خريطة بيري رئيس، المعرفةُ المنسيّة للعرب واكتشافِ أميركا
Die Karte des PIRI RE’IS
موسى الزعيم
صدر هذا الكتاب باللغة الألمانية عام 2017 و قام بترجمتهِ إلى العربيّة محمد سامي الحبّال، صدرت نسخته العربية عام 2021.
أغلبُ من قرأ هذا الكتاب قال عنه ” يجب أن يضطلع عليه أطفالنا، وأن يقرءه شبابنا، لعل معارف العرب لا يهملها التاريخ مرّة أخرى” ليس من باب التغنّي بالماضي وإنّما لمعرفة البيئة الخلاّقة التي وفرّت مجالاً للإبداع العلمي.
يطرحُ الكتاب الكثير من التساؤلات ويجيب عنها في ضوء الوثائق التي وصلتْ إليها الباحثة، وإن كانت هذه الإجابات ستلقى الإهمال والنكران من الجانب الغربي، الذي اعتاد أن يسفّه كلّ معرفةٍ لم تخرج من أرضه.
قليلون هم الذين تبنّوا وجهةَ نظرِ الكتاب، بعضهم رفض الفكرة من أساسها
” هل اكتشف العرب أمريكا “؟! للوهلة الأولى، كانت هذه العبارة، ثقيلةً على أسماع الكثيرين في محاضرة سوزانة بيليغ وهي تعرّف بكتابها قبل أشهر، على منبرِ البيت الثقافي في برلين.
ينطلقُ الكتاب من ضرورة أن يُعطَى العربُ في فترة العصور الوسطى ومطلع العصر الحديث؛ مكانتهم التي يستحقونها في تاريخ علومِ العالم، وخاصّة فيما يتعلّق بعلمِ الفلك والخرائط والجغرافيا..
تقول المؤلفة ” اكتشفَ كولومبوس أميركا، وهذا أمرٌ مفروغ منه عند الغرب، بينما يثبت التاريخ أن ثمّة بحّارة أبحروا من الشرق حتى العالم الجديد قبل كولومبوس بقرون، مثل الفايكينغ والفينيقيين وغيرهم هؤلاء وصلوا إلى السواحل الأمريكية عن طريق الصّدفة.
لكن مَنْ تعمّد عبور المحيط الأطلسي، كان مجهزاً بشكلٍ جيد، بسفنٍ ملائمة وتقنيّة ملاحة فائقةٍ ومعرفة مفادها؛ أنّ الأرض كرويّة.. كلّ ذلك كان ينطبق على الثقافة العربية في أوج تألّقها العلمي والتقني”
من هنا يطرح الكتاب سؤالين أساسيين؛ ثم يجيب عليهما من خلال محاكمة منطقية في ضوء الوثائق التي عثرت عليها الباحثة.
“هل شهدَ التاريخ فترةً، كانت معرفة وقدرة الجغرافيين والبحارة العرب كافيتين لعبور المحيط الأطلسي والتوجه إلى سواحل أمريكا الشماليّة ؟! ما مدى احتماليّة قيامهم بذلك؟
من أين جاءت فكرة الكتاب ؟
تقولُ الباحثة إنّ فكرة الكتاب جاءت عندما طلبتْ منها دار النشر((C.H.Beck اختزالَ مُقتطفات من أبحاث “فؤاد سيزكين” المُوسّعة وحصرها في كتاب، يَسهل الاطلاع عليه. لكن خلال زيارتها لمتحف ومعهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في فرنكفورت، “فُتنت بالمعروضات التي أظهرت كيف تطورت المعرفة التقنية والنظرية عند العرب على مدى قرون، قبل أن تفكّر أوروبا في الاكتشاف العلمي للسماء والأرض والموسيقى والطبّ”
فؤاد سزكين: باحث تركي كرّس حياته للتعريف بفضل العلماء العرب والمسلمين على الحضارة الغربية الحديثة، أسس معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بجامعة فرانكفورت. ولد 1924 بمدينة بدليس التركية وتوفي 2018.
كان الدافع لإنجاز هذا الكتاب هو تزايدُ الأجواء المُعاديّة للإسلام في ألمانيا، إذ ترى فيه تصحيحاً مهمّاً للنقاشات السياسية والاجتماعية في الوقت الحالي.
