أردوغان ونظرية “صفر مشاكل”

إبراهيم بدوي

تعكس دبلوماسية تركيا إقليميا ودوليا وتحركاتها المثيرة للجدل خصوصا في منطقتي المتوسط والشرق الأوسط، مدى شراسة دولة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المتمسكة بانتهاج سلوك عدائي تجاه المجتمع الدولي، بالمضي قدما في تنفيذ انتهاكات صارخة للمواثيق والمعاهدات وإجراء تدخلات عسكرية واسعة النطاق، ما يرجح دخول أنقرة في عزلة محتملة ستسبب حتما أسوأ أزمة لبلد يعاني أصلا ركودا اقتصاديا آخذا في التفاقم.

ويرى محللون أن سياسة تركيا الخارجية ابتعدت تماما عن دبلوماسية “صفر مشاكل” التي كان أعلنها حزب العدالة والتنمية الحاكم قبل سنوات. ذلك أن العديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك اليونان وقبرص، وبدعم من فرنسا والاتحاد الأوروبي، أوجدت عقبات في طريق تركيا في هذه المنطقة البحرية الشاسعة والاستراتيجية، ولا يبدو أن هذه العرقلة اليونانية والفرنسية مؤقتة أو غير مهمة.

لأنه في هذه الخطوات الأولى نفسها، اتخذت ألمانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي مواقف قوية ضد تركيا، وتشير الأدلة إلى أن التقدم في هذا المجال أصعب مما کان يتصوَّره القادة السياسيون والعسکريون في أنقرة في الوهلة الأولى.

ونقل موقع ‘أحوال تركية’ عن المحلل السياسي قوله إنّه “ما لا يقل عن 13 من أصل 25 تصريحًا حديثًا للخارجية التركية كانت مجرد إدانات ورفض وتحذير لمن يتصرفون بتوجيه من مجموعات معينة” وفقاً لما جاء في تلك البيانات، والتي تصدّر معظمها وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو.

من جانب آخر هاجمت أنقرة موسكو على خلفية إدانة الأخيرة لانتهاكات تركيا بحق أكراد سوريا، فضلا عن إدانتها المشاركين في القمة الأوروبية الأخيرة التي بحثت اتخاذ إجراءات لكبح الانتهاكات التركية في المتوسط.

ولم تسلم جامعة الدول العربية التي أدانت التدخلات التركية في كل من سوريا والعراق ليبيا واليمن، من هجمات أنقرة على الرغم من أن الجامعة العربية طالبت بموجب القانون الدولي أن تتوقف تركيا عن تدخلها العسكري في المنطقة.

من بقي وحيداً؟

استخدم “أبراهام قالين” العبارة الغريبة والخاصة “الوحدة المقدسة” لأول مرة. في ذلك الوقت، لم يكن كولين مشهورًا بالمستوى الحالي، وربما لم تحظ عبارته بالاهتمام الإعلامي كما ينبغي.

لقد استخدم هذه العبارة لوصف موقع تركيا في سوريا. ففي الوقت الذي كان فيه “داود أوغلو” لا يزال على رأس السياسة الخارجية التركية، وكان يعتقد أنه يمكن أن يقود سوريا إلى تغيير الحكومة من خلال تجهيز وتوجيه خصوم الرئيس الأسد، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وأوروبا، لم ترحب دول المنطقة بخطة تركيا، وقال كولين إن تركيا أصيبت بـ “الوحدة المقدسة” في الدفاع عن حقوق المظلومين في الملف السوري.

على الرغم من مرور بضع سنوات منذ ذلك الحين، ولکن عبارة “تركيا الوحيدة” تم احياؤها مرةً أخرى من قبل المعارضين.

اليوم، كما في الأيام الأخيرة، تحدَّت صحيفة “جمهوريت” وهي منصة المعارضة، سياسات فريق أردوغان في البحر الأبيض المتوسط، معلنةً أن تركيا بقيت وحيدةً عملياً في تحقيق أهدافها السياسية في هذه المنطقة البحرية الحساسة، وباتت من دون صديق ورفيق وداعم ومتشابه في التفكير.

والآن تحاول تركيا، جنبًا إلى جنب مع القسم القبرصي الذي يقطنه الأتراك تحدي اليونان بمناوراتها البحرية، لكن اليونان أيضًا عززت قواتها علی حدودها البرية وقوات خفر السواحل، كما لو كانت الأصابع على الزناد.

