عملية “غصن الزيتون” التركية
ميرفت عوف
فيما يستمر مدنيو «عفرين» بافتراش أرضها التي تغطي جبالها وسهولها حقول الزيتون هربًا من القصف التركي، تُحرك «اللعبة السياسية» مسارات المعركة العسكرية المعروفة تركيًا باسم «غصن الزيتون» نحو تطورات جديدة وخطيرة.
تركيا لن تنهى تلك المعركة خلال أسبوع كما تعهد رئيسها؛ فالنظام – عدوها وعدو الأكراد السوريين الذين خاضت المعركة ضدهم – دخل بقوة ليمد الأكراد بالعتاد والسلاح، فيما على الجهة الأخرى تتفاقم المعركة السياسية بين أنقرة وواشنطن الداعمة أيضًا للأكراد، فكيف تتطور تلك المعركة؟ وإلى أين سيصل الوضع العسكري والسياسي على الأرض السورية؟
«غصن الزيتون» مستمرة ببطء
مع منتصف فبراير (شباط) الحالي، ينتهي الأسبوع الرابع للعملية «غصن الزيتون» التي أعلنتها تركيا لمواجهة الأكراد السوريين في عفرين، تلك المدينة الكردية السورية الواقعة شمال غرب حلب، ومصرة على القضاء على نفوذ «وحدات حماية الشعب» هناك.
أطلقت هذه العملية في 20 من يناير (كانون الثاني) الماضي، بعد تهديدات تركية باستهداف السوريين الأكراد الذين لا ترى أنقرة فرقًا بينهم وبين الأكراد الانفصاليين في تركيا المصنفين بالنسبة لها كإرهابيين، وتسير هذه العملية التي تشارك بها فصائل تابعة للمعارضة السورية المسلحة الآن ببطء وحذر؛ نتيجة غياب الطائرات الحربية التركية عن المعركة، إذ توقفت عن تنفيذ غارات على مواقع الوحدات الكردية في عفرين منذ أيام، واقتصرت العمليات العسكرية الحالية على القصف بالمدفعية الثقيلة والدبابات وراجمات الصواريخ، فيما تمكن الأكراد من الرد بهجمات متفرقة نحو الجيش التركي، باستخدام مضادات الدروع.
وتعد واحدة من أخطر التطورات المتلاحقة، هي دعم النظام السوري للأكراد في عفرين، إذ عزز ذلك وصول تعزيزات ضخمة من القامشلي والرقة وعين العرب ومنبج، استخدمت في جبهات عفرين ضد الجيش الحر والجيش التركي، وقام النظام بتقديم مساعدة عسكرية ولوجستية عبر طرق تربط حلب وعفرين مرورا ببلدتي نبل والزهراء شمال حلب.
يقول المختص في الشأن التركي، عبود الحسو: «الظاهر أن تركيا ستذهب حتى النهاية في عملية عفرين والقضاء على الأكراد، والقضاء على أية إمكانية لإنشاء ممر، أو كيان ارهابي على حدودها الجنوبية، بل ستذهب أبعد من ذلك، وتحرر منبج، ولربما تلاحقهم إلى ما بعد نهر الفرات شرقًا»، ويضيف: «التقدم في عفرين بطيء، لكن بخُطا ثابتة، وتجنب قدر الإمكان من سقوط ضحايا مدنيين واتباع خطة للسيطرة على المواقع الاستراتيجية والجبلية الصعبة؛ ليسهل بعدها حصار المدن، والتقدم في المناطق السهلية فيما بعد».
دعم النظام للأكراد.. يغير معادلة القتال
«نحن والجيش السوري واحد، الشعب السوري كله واحد، وكلنا إرادة واحدة»، هذا ما قاله مقاتل في وحدات حماية الشعب، وهو يقصد وصف الحال في «معركة عفرين».
