فكرة ترحيل الفلسطينيين
إبراهيم بدوي
في تقرير لشبكة “بي بي سي” نقلاً عن وثائق سرية بريطانية ، تقول إن إسرائيل وضعت خطة سرية قبل 52 عاماً لترحيل الآلاف من فلسطينيي غزة إلى شمال سيناء، وأتى ذلك بعد احتلال الجيش الإسرائيلي غزة، إلى جانب الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان السورية في حرب يونيو (حزيران) 1967، حين أصبح القطاع مصدر إزعاج أمني لإسرائيل، وباتت مخيمات اللاجئين المكتظة بؤراً لمقاومة الاحتلال، فانطلقت منها عمليات ضد القوات المحتلة والمتعاونين معها، وفقاً للتقرير.
فكرة ترحيل الفلسطينيين منذ الآباء الأوائل للصهيونية
تقول دراسة صدرت عن “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” صيف عام 1991 بعنوان “التصور الصهيوني لـ’الترحيل‘: نظرة تاريخية عامة” للأكاديمي والمؤرخ الفلسطيني-البريطاني نور مصالحة، “يسود أوساط الليكود واليمين المتطرف ميل إلى المجاهرة بطلب ’ترحيل‘ العرب عن الأراضي المحتلة التي صممت هذه الأوساط على استيطانها وضمها إلى إسرائيل. ويذهب بعض ساسة الليكود، مثل النواب والوزراء مئير كوهين وميخائيل ديكل وأريئيل شارون إلى التأسف الشديد على ازدواجية حزب العمل وريائه، ويرثون لما ارتكب في حرب 1976 من خطأ عدم إجلاء الفلسطينيين عن الأراضي المحتلة على نحو ما طُرد سكان اللد والرملة على أيدي بن غوريون (دافيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل)، ويتسحاق رابين (سياسي إسرائيلي وجنرال عسكري سابق في الجيش الإسرائيلي ورئيس وزراء)، ويغآل آلون (لواء في جيش الدفاع الإسرائيلي ورئيس وزراء إسرائيل بالنيابة) في يونيو 1948. فبرأي هؤلاء الساسة أن حزب العمل لو كان تصرف على نحو يتسق وسياسة بن غوريون في 1948، لأمكن تحاشي ’المشكلة السكانية‘ المتمثلة في الوجود العربي”.
ووفقاً لتقرير “بي بي سي” الآنف الذكر، أنه بحسب تقديرات البريطانيين، عندما احتلت إسرائيل غزة، كان في القطاع 200 ألف لاجئ من مناطق فلسطين الأخرى، ترعاهم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” و150 ألفاً آخرين هم سكان القطاع الأصليون الفلسطينيون. ووفقاً للمؤرخ مصالحة، فإن المقترحات التي طرحت في شأن “الحل بالترحيل”، أطلقت سجالاً واسعاً في أوساط الرأي العام الإسرائيلي مع تنامي النضال الفلسطيني من أجل وضع حد للاحتلال وتحقيق الاستقلال الوطني القائم على حل الدولتين. وتشير الدراسة إلى أن فكرة “نقل” (ترانسفير) السكان الفلسطينيين، ووفقاً لرحبعام زئيفي، (جنرال الاحتياط الذي كان على رأس حزب يحتل مقعدين في الكنيست وقت نشر الدراسة)، تنص بصورة حصرية على خطة لـ”ترحيل” الفلسطينيين ترحيلاً جماعياً إلى خارج الأراضي المحتلة، وهذا المفهوم راسخ في الصهيونية إلى حد أن الأمل في تلاشيه ضئيل، فالفكرة متأصلة في النظرة الصهيونية إلى أن “أرض إسرائيل حق وراثي لليهود” وأنها ملك لليهود حصراً (لا للعرب الفلسطينيين)، وهي فكرة يتبناها معظم يهود إسرائيل وتقود طبعاً إلى الاستنتاج أن العرب “غرباء” وأن عليهم أن يقروا بيهودية أرض إسرائيل/ فلسطين وبالسيادة اليهودية الحصرية عليها، أو أن يرحلوا.
