عندما يجري الفرات في برلين

 موسى الزعيم

عنوان الديوان الشعريّ الأول والذي صدر مؤخّراً للشاعر السوري إبراهيم العلي، تراوحت قصائد الديوان  بين الوجداني والسياسي، وقد تميزتْ بارتكازها على العاطفة الوجدانية الذاتية، فقد الشاعر غادر بلاده، حيث الفرات، نسغُ حياتهِ، ومستودعُ ذكريات طفولته، ليجد نفسه يجاورُ نهراً آخر في مغتربه.

يُحيل عنوان  الديوان إلى ثنائية مكانيّة ضدّية، ارتبطت بها أغلب القصائد

جاءت هذه الثنائية من خلال ترادف اللفظين الدلاليين “الفرات وبرلين” برلين بنهرها الكسول الثري شبريه، الذي يتلّوى بين أحيائها وقصورها، وقد جاء ذلك في لوحة غلاف الديوان.

ولأنّ المكان يُسهم في تشكيل الوجدان، إذا استشعر المرءُ معاني الألفة والاطمئنان، واشتد التصاقه به، فتتمظهر الأمكنة في القصائد على أنها روائز تدعم تثبيت الأحدوثة في النص.

ففي هذين  المكانين المتباعدين زمانيّا، يعلو صوت البوح الشفيف في  القصائد، يجري كما يجري الماء العذب، عبر اثنتين وثلاثين قصيدة عموديّة كلاسيكية.

بشكلٍ عام يحرّك النهر في الشاعر ذكريات حبّه وشوقه إلى طفولته الأولى على ضفتي الفرات في الجزيرة السورية، حيث نشأ وترعرع،  قبل أن تجبره الحرب على  الهجرة.

لذلك نرى أن بعض عناوين القصائد جاءت مُقترنة  بلفظِ الفرات  “بنتُ الفرات”  “ابنُ الفرات”  ذكريات يحكيها الفرات” ما يؤكد أن قضايا حقيقية بعينها تلحّ على ذاكرة الشاعر، تضفوا دائما على ساحة شعوره، فيعمل على التقاطها وتثبيتها.         

في مغتربه يتأملُ الشاعر حياته، يسترجعُ على ضفتي نهر “شبريه” في برلين، ما تركه على ضفتي الفرات الذي فارقه مهاجراً مكرها نحو ألمانيا.

في قصائد العلي لم يكن النهر مشهداً وصفيّاً صوريّا تتناولهُ القصيدة  وإنما هو عنصر فنّي مختزن في وجدانه يمكّنه من إنتاج دلالات إنسانية دائمة مختلفة، ترتبطُ  بطفولتهِ وحبّه وبأسرته وغير ذلك من التفاصيل الكثيرة، وأيضاً من خلال أنسنة النهر باعتباره أبّا جغرافيّا للسكان حافظاً غيبتهم.

جاءت جميع قصائد الديوان عمودية على الإيقاع الخليلي، تنوعت موضوعاتها بين الوجدانيّة، والسياسية، والاجتماعيّة، الوطنيّة، تلامس واقع الحياة في الغربة عبر ذات الشاعر، التي تتوضع بين فضاءين مكانيين وزمانيين الحاضر والماضي والفرات وبرلين.

فكلّ شيء يبدو مركبا من جزئين  ” هنا / هناك” وهي لا تخلو من لذّة جمالية.

تحلّق قصائد الشاعر في فضاء المدينة، تسبح في عوالمها، لعل ذات الشاعر تجد فيها ما يخفف من وطأة الحنين ونار  الشوق.

فيرى في صفحة النهر وجوه المارين عبر شريط  ذكرياته، كلّ الصور الجميلة الأليفة وثيقة  ببيت الطفولة ومكان اللعب، في المغترب تصير أحلام يقظةٍ  واستعادة المكان عبر التخييل هو استعادة الذات ومن خلال مزج الواقعي بالمتخيل، يحاول الشاعر خلق المكان من جديد عبر بناء لغوي جمالي.  