تستخدم الباحثة منطقة الثقافة العربية الإسلامية في إشارة منها إلى مجموعات عرقيّة مختلفة تلاقَحت وتفاهمت واستخدمت العربية الفصحى، كلغة تواصل ثقافيّ ومعرفيّ.
ولادة العلوم العربية:
ترى الباحثة أنه في أغلب الأحيان يُتهم الدين الاسلامي -خاصّه التيار المتديّن- بأنّه يعيق التفكير العلمي.
من حيث المبدأ؛ هذا الادعاء لا ينطبقُ إطلاقاً على 600 عام الأولى من ظهور الإسلام وهي الفترة التي شهدت فيها العلوم العربية نموّاً وإبداعاً منقطعَ النظير، على العكس لم يُعق الاسلام المُبكّر ارتقاء العلوم وإنما حضّ عليها. لذلك اتسمت المؤسسات الدينية بالتسامح الثقافي والعلمي.
هنا تتحدث الباحثة عن نشأةِ علاقهٍ فريدةٍ ومثمرةٍ بين المعلم والتلميذ في المجتمع الإسلامي، إذ لم تكن تلك العلاقة موجوده بهذا الشكل في الغرب، سواءً في العصور الوسطى أو بعدها، إذ لم يتعلّم التلاميذ من الكتب فحسب! بل تحت إشرافٍ مباشرٍ من معلمهم، نتج عن هذه العلاقة الوثيقة المحترمة، نهج تعلّم سريع ومستفيض، حال دون السرقات الفكريّة، وشكّل أحد الأسس المُهمة للعلماء المسلمين لعدّة قرون، شجّع ذلك على ظهور المبادئ التالية وهي:
“القناعة بأنّ البحث العلمي يخضعُ لقانون التقدم والتطور، العُرف السائد بعدم إخفاء المصادر والاقتباس منها بدقّة بالغة، أخلاقيّات النقدِ المُتبادل المُنصف، التجربة؛ كوسيلةٍ مساعدةٍ منهجيةٍ لاكتساب المعرفة و تحقيق التوازن بين النظرية والتطبيق” انتقلت هذه الاخلاقيّات العلميّة إلى الأجيال القادمة عبر الجامعات الإسلامية.
كما شهد زمن الخليفة المأمون، حركة ترجمةٍ وتشجيع مُطلقٍ للعلوم، وبرزَ الاهتمام بعلم الجغرافيا والخرائط، حيثُ “أنجزَ فؤاد سيزكين نسخة عن خريطة العالم التي يُعتقد أنّها اختفت منذ زمنٍ.
وهو اكتشافٌ في غاية الأهميّة في تاريخ الجغرافيا العربية” من خلالها ظهر أنّ علماء المأمون أعطوا فهماً جديداً لتوزيع تضاريس الأرض.
حقيقةً إنّ الثقافة العربية الإسلامية منذ القرن السابع، لم تكتفِ فقط باكتسابِ معارف ومناهج ونظريات الثقافات الأخرى، بل طوّرتها بشكلٍ كبيرٍ، نتيجة دعم الدولة للعلم و للتسامح الديني.
كان من سمات العصر العباسي الأوّل، التعرف على الثقافات والديانات الغربية و( الآخر) دون غموض أو أحكامٍ مُسبقةٍ، ساد هذا السلوك، معظم كتب الأسفار العربية خاصّة عند المسعودي والبيروني.
كما شهد القرن الثاني عشر تطوّراً ملحوظاً في علم المَعاجم، خاصة معجم ياقوت الحموي، من حيث الجودة والشمولية، مقارنة بأوّل معجم جغرافي ظهر في أوروبا. وهو المعجم اللاتيني “سينونيميا جرافيك” عام 1578.
النقطة العمياء:
ترى المؤلفة أنّ ما أنجزه العرب، أكثر بكثيرٍ مما يُقرّ به الغرب، خاصّة فيما يتعلّق بتأثير العلوم العربية والإسلامية في أوروبا الغربية.
فقد اطلع الغربيون على تلك الأعمال وفحصوا المخطوطات التي وصلت إليهم، لكنهم أهملوا موضوعاً واحداً في غاية الأهميّة وهو “التأثير الهائل للعلوم العربية والإسلامية في الغرب” هذه النقطة العمياء من الأبحاث، دفعت فؤاد سزكين للتحقيق في الطرق المختلفة والعميقة التي تأثر بها الغرب، بإنجازات المنطقة الثقافة العربية العلمية في أواخر العصور الوسطى والعصر الحديث وهو تأثير لا يزال مستمراً حتى اليوم.
