رجال المال الجدد .. أيلون ماسك مثالاً
محمد بدر الدين زايد
عبرت الخارجية الألمانية عن انتقادها لتصريحات إيلون ماسك، صاحب أكبر إمبراطورية مالية في العالم، التي انتقد فيها عمليات الإنقاذ التي تشارك فيها جماعات إنسانية ألمانية في البحر المتوسط لسفن المهاجرين غير الشرعيين، وتساءل فيها عما إذا كان الشعب الألماني على دراية بهذا؟
هذه التصريحات ليست الأولى له في هذه المسألة الشائكة، فالرجل سبق أن أبدى تحفظات على الهجرة غير الشرعية للولايات المتحدة، وتحدث عن إقامة جدار عازل، ولكنه يدعو في الوقت نفسه إلى فتح أبواب بلاده والمجتمعات الأوروبية أمام الكفاءات المهاجرة.
وقبلها في حدث هو الأخطر، اعترف ماسك بأنه أحبط هجوماً للطائرات المسيرة الأوكرانية ضد الأسطول الروسي في البحر الأسود عام 2022، عندما رفض السماح لها باستخدام الأقمار الاصطناعية التي تملكها شركته “ستارلينك”، وانتقدت الحكومة الأوكرانية ذلك متسائلة عن القوة العالمية التي يملكها الرجل.
وقد أثار هذا السجال بعض الاندهاش مع أن مسألة ظهور ماسك السياسي متوقع في ذاته وعادي، بصرف النظر عن دلالات السلبية والإيجابية.
المال والسياسة قصة قديمة
وعلى رغم أنه عندما تبلورت تقاليد الدول المؤسسية الديمقراطية حاولت وضع ضوابط بهذا الصدد، إلا أن العلاقة بين المال والسياسة علاقة ممتدة منذ نشأة المجتمعات البشرية، ورصد تأثير هذا المتغير في الحضارة العربية الإسلامية والمجتمعات الغربية بل والمجتمعات كافة يكشف هذا بوضوح، وفي العصر الحديث أصبحت الأمور أكثر وضوحاً ورأينا أن التدخلات الاستعمارية يحركها تجار ومغامرون ساعين وراء ثروات أجنبية أو لاستغلال شعوب أقل قوة بكل تنويعات هذه القوة.
وفي الحقيقة أنه مع تبلور المجتمعات الصناعية كان نفوذ رجال البنوك والأعمال والصناعة حاضراً بقوة في الحياة السياسية، ففي بريطانيا على سبيل المثال، لعب دوراً مهماً في بلورة التقاليد السياسية الغربية وكان وراء صعود الزعماء وهبوطهم في كثير من الأحوال منذ القرن الـ 19، وامتد نفوذهم في أحوال عدة إلى إدارة السياسة الخارجية، ولم يكن روتشيلد استثناء فقد كان هناك دوماً أمثاله كثيرون تفاوت نفوذهم من مرحلة لأخرى، وكان الأمر أيضاً شديد الوضوح في التاريخ الأميركي منذ بدايات تأسيس الدولة.
ومع نهايات القرن الـ 19 بدأت قوة اقتصادية هائلة في الظهور، وهي شركات النفط التي اكتسبت نفوذاً هائلاً في الولايات المتحدة وكثير من الدول الغربية، وامتد نفوذها إلى صياغة السياسات الخارجية لبلادها والتأثير فيها بقوة، وكان هذا معروفاً طوال الوقت.
ولو توقفنا قليلاً عند الولايات المتحدة حيث ماسك وأمثاله اليوم، فإنه من المعلوم أن إحدى القوى الرئيسة في هذا المجتمع هي جماعات الضغط، وأنه حتى جماعات الضغط العرقية أو الدينية شديدة التأثير مثل اليهود، يستندون إلى قوة اقتصادية هائلة جعلتهم لا يسيطرون فقط على جانب كبير من حملات الانتخابات الأميركية، بل أيضاً يسيطرون منذ عقود على كثير من وسائل الإعلام المختلفة، وهذه السيطرة تمدهم بنفوذ إضافي في الحياة السياسية.
وفى الولايات المتحدة اعتبرت معظم الدراسات العلمية أن أقوى جماعة ضغط في الحياة السياسية منذ أكثر من قرن هي شركات الإنتاج العسكري، بل تبدو أصابعها واضحة وجلية في كثير من تطورات وتفاعلات الحياة السياسية الأميركية وفي إدارة السياسة الخارجية، بما في ذلك قرارات الحرب.