فيرى أن الفرات مصد العزّ والقوة بالنسيبة له يتمثلّه أينما حلّ، يستمدّ منه شيمَ القوّة والعطاء والصبر في قوله:

ابن الفرات فكيفَ لا اتجلّد          حتّى يُفارقني العجاج الأسود

تالله لا أنزاحُ عن طلب العُلا          حتّى ينام على يدي الفَرقد

يقود  الشاعر قارب ذكرياته، فيتمثل  له الفرات إنساناً يتوجّع، ما يؤلمهُ يقرّ في وجدان الشاعر، يحزنه، كيف لا  وقد انفرط العِقد وتفرّق الجمعُ بعيداً عن  ضفتي النهر.

أقولُ: لقد كنّا كعقدٍ بأرضنا         فدارتْ بنا الأيامُ وانفرطَ العِقد

أقولُ:  لقد شابَ الفراتُ فماؤه     شحيحُ فيا ليت الشباب له عَود

أقولُ: لقد شابَ الفراتُ فرملهُ       يكاد على شطّيه يُدركه العدّ

يفتح العلي بوابات الذات على عوالم شعريّة نابضة بالحياة من خلال لوحاتٍ قلقةٍ  نتلمسُ فيها فكره، فلسفته، رؤيته، نزوعه الإنساني، وإيمانه بعقيدتهِ وبتراث أمته، ونزوعهِ الروحي المستكين، وهذا ما تجلى في بعض القصائد التي كانت أقرب إلى المناجاة الروحية

إليكَ أتيت يا رحمن أســـعى              لمغفرة يردّ بـهــــا العذاب

فمالي غير عفوكَ يا إلهي         إذا ما حانَ  في الحشر  الحساب

في القصائد يصوّر الشاعر معاناته الشخصية بصورة فنيّة جميلة، نستشف منها صورا شعرية مستوحاة من مأساة الذات من أحلامه القَلقة في الغربة، فيحاول عبر هذه  النصوص أن يقدم غفرانا لذاته يغسل روحه المتعبة بالكلمات.

من جهة أخرى يحفل الديوان بكثير من قصائد الحبّ، فيبث شوقه وحبه عبر نصوص قصيرة تتجلّى فيها الدفقة الشعورية المكثّفة واللغة الشفيفة الصافية.

فعيون الحبيبة تشاغله في غربته، فيرى صورتها في غيمةٍ قادمةٍ من هناك، حيث الفرات  لعلّها تمطر، فتبردُ قلبه وتروي نسغ روحه.

ومشغولٌ بعينيكِ اللواتي   ملكنَ جوارحي وعكسنَ ذاتي

أرى فيهنّ غنيماتِ سمانا    حملنَ الماءَ من نهرِ الفرات

في الديوان  الكثير من القصائد التي تلامس وجدان الأمّة  وخاصة قضاياها الوطنية مثل ثورة الشعب السوري ضدّ طاغيته و أحداث فلسطين وغزّة،  كما في عدد من القصائد ” غزّي الهوى” من قصص غزة” طفل تحت الأنقاض”

أما برلين المدينة التي لا تنام فلها حصّة من الشعر اذا يحاورها لتفتح  له خزائن محبتها.. ليغدو خطاب الشاعر إنسانيا نابذا للعنصرية والتطرف.

بيني وبينك ما يكفي ليجمعنا              على الوداد وما يكفي ليعصف بي

برلين لا تتركي الجدران فاصلة        ما بيننا و أعيدي صولة الغضب

فالعنصرية ثوب شاه لابسهُ                كأنّه حِيك من قبحٍ ومن جرب

تنبئ قصائد ديوان “عندما يجري الفرات في برلين” بموهبة شعرية صاعدة، متمكنة من أدواتها الفنية، سيكون لها  اسهامها في إثراء  المشهد الشعري العربي في ألمانيا.

من جهةٍ أخرى تشكّل النصوص الشعريّة العربيّة المكتوبة في المُغترب رافداً شعريّاً له خصوصيته، بما يُضيفه إلى السياق الإبداع العربي، مما يُشكل ملامح  تيّار شعريّ جديد، هو شعر الوافدين، سوف تتوضح ملامحه مع اختمار التجربة وتراكمها النوعي في المستقبل.