وتتابع الدراسة أن مطلب “الترحيل” هذا يرقى إلى بداية عهد المستوطنات الصهيونية في فلسطين ونشوء الصهيونية السياسية. فمنذ أيام تيودور هرتزل (الأب الروحي للدولة اليهودية)، ما زالت الهجرة اليهودية إلى فلسطين واستيطانها جارية، وتحويل أراضيها من أيدي العرب إلى أيدي اليهود حصراً وإعادة تشكيل البلد وتجريده من صفاته العربية، مع ما ترتب على ذلك من إقامة دولة صهيونية/ يهودية في نهاية المطاف، إضافة إلى أن هذه الأفكار والأعمال كلها متضافرة مع فكرة “الترحيل” في تفكير القيادة الصهيونية وممارستها.
إن فكرة إقامة أكثرية يهودية في إسرائيل (فلسطين والأراضي المجاورة لها) هي فكرة متحدة بفكرة إنشاء دولة يهودية متجانسة، وعملت القيادة الصهيونية على ترويج مذهبها في أن “الحقوق الوطنية في فلسطين تعود حصراً للشعب اليهودي ككل”، وبدأت تفكر في الحلول لما اعتبرته “المشكلة السكانية العربية”، من وجهة نظرها، فقد كان الإطار الفكري الذي يقوم عليه مبدأ نقل وترحيل السكان العرب الفلسطينيين المحليين مترابطاً ترابطاً وثيقاً بأيديولوجيا تعصب ثقافي تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع السكاني والعرقي الديني لفلسطين، أي لبلد يسكنه بصورة غالبة شعب آخر حتى عام 1948، وتحويله إلى دولة يهودية ذات ديانة واحدة.
وروّج يسرائيل زانغويل، الكاتب الأنغلو- يهودي البارز والمتحمس لفكرة الترحيل، للشعار القائل إن فلسطين “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وعن هذا كتب الرحالة اللورد ليندسي في كتابه المنشور بعنوان “رسائل عن مصر وإيدوم والأرض المقدسة” عام 1838، أن “عقم واضمحلال أرض فلسطين لم يكن بسبب لعنة أصابت الأرض، ولكن ببساطة بسبب ’عدم وجود سكانها القدامى‘”. وكان ليندسي يؤمن بأن “إرادة الله هي التي شاءت ألا يكون السكان الحاليون كثيري العدد على الإطلاق” حتى لا يعوقوا عودة “الورثة الشرعيين”.
وتأكيداً على أن بذور فكرة “الترحيل” نبتت منذ أوائل أيام الصهيونية، لا سيما في ما يتعلق بالدافع إلى الاستيلاء على أراضي العرب، يقول مؤسس الفكر السياسي الصهيوني هرتزل في معرض تأمله الانتقال من حال “جمعية اليهود”، وهو الاسم الذي كان يطلقه على التنظيم السياسي الذي كان يعتبره الممثل المستقبلي للحركة الصهيونية، إلى “حال الدولة”، في يومياته في الـ12 من يونيو 1895، “ينبغي لنا أن نترفق في استملاك الأملاك الخاصة في الأراضي المعينة لنا. سنسعى إلى تشجيع السكان المعدمين على عبور الحدود بأن نجد لهم أعمالاً في البلاد التي يمرون بها، مع الامتناع التام عن تشغيلهم في بلدنا… يجب أن تتم عمليتي الاستملاك وإبعاد الفقراء بأقصى درجات التأني والاحتراس”.
ووفقاً لبعض المراجع طرح هرتزل صفقة مالية على السلطان العثماني عبدالحميد، معلناً أن “فلسطين هي وطننا التاريخي الذي لا يمكننا نسيانه… لو يعطينا السلطان فلسطين، نأخذ على عاتقنا إدارة مالية تركيا كاملة مقابل ذلك”. ولم يكن اقتراح هرتزل يتيماً، بل شكل نموذجاً لمقترحات صهيونية مستقبلية، تقدم بها غيره من “الآباء البناة”. وكثيراً ما صيغت تلك الأفكار في تلك المرحلة بعبارات ملطفة مخففة مثل “هجرة العرب الجماعية إلى بلاد العرب”، أو الهجرة السلمية التي سيحفزها الاستملاك الصهيوني للأراضي، وغير ذلك من الحوافز الاقتصادية. لكن كانت ثمة دعوات صريحة أيضاً إلى طرد العرب الفلسطينيين أطلقتها مجموعة من كبار الصهيونيين أمثال زانغويل الذي كان من أوائل أعوان هرتزل وأشدهم غيرة على تنظيم الحركة الصهيونية في بريطانيا.
.