ترى الكاتبة أنّ الاعتقاد السائد منذُ ثلاثة عقود حتى اليوم أنّ إنجازات الإغريق شكّلت بداية العلوم الدقيقة، قافزين فوق إنجازات السومريين والبابليين والحثيين والكنعانيين والفراعنة، رغم إشارة مؤرخ العلوم النمساوي الأمريكي “أوتو نويغيياور” أن ترتيب الإغريق ينبغي أن يأتي في منتصف تاريخ العلوم وليس في مُستهلّه.
وعليه فالسنوات ال 2500 التي أعقبت ذروة الثقافة العلمية الإغريقية يجبُ أن تسبقها 2500 سنة أخرى من أجل إنصاف جميع الثقافات التي أنجزَ الإغريق ثقافتهم عليها.
في القرن العاشر بدأ الغرب بترجمة علم الفلك العربي الاسلامي في عمليه استغرقتْ قرابة 500 عام يوضح الكتاب أنّ الكثير من النصوص العربيّة، نُسبت إلى أسماء مُستعارة طوال العصور الوسطى، بل تُنسب زوراً إلى مؤلفين إغريق، مما أدّى بشكلٍ متزايد إلى تشويه تأثير العالم الاسلامي على علم الفلك في الغرب. بل رفض الاعتراف بالمساهمة الكبيرة للعرب، و تعمدَ اخفاءها.
كما سادت في أوروبا النظرة الساذجة وغير الموثقة تاريخياً، بأنّ البرتغاليين انتجوا خرائطهم واكتسبوا مهاراتهم في الملاحة البحرية من العَدم، مُنكرين بذلك الاستمرارية بين الثقافة العربية الإسلامية في العصور الوسطى والغرب في العصر الحديث.
ازدراءٌ ونكران
على سبيل المثال: فإن سالمون شفايغر الرحالة المستشرق،يتحدث في كتاب رحلاته، عن تقي الدين، مُؤسس مرصد اسطنبول الفلكي، بتحامل لا يخفى على أحد، يصفهُ ” بالمخادع والقاتل السقيم، ويروي زوراً؛ أن تقي الدين زار أوروبا وحصل سرّاً على شرح لكتابات بطليموس وغيره من مشاهير الإغريق.
من هنا يمكن أن نستنتج تفسيراً لسبب عدم إدراج المساهمة العظيمة لعلماء الرياضيات والفلك والتقنية العرب في الوعي الغربي، كذلك تجاهل حقّ التأليف والأصالة للعلماء العرب، فبدءاً من منتصف القرن الثالث عشر، انتشرت في الغرب معاداة للعرب، لهذا السبب نُشرت العديد من النصوص العربية بأسماء مزيّفة طوال العصور الوسطى.
هذه الضغينة بدأت تزداد في النصف الثاني من القرن السادس عشر، و ازداد معه شعور الاستعلاء بتفوق العلوم الأوروبية.
بالإضافة إلى المزاج العدائيّ لدى مؤرخي القرن الثامن عشر، عندما طوروا نهجاً تاريخيا شاملاً توّج بفكرة مُصطلح عصر النهضة، حيثُ رأوا فيه استمراراً للفكر الاغريقي القديم، وما بينهما اخترعوا له مصطلح “العصور المظلمة” .
هل دلّ العرب على الطريق الى أمريكا؟
إنّ البحث المتواصل لفؤاد سزكين يوصله إلى قناعة تامّة بأنّ البحارة العرب وصلوا إلى البرّ الأمريكي في القرن الخامس عشر، قبل أن تطأ أقدام كولومبوس اليابسة الأمريكية، وهم أوّل من رسم خريطة لمعالم السواحل الأمريكية، كل ذلك جاء من خلال براهين تعرضها الباحثة تباعاً في كتابها.
فبدءاً من عام 1750 أصبح من الممكن في الغرب تحديد خطوط الطول والعرض، استناداً إلى مواقع الشمس، لكنّ البحارة الأوربيين في تلك الفترة لم يكونوا قادرين على انجاز خرائطهم بدقّة.
