هل تعود الفاشية؟
الدليل ـ برلين
بالرغم من الانخفاض الشديد في أعداد المهاجرين واللاجئين الذين يصلون إلى إحدى بلدان الاتحاد الأوروبي خلال الشهور الأخيرة، حيث بلغت نسبة التراجع 94 في المئة عما كان الحال عليه في الأعوام الماضية وخاصة العام 2015 حين دخل حوالي مليونين لاجئ إلى دول الاتحاد كما صرح المسؤولين في البرلمان الأوروبي، إلا أن الضجة التي تثار حول ملف اللاجئين والمهاجرين لا تستكين، بل تحولت إلى قضية تجاذب سياسية بين مختلف الأحزاب الأوروبية يمينها ويسارها، وصلت إلى حد تحولها إلى أزمة باتت تهدد الوحدة الأوروبية ذاتها.
مع إن الدول الأوروبية فرضت قيوداً متشددة للحد من وصول اللاجئين إلى أراضيها بطرق غير شرعية، حيث تعتبر هذه الإجراءات هي الأشد والأكثر قسوة في تاريخ معالجة الاتحاد الأوروبي لهذه القضية، لكن هذا الملف تحول إلى مادة مثيرة لوسائل الإعلام المختلفة. ووجدت فيه الأحزاب اليمينية المتطرفة الذريعة التي تنتظرها كي توسع نفوذها وسط شرائح جديدة ومتعددة في المجتمعات الأوروبية، لأهداف انتخابية للوصول إلى البرلمانات، من خلال نشر ثقافة الخوف بين الأوروبيين من القادمين لسرقة وظائفهم، هؤلاء الوافدون من خلفيات عرقية وإثنية مختلفة وهو ما يهدد النسيج الاجتماعي ويشوه الهوية الثقافية الأوروبية كما يدعون، والمغالاة في تصوير الخطر القادم من المسلمين عبر توجيه خطاب عنصري شوفيني من قبل قادة الأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا وهولندا وإيطاليا، واليونان والمجر وبولندا وبلغاريا وبلجيكا، وبصورة اقل في ألمانيا والسويد والدانمرك.
ما هي حكاية اليمين ؟
اثناء الثورة الفرنسية في العام 1789 وفي إحدى اجتماعات الجمعية الوطنية الفرنسية، تم استبدال الجمعية بمجلس تشريعي، فجلس الرافضين للتجديد والمؤيدين للملك والمدافعين عن الدستور على يمينه، بينما جلس على الجهة اليسرى مؤيدو الثورة والمجددون.
لكن مصطلح اليمين واليسار بمفهومه الأيديولوجي لم يظهر إلا في بداية القرن العشرين، حيث تبلورت المفاهيم السياسية وأصبحت تصاغ بطريقة ممنهجة. فأصبح اليساريين يصفون أنفسهم على أنهم “جمهوريين” وصار اليمينيين يصفون حالهم “محافظين”. خلال الحرب العالمية الأولى التي بدأت في العام 1914 أصبحت جميع القوى والأحزاب الاشتراكية والجمهورية والراديكالية في الجلوس بالجهة اليسرى للمجلس التشريعي الفرنسي.
يتبنى اليمين عادة الخطاب المحافظ الذي يدعو إلى إصلاح متدرج، مع المحافظة على كل ما هو عناصر موروثة، ويؤمن اليمين أن هناك فروقات شخصية واجتماعية بين البشر، ويعتنق أفكار تحارب التجدد، وترفع شعارات حرية الأسواق والتجارة والملكية الفردية.
بينما اليسار يؤمن بمفهوم العدالة الاجتماعية والمساواة، يعترف بالتقسيم الطبقي لكنه يناضل لأجل إلغائه، يدعو إلى التغيير والتجدد، وإلى وضع ضوابط لحركة الأسواق والتجارة.
اليمين ليس كله يميناً منسجماً، نجد اليمين إلى يمين الوسط واليمين المتطرف. يعرف عن يمين الوسط تبنيه لبعض السياسات الاجتماعية، وانفتاح محدود للتغيير في حدود ضيقة، إذ أنه ليس يميناً محافظاً بالكامل. فيما يتعلق باليمين المتطرف فإنه يغالي في خطابه الذي يعتمد في الأساس على مبادئ اليمين المحافظ.
أيضاً لليسار تصنيفات، هناك يسار الوسط الذي يتبنى بعض السياسات الليبرالية، واليسار الراديكالي الذي يؤمن بالصراع الطبقي وضرورة التغيير الجذري.
بعض المفكرين الغربيين يعتمد تصنيف الأحزاب الأوروبية إلى ” شيوعية، اشتراكية، خضراء، ليبرالية، ديمقراطية مسيحية، محافظة، يمين متطرف” ارتباطاً بالموقف من ملكية وسائل الإنتاج، والموقف من الأوضاع الاجتماعية كمقياسين أساسيين. وهناك من يعتمد معايير تقسم الأحزاب بناء على موقفها من الفرد أو الجماعة، مثل ” الليبرالية الفوضوية واليمين المسيحي”، إلا أن أكثر التقسيمات شيوعاً هي التي تعتمد على تصنيف اليمين واليسار والتفرعات بينهما.