الشركات متعددة الجنسيات
منذ عقود تنبه العالم إلى كيان هائل جديد وهي الشركات متعددة الجنسيات في مجالات عدة، وليس النفط والغاز إلا واحداً منها، فهناك شركات تعدين وملاحة وتأمين وصناعات سلاح وغيرها متعددة الجنسيات، وفي البداية كان الاستغراب من نفوذ هذه الكيانات ثم التعايش معها، كما حظي دور هذه الشركات بدراسات وكتابات علمية وأيضاً صحافية رزينة.
لماذا مخاوف اليوم أكبر؟
وعلى رغم أن الظاهرة ليست جديدة إلا أن هناك دواع إلى القلق لا يمكن تجاهلها في شأن التطبيق الجديد للقوة المالية، فالأكثر ثراء اليوم ليسوا رجال الصناعة التقليدية بل مجموعة من العباقرة الذين تفوقوا في التقنيات الحديثة ونظم المعلومات، وبخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي والمعلومات، فهم من أسس محرك البحث “غوغل” و”إكس” و”فيسبوك”، ودخل بعضهم في صناعات الفضاء مثل ماسك أو في التسوق الإلكتروني، وأصبحت ثرواتهم مجتمعة ربما تزيد على ثروات دول تعد متوسطة الثراء أو حتى غنية بالمعايير المتفق عليها دولياً، ولأنهم حققوا ثروات هائلة فقد بدأنا نرى إسهامات ضخمة في مجالات الرعاية وحماية المناخ وغيرها، بل إن ثروة بعضهم قد سببت ازعاجاً واندهاشاً لهم أنفسهم، وهذا ليس التحدي الوحيد.
ونعود قليلاً لنرى أن مصدر نفوذ هؤلاء يرجع لأن معظمهم يمتلك وسائل التواصل الاجتماعي التي تسيطر على مليارات البشر عبر الحدود الدولية، ولعلي أذكر هنا بأنني طرحت عندما حجب “تويتر” وقتها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب وقبل شراء ماسك لها وإعادته، أشرت آنذاك إلى أن القضية ليست أن ترمب يستحق هذا أو لا يستحقه، فهو بالفعل يستحق أن يتم حجبه، ولكن السؤال الحقيقي هو من يملك هذا؟ وما هي المعايير التي يجب تطبيقها في هذا الصدد؟ وقلت إن هذا المرفق الخطر، أي التواصل الاجتماعي، قد تجاوز كل وسائل الإعلام والتواصل التي عرفتها البشرية تاريخياً، وإننا أصبحنا خلال عقود قليلة أمام نفوذ هائل قادر على تحدي الدول والمؤسسات، وإن الأمر يحتاج إلى تنظيم دولي وقواعد مؤسسية حتى لو كان هذا يبدو خيالياً الآن، إلا أنه من الخطورة بمكان ألا يتم التعامل معه.
ويضاف إلى قوة وسائل التواصل الاجتماعي مسألة الذكاء الاصطناعي وصناعات الفضاء، واليوم يأتينا إيلون ماسك من كل هذه الخلفية التي أضاف إليها شراءه موقع “تويتر” قبل تغيير اسمه إلى “إكس” منذ عام ليصبح التحدي مزدوجاً، فهناك قلق مشروع من نتائج تطبيق هذه التكنولوجيا الفائقة في مجالات الذكاء الاصطناعي، ولا يقتصر هذا القلق على المنابر الفكرية بل امتد حتى الدراما السينمائية الأميركية، فالمخاوف لا تتعلق فقط بهؤلاء الرجال والشباب العباقرة الذين يمارسون هذه الابتكارات وإدارتها، بل لأنها أيضاً يمكن أن تقع في أيد غير مسؤولة.
ومعنى ما سبق أن قوة رجال الأموال الجدد هؤلاء هي من الأساس هائلة ولا تقارن حتى بقوة الإمبراطوريات المالية السابقة، فالأخيرة كانت تمارس نفوذها عبر السيطرة على مراكز صنع القرار والإعلام، أما قوة هؤلاء القادمين الجدد فهي من سيطرتهم مباشرة على العقول والشبكات، إذ يملكون التلاعب بالعقول لو أرادوا ذلك، ثم إن ثروتهم قد تراكمت على نحو هائل غير مسبوق تبدو فيه ثروات مليارديرات البترول السابقين وكأنها لا شيء بالنسبة إلى هؤلاء الأباطرة الجدد.
وإذا كان التاريخ يحدثنا عن أنه من المؤكد أن العلاقة لم تنقطع بين المال والسياسة، وأن كلاهما يبحث عن الآخر دوماً، وأن توقع أن يحدث هذا اليوم ليس غريباً، إلا أن ما هو قادم أخطر ويحتاج إلى مراعاة واعتبارات دقيقة.
.