كان الملاحون الأوائل والبحارة العرب قادرين على تحديد مواقع النجوم وعلى رصد ثلاث ظواهر بدقّة وهي:
“السماء المضيئة بالنجوم، والأفق، ومسار الشمس” وبمساعدة حساب المثلثات ربطوا الزوايا ببعضها البعض من تلك النتائج استخلصوا موقعهم وعن طريق تطور علوم الرياضيات في الثقافة العربية تمكنوا من تطوير المسح الجغرافي من ناحية علمية وتقنية.
تتحدث الباحثة عن اسهامات عددٍ كبيرٍ من العلماء والجغرافيين العرب في نقل المعرفة إلى الغرب ودورهم في قياس محور الأرض، ورسم الخرائط واختراع الإسطرلاب والقُباب والمراصد الفلكية وغير ذلك الكثير من الأبحاث.
كما يبرز دورهم أيضاً في البحث في بنية الكون، فبدءاً من القرن السابع سمع العرب بفكرة كرويّة الأرض وقبلوها، وفي 154 هجريّة، ترجم يعقوب بن طارق ومحمد الفزاري كتاب السندهند من السنسكريتية إلى العربية وقد ترك يعقوب، أقدم توصيف شامل لبنية الأرض.
كذلك كوبرنيكوس الذي تقوم معارفه العلمية على أكتاف العرب والمسلمين وهو الذي قلب المفاهيم المتعلقة بصورة العالم المرتكزة على مركزيه الأرض.
بالتأكيد استخدم نيكوس بياناته وجداوله من مصادر عربية، كانت متاحة في ترجمات ومصنفات لاتينيه، ولابد أنه عرف أيضا انجازات علماء الفلك المسلمين في القرن الثالث والرابع عشر، رغم أن تاريخ العلوم لم يذكر ترجماتهم إلى اللاتينية.
طرح العلماء العرب الفكرة الأساسية المبنية على ضرورة سعي علم الفلك لاستعادة مبدأ حركيه الكوكب المنتظمة الذي أضرّ به بطليموس، إذ قادت تلك الفكرة نيكوس إلى الخطوة الحاسمة في التحول نحو صورة عالم مركزه الشمس، وبالتأكيد فإن محاولات الحلول ونماذج العرب قد وصلت إليه، ما يدعم ذلك هو وجه الشبه بين الحسابات الرياضية له وحسابات العرب الذين سبقوه.
أما في الحديث عن البوصلة، فإنّ تاريخ العلوم عن الغرب لم يمنح العرب سوى دور الوسيط في ذلك على أنّها اختُرعت في الصين، متجاهلا ً جهدهم في مراحل تطوير البوصلة ومغفلاً أيضاً أيّة إشارة إلى أنّ الغرب أخذ البوصلة عن العرب.
الجغرافيا البشرية:
في القرن التاسع ظهر جنسٌ جديد هو الأدب الجغرافي العربي الإسلامي، تكرّس من أجل دراسة الجغرافيا البشرية وتفرعاتها، روى المؤلفون العرب قصصاً عن بلاد ما وراء النهر واسيا وبلاد فارس والقوقاز وغيرها الكثير وفي كتبهم إشارات إلى يابسة لم يتم اكتشافها بعدُ.
وهنا يبرز دور المسعودي الذي كانت له أفكاره الخاصة عن العلاقة بين المناخ والثقافة، فقد كان على قناعه أنّه: كلما عاش الناس في أقصى الشمال، كانت طباعهم أكثر فتوراً، وتفتقر معتقداتهم الدينية إلى أساسٍ، لأنّه ينقصهم الدفء.
في الختام تتساءل بيليغ: من المؤكّد أنّ الغرب قد أصبح الخليفة الثقافي لمنطقة الثقافة العربية ” فلماذا لا تذكر الكتبُ المدرسيّة الأوربية والعربية أنّ الملاحة البرتغالية والاسبانية كانت قائمة على معارف العرب؟
الكتاب جدير بالقراءة والاحتفاء، لأنه يعيد الثقة إلى الذات العربية القلقة والمشككة بالتاريخ أحياناً.
وباعتقادي أن معاهد التراث والعلوم العربية جدير بها أن تبحث في الإطار النظري الذي يطرحه هذا الكتاب، لعل شمس العرب لا تخبو في سماء الغرب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*سوزانة بيليغ: صحافية ألمانية متخصصة في المجال العلمي مؤلفة وكاتبة سيناريوهات.
.