لم يعد الحديث عن دعم النظام السوري للأكراد في عفرين مجرد تسريبات إعلامية تُنفى تارة وتؤكد تارة أخرى؛ إذ لم تتردد الوحدات الكردية الثلاثاء الماضي عن نشر مقطع فيديو يظهر مرور قافلة حملت اسم «التضامن مع عفرين»، تضم نحو 500 مقاتل متطوع جاءوا من أماكن سيطرتها شرقي سوريا عبر مناطق النظام، كذلك لم يكن غريبًا أن تتجول كاميرا تلفزيون النظام السوري الرسمي في مدينة عفرين، للمرة الأولى منذ سنوات؛ ليقدم مراسلها تقريرًا مصورًا عن رفض أهالي المدينة لما أسماه «الاحتلال التركي»، مع تأكيدات أن الناس يمارسون حياتهم بشكل طبيعي.
وبالطبع، غيرت استجابة النظام السوري لطلب «الإدارة الذاتية» دعمها معادلة القتال في عفرين، حيث أصبح النظام مصدر العون للأكراد، وبرزت تفاهمات بين القوتين، تضمن تسهيل دخول المقاتلين والمدنيين عبر أراضي النظام، وإرسال تعزيزات إلى عفرين من مناطق أخرى يسيطر عليها الأكراد في عين العرب (كوباني) والجزيرة، بل تذهب عدة مصادر للتأكيد على أن النظام زود المقاتلين الأكراد بصواريخ مضادة للدروع، وغازات سامة، ردًا على تمركز الجيش التركي في منطقة العيس جنوب غربي حلب، إضافة إلى وجود تأكيدات تشير إلى أن المليشيات الإيرانية المتمركزة في نبل والزهراء تقاتل أيضًا إلى جانب المقاتلين الأكراد في عفرين.
وتحاول الإدارة الذاتية في عفرين، التوصل إلى اتفاق مع قوات النظام، يقضي بسيطرة النظام على الحدود مع تركيا، بهدف وقف عملية «غصن الزيتون»، لكن النظام يصر على دخول قواته إلى مدينة عفرين وهو ما ترفضه القوات الكردية، ويقضى دعم النظام للأكراد بتعطيل تقدم القوات التركية؛ مما يطيل أمد الصراع الذي يستنزف موارد القوى العسكرية التي تنازعه السيطرة على أرض سورية، ويضيف تعقيدات جديدة في الحرب السورية.
دعم واشنطن لأكراد عفرين يصعد التوتر مع أنقرة
لا يمكننا استبعاد قرار تغير الشارع الذي تتواجد فيه السفارة الأمريكية في تركيا عن محيط التوتر الشديد الذي تشهده الآن علاقات أنقرة بواشنطن، فهذا الأسبوع غيرت تركيا اسم الشارع إلى «غصن الزيتون»، بعد أن كان يطلق عليه اسم «نوزات تاندوغان»، تيمنًا باسم رابع رئيس بلدية لمدينة أنقرة.
تتجه العلاقات التركية الأمريكية نحو تصعيد غير مسبوق وتفاقم مستمر مع تطورات معركة عفرين؛ إذ تصر واشنطن على دعم الأكراد الذين تحاربهم تركيا في سوريا، فقد أعلن «البنتاغون» مؤخرًا عن تخصيص 300 مليون دولار من ميزانيته لعام 2019، لتدريب وتجهيز قوات سوريا الديموقراطية (قسد) التي تشكل وحدات حماية الشعب الكردية جزءًا كبيرًا منها، كما خصص 250 مليون دولار للقوة الأمنية الحدودية التي أسستها «قسد»، وكانت ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية العام 2018، قد رصدت مبلغ 500 مليون دولار لتدريب وتجهيز قوات سوريا الديمقراطية، كما خصصت مبلغ 850 مليون دولار لعمليات تدريب وتسليح قوات «البيشمركة» في إقليم شمال العراق.
