمأنة الحلفاء، تتحدث خريطة الطريق للسنوات المقبلة لكل من الجيش الألماني ولسياسة الأمن القومي بوضوح عن الطموح الجديد لألمانيا في الإطارين الأطلسي والأوروبي. وأوضح النص ان «ألمانيا تهدف على المدى الطويل الى اتحاد أوروبي أمني ودفاعي مشترك».

 

في الوقت الراهن، يتعلق الأمر أساساً باستخدام كل إمكانات التعاون العسكري التي تسمح المعاهدات الأوروبية باللجوء اليها، وبـ «تعزيز صناعة الدفاع الأوروبية» من خلال مقاربات مع فرنسا على وجه الخصوص.

لكن خريطة الطريق الجديدة لم تذهب الى حد الحديث عن جيش أوروبي وان كان المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر تحدث بإيجابية عن هذه الفكرة في مقال، واقترح أن تقوم باريس وبرلين بـ «حشد مواردهما» في شكل «مؤسساتي» في السياسة الخارجية والأمن.

في الشهر الماضي قالت وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لاين إنها لا يمكنها أن تستبعد انتشارا طويل الأمد للقوات الألمانية في الشرق الأوسط، وسط نقاش أوسع نطاقا عن دور ألمانيا في تحرك عسكري محتمل في سوريا.

وأدلت الوزيرة بتلك التصريحات خلال زيارة لقاعدة الأزرق الجوية الأردنية التي يتمركز فيها نحو 300 جندي ألماني إضافة إلى طائرة تزويد بالوقود وأربع طائرات من طراز تورنيدو تقوم بمهام استطلاع في إطار عمليات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا.

وردت فون دير ليين على سؤال عما إذا كانت ألمانيا تحتاج إلى قاعدة عسكرية استراتيجية في الشرق الأوسط قائلة “في البداية علينا أن ننهي هذا الانتشار بنجاح. دعوني أقول إنني لا أريد أن أستبعد الفكرة”.