اليمين المتطرف، هو ما توصف به بعض الأحزاب الأوروبية التي تتقاطع فيما بينها في عدة نقاط أهمها إظهار العداء للمهاجرين، وسعيها لوقف الهجرة إلى الدول الأوروبية، حيث أن هذه الأحزاب تعتبر ان هؤلاء المهاجرين يهددون الهوية القومية الأوروبية – وهذا الموقف يتعلق برؤية هذه الأحزاب للإسلام والمسلمين الذين لا يؤمنون بعلمانية المجتمعات الأوروبية- وكذلك يتهم هذا اليمين المهاجرين أنهم السبب الرئيسي وراء ارتفاع معدلات الجريمة وانتشار الجريمة، وأنهم يستغلون مزايا الرفاه الاجتماعي المتوفر في الدول الأوروبية دون أن يقدمون المقابل.
وتشترك هذه الأحزاب فيما بينها برفضها لسياسات الاندماج الأوروبية، وتعارض تشريع القوانين الديمقراطية الاجتماعية المدنية، وتدعوا إلى تخفيض الضرائب، والتشدد في العقوبات في مواجهة الجريمة، وهي لا تبدي اهتماماً بقضايا البيئة، ولديها موقف عدائي من الأقليات والأعراق الأخرى.
العوامل التي أدت إلى اتساع نفوذ اليمين المتطرف
شهدت الفترة التي تلت انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، فراغاً أيديولوجياً عبّد الطريق أمام انتعاش أحزاب اليمين الأوروبية التي دعت بقوة إلى الخصوصية القومية الأوروبية، ومثلت الخط الراديكالي للغضب الذي ساد وسط قطاعات واسعة من المواطنين الأوروبيين، من عجر حكوماتهم حل المشاكل الاقتصادية، ومعالجة الفساد والهجرة غير الشرعية، لذلك بدأ الناس يصوتون لهذه الأحزاب اليمينية خلال الانتخابات البلدية والبرلمانية، لأنها كانت ترفع شعارات تعكس سخط الناس.
ثم واجهت الحكومات الأوروبية الأزمة المالية العالمية في العام 2008 بعجز أدى إلى اتباع سياسات تقشف اقتصادية طالت جميع مرافق الحياة، وتراجعت الدول الأوروبية عن تمويل كثير من برامج الخدمات الاجتماعية، وتسريح عدد كبير من الموظفين العموميين، وتقليص النفقات في قطاعي التعليم والصحة. وبنتيجة الأزمة انخفضت مستويات النمو في هذه الدول إلى أدنى مستوياتها، وارتفعت نسبة البطالة ووصلت في بعض البلدان مستويات خطيرة مثل اسبانيا 24 في المئة وبطالة في اليونان بنسبة وصلت 26 في المئة، الأمر الذي نتج عنه التفريط بحقوق العمالة الوافدة إلى بلدان مثل اسبانيا وإيطاليا، وازدياد أعداد اللاجئين بصورة لم تعهدها القارة الأوروبية من قبل بسبب الأزمات المشتعلة في الجانب الأخر من المتوسط، ومناطق أخرى في العالم، تعمقت مشكلة البطالة، وارتفعت قيمة المصاريف العامة لدى هذه الحكومات بسبب تدفق اللاجئين، والنظر لهم باعتبارهم عمالة بديلة اقل تكلفة من العمال الأوروبيين، وهذا شكل حالة عامة من السخط والتذمر لدى قطاعات واسعة من الأوروبيين.
في ظني ان السبب الأهم في اتساع شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة الأوروبية يعود إلى استخدامها خطاباً تهويلياً يمس الجانب الأخطر في العقلية الأوروبية، وهو الجانب الثقافي الذي تحسن توظيفه لاستقطاب قطاعات واسعة ومتزايدة من الشارع الأوروبي، من خلال الترويج لمفاهيم “الخطر الإسلامي” و “أسلمة أوروبا” و “العرق الأبيض” و “أوروبا للأوروبيين” إلى الكثير من الشعارات التي تستخدمها هذه الأحزاب كفزاعة وخطر يهدد أوروبا وخصوصيتها العرقية والثقافية، التي يهدد وجودها المسلمين والفكر الإسلامي المعادي للمرأة، ويشكل حاضنة للفكر المتطرف الذي يجاهر بالعداء للثقافة الأوروبية العلمانية. هكذا ينتشر فيروس “الإسلاموفوبيا” من مدينة إلى أخرى وتنتقل العدوى من دولة إلى أخرى في الاتحاد الأوروبي.
.