وتصر أنقرة على عدم التراجع عن هدفها بتدمير «الاتحاد الديمقراطي»، حتى لو أدى ذلك إلى مواجهة غير مرغوبة مع واشنطن، إذ قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان: «سنقوم بشكل فوري بالقضاء على كل إرهابي نراه، وعندها سيفهمون (الجنود الأمريكيون) بأنه من الأفضل ألا يكونوا قرب الإرهابيين»، وتابع «أردوغان» القول: «أنا من هنا، أوجه كلامي للشعب الأمريكي، إن الأموال التي خرجت من الميزانية الأمريكية هي تلك الأموال التي تخرج من جيب الشعب الأمريكي… أن تخرج هذه الأموال من الميزانية القومية لهو أمر ذو معنى، لقد حان الوقت للحديث بشكل واضح».
وأصبحت أنقرة، الذين ضج مسؤولوها بالتصريحات الدبلوماسية الأمريكية كما يقولون، مدركة أن واشنطن لن تتخلى عن دعمها المالي للأكراد، وكذلك العسكري الذي يفوق الدعم المالي خطورة من وجهة النظر التركية، وقد أعلنت تركيا أكثر من مرة عن ضبط وتوقيف شاحنات أمريكية محملة بأسلحة متطورة، في طريقها إلى منطقة عفرين، وتحدث الأتراك عن أنواع هذه الأسلحة كصواريخ من طراز (تو) الأمريكية المضادة للدروع التي استخدمت في استهداف الدبابة التركية ومقتل خمسة جنود أتراك مؤخرًا، وذكرت صحيفة «يني شفق» التركية، أن «الأسلحة والمعدات العسكرية ترسل إلى عفرين وفقًا لاحتياجات تنظيم حزب العمال الكردستاني، و أن الإدارة الأمريكية هي التي أرسلت منظومة الدفاع الجوي المحمولة المستخدمة في إسقاط الطائرة الحربية الروسية في إدلب».
أين الحرب على داعش
على الوجهة الأخرى، يذهب الأمريكان في لومهم لتركيا، إلى القول بأن عملية عفرين التركية ضد القوات الكردية قد أدت إلى «حرف مسار» معركة التحالف الدولي ضد «تنظيم الدولة» في شرق سوريا، حيث قال وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون: «لقد حرفت مسار معركتنا ضد «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» في شرق سوريا، بعدما انتقلت قوات من هناك باتجاه عفرين في شمال سوريا»، وتابع القول في مؤتمر صحافي في الكويت: «نعتقد أنه من المهم أن تعي أنقرة آثار العملية العسكري على مهمتنا، وهي الانتصار على (داعش)»، وتشير صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية إلى أن واشنطن تخشى من انهيار الأكراد المدعومين منها، والذين لعبوا دورًا حاسمًا في المعارك ضد تنظيم «داعش»، فهم يعتقدون أن معركة عفرين تؤدي إلى تشتيت الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لإنهاء الجيوب المتبقية من مقاتلي التنظيم، وتنقل الصحيفة عن المحللة السياسية في «معهد دراسات الحرب»، جنيفر كافاريلا، قولها: إن «الأتراك يجرون قوات “قسد” إلى حرب إقليمية تمنعهم من القيام بفرض الاستقرار واستمرار التركيز على مواجهة عمليات (داعش)».
مصير معركة «عفرين»
«إلى أجل غير معلوم»، هذا ما خلصت إليه الترجيحات حول معركة عفرين المستمرة للشهر الثاني، دون تحقيق إنجاز مهم، فيما يظهر أن أردوغان كان مخطئًا عندما قال: إن «العمليّة لن تستغرق أكثر من أسبوع».