الدبلوماسية أو القوة العسكرية

في الأسابيع الأخيرة، ووسط توترات بين أنقرة وأثينا وأنقرة وباريس، کان لـ”خلوصي آکار” وزير الدفاع التركي التصريحات والمواقف أکثر من أي شخص آخر. وهذا يدل على أنه من الناحية السياسية والفكرية لحكومة أردوغان، من أجل اتخاذ موقف ضد فرنسا واليونان وقبرص، يجب أن تدخل الشخصيات العسكرية إلى الميدان، وليس الدبلوماسيين.

وفي هذا السياق، استعرض خلوصي آكار قدرات بلاده ضد اليونان وفرنسا عدة مرات، من خلال الصور ومقاطع الفيديو والبيانات القوية وقيادة طائرات من طراز “إف 16” وأفعال مماثلة.

ولكن هذه هي القضية التي انتقدها زعيم حزب المستقبل “أحمد داود أوغلو” الذي يرى أن قضية شرق المتوسط وحل مشاكلها يجب أن تكون في يد الجهاز الدبلوماسي، ويجب اتخاذ مبادرات دبلوماسية في هذا المجال.

وقال في هذا السياق: “لقد أصبح حزب العدالة والتنمية غير كفء في السياسة الخارجية، ولا يمكنه التعامل مع هذه القضية.

صراع الغاز

يبدو للكثيرين أنه صراع على الغاز في المتوسط يخفي وراءه أهدافا أخرى لأنقرة تظهر من خلال “فرد عضلاتها” عسكريا في مياه المتوسط على نحو غير مسبوق.

ويبدو “هدف الغاز” واضحا للجميع، أما ما يختفي خلفه فهو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يختبر حاليا قوة بلاده العسكرية البحرية في المتوسط، للتأكيد على قدرة أنقرة على حماية مصالحها، وأنها قوة إقليمية لا يمكن أن يستهان بها في مجال الدفاع البحري، وفق وكالة “بلومبيرغ”.

لكن تركيا، وهي تستعرض عضلاتها في عرض المتوسط، تصطدم مرة أخرى مع أعدائها التاريخيين في الغرب، الأمر الذي قد يجعل طموحها في بناء قوة عسكرية بحرية في المنطقة في عين العاصفة.

ويكشف نمو قدرات البحرية التركية في الآونة الأخيرة عن حجم الطموح التوسعي لدى أردوغان، الذي يسعى دوما للتأكيد على أن أنقرة بإمكانها مجابهة أوروبا وروسيا والولايات المتحدة، علما أن لديها قوات أو نفوذ عسكري في عدد كبير من بلاد المنطقة.

وفي هذا الصدد، أشار “أرسلان بولوت” المحلل في صحيفة “يني ﺷﺎﻍ” الترکية، إلى آراء عدد من أساتذة الجامعات الترکية حول خصائص الشلل الدماغي والاضطرابات العصبية، وشدد على أن الجهاز العصبي لحكومة أردوغان مشلول تماماً في شرق البحر المتوسط، وغير قادر على اتخاذ القرارات والتحرك!

أما المؤرخ التركي “سينان ميدان” فقد كتب في صحيفة “سوزوجو” الترکية: “على مر التاريخ، كانت لدينا مشاكل وخلافات مع اليونان، والغرب دعم اليونان دائمًا في هذه النزاعات. يعتقد الكثيرون أن اليونان لا تفهم إلا لغة القوة والسلاح. ولكن ليس هذا هو الحال، بل لحل الخلاف مع أثينا يجب أن ندخل من باب الدبلوماسية والتفاوض”.

بدوره يعتقد “أيدين سيزر” المحلل السياسي التركي، أن تركيا جلبت الناتو لحل المشکلة مع اليونان وغيرها، وهذا أمر طبيعي. لكن بالإضافة إلى الناتو، دخلت روسيا أيضًا علی خط هذه الحملة، والآن اكتسبت روسيا موقعًا في التوتر المتوسطي اكتسبته من خلال علاقتها مع تركيا.

رغم تصريحات المعارضين، فإن فريق أردوغان يمضي قدماً بخططه، ويمكن القول بجرأة إنه بالنسبة لتركيا وحزب العدالة والتنمية، سيكون عام 2020 عامًا للتحرك في شرق البحر الأبيض المتوسط، وسيكون لتحقيق أو عدم تحقيق الأهداف في هذه الساحة التي تسودها الضبابية، تأثير عميق على مستقبل تركيا والحزب الحاكم.

.