يقول الباحث في مركز الشرق للسياسات، جلال سلمي، أن الاتجاه التكتيكي للعملية يقوم على هدف السيطرة على بعض المناطق، من أجل إقامة منطقة آمنة، أو بالأحرى «منطقة عازلة» على الحدود التركية، تمكن تركيا من إرجاع بعض اللاجئين السوريين، وضمان وجود سيطرة جغرافية، المرشح أن تكون «غير مباشرة»، ويضيف: «قد يقتصر التكتيك العسكري للعملية على محاصرة محيط عفرين وتطبيق نموذج حلب، عندما تخلت في نهاية 2016 فصائل المعارضة عن المدينة بعد حصارها لفترة من الزمن، وقد تميل روسيا إلى هذا السيناريو، وتحاول إقناع وحدات الحماية الكردية به؛ لتجنيب المدينة السيطرة التركية الكاملة، والإبقاء على التنسيق مع وحدات الحماية؛ فهي لا زالت بحاجة إليهم؛ كي تتمكن من إنجاح عملية التسوية لصالحها».
وحسب «الباحث» فإن تواجد النظام في المنطقة يُفقد تركيا شرعية المسوغات القانونية التي ساقتها لتنفيذ العملية، فالنظام هو السلطة الشرعية في سوريا بحسبه، واشتباك تركيا معه يعتبر اعتداء سافر، على العكس من الاشتباك مع وحدات الحماية الكردية التي يمكن وصفها بالمليشيات الإرهابية غير الشرعية.
على الصعيد الداخلي التركي، تتمسك أنقرة بالنصر في عفرين حتى تتجنب حكومة حزب «العدالة والتنمية» الكثير من المصائر السياسية، والتي أهمها خطر خسارة الانتخابات البلدية والبرلمانية والرئاسية التي تنتظرها تركيا في العام المقبل، ولذلك قال الكاتب السوري «شورش درويش»: «تحيّن المعارضة البرلمانية المنظّمة، وجماعات المجتمع المدني المتضرّرة من سياسات العدالة والتنمية الفرصة اللازمة للبدء بحملة سياسيّة مضادة لتوجهات الحكومة والرئيس التركي، في ما خصّ خوض (مغامرة) الحرب، وتعريض حياة الجنود الأتراك للخطر، دون تحقيق إنجاز داخل الأراضي السوريّة».
ماذا بعد ؟
الأكراد في عفرين، فيظهر أنه لا خيار لهم إلا مقاومة التدخل التركي العسكريّ، كما يوضح «درويش» في مقاله: «لكن من سيُهزم في عفرين؟»
إذ كتب: «خسارة عفرين المهمّة لحزب الاتحاد الديمقراطي، تعني – في شكلٍ ما – خسارة المناطق الأخرى، وإن بطرقٍ وأوقات مختلفة. لذلك يمكن استشراف رغبة الوحدات الكردية في إبقاء الحرب مفتوحة وطويلة الأمد، لكي تفضي إلى استنزاف الجيش التركي، من خلال تكتيك حرب الأنصار (الغريلا) التي سبق وأن خاضها المقاتلون الأكراد في صفوف العمال الكردستاني (PKK) في فترات سابقة».
وفيما يتعلق بواشنطن، يتضح أن أنقرة مصرة على الضغط على الولايات المتحدة لوقف دعمها حزب الاتحاد الديمقراطي، وذلك باستنزاف الأكراد الموالين لها، ودفعهم للعودة إلى المحور القديم بالتعاون مع النظام السوري وإيران، وهو ما يعني إضعاف هذه القوات، واسقاط الحجة الأمريكية بأن هدفها من جراء الدعم هو التصدي للنفوذ الإيراني، وردًا على ذلك كُشف عن نية واشنطن تقديم عرض للإدارة التركية يتمثل في السماح لها بتأسيس منطقة آمنة غرب الفرات شريطة عدم دخول مركز مدينة عفرين، إلى جانب تعهد أمريكا بإخلاء عناصر وحدات حماية الشعب الكردي من عفرين، وتأسيس مجلس للمدينة مكون من سكانها المحليين، كما هو الوضع في منبج.