حروب “الدولار” حول العالم
عادل فهمي
استخدم بعض الرؤساء الأميركيين القوة العسكرية لفرض إرادة الولايات المتحدة على الدول الأخرى. لكنَّ أغلبهم يفضلون استخدام الدبلوماسية والمفاوضات التقليدية، أو مطالبة حلفائهم بمساعدتهم لتحقيق مساعيهم. لكنَّ الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب يسلك نهجاً مختلفاً. فمنذ توليه الحكم، يلجأ إلى استخدام العقوبات الأميركية الاقتصادية الوحشية والرسوم التجارية بصفةٍ متكررة، ليطلقها كالصواريخ على الدول والأشخاص الذين لا يتفق معهم. وترامب لم يبتكرهذه الممارسات، لكنَّها أصبحت خياراً أساسياً في سياسته الخارجية.
وحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، فإن الكاتب الأميركي توم وولف كان سيضحك إذا شاهد ما يحدث حالياً. يتصرف ترامب وكأنَّه السيد الجديد للكون، الحاكم المطلق للأسواق العالمية، الذي يصدر قراراتٍ تحابي البعض تجارياً وتعاقب البعض الآخر من أجل مكاسب سياسية. لكنَّ نفوذه يتراجع على مستوى العالم. وبالنسبة للولايات المتحدة، ربما تُثبت حروب ترامب المالية أنَّها مكلفة للغاية بالفعل.
رقم قياسي لعدد العقوبات الأميركية على الأشخاص والكيانات الأجنبية
فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوباتٍ على 944 كياناً أجنبياً وأفراداً خلال 2017، وهو رقمٌ قياسي. ويتوقع أن يتجاوز عدد العقوبات المفروضة خلال العالم الجاري حاجز الألف عقوبة. وتدرج الولايات المتحدة حالياً في قائمتها 28 «برنامج عقوبات نشط» امتداداً من روسيا البيضاء وبوروندي إلى فنزويلا وزيمبابوي. وفي فبراير/شباط وحده، استهدفت العقوبات الأشخاص والشركات في لبنان وليبيا وباكستان والصومال والفلبين.
ويوضح تقرير الصحيفة البريطانية أن هذه العقوبات تُولد مزيداً من العقوبات. ففي خلال أسبوع فقط، صدرت عقوبات ضد شركات صينية وروسية بعد اتهامها بخرق حظرٍ سابق مفروض على التجارة مع كوريا الشمالية.
أصبحت ما يمكن وصفها بـ “حروب المال” التي يشنها ترامب ممتدةً حالياً عبر مساحاتٍ شاسعة من الكرة الأرضية، بدء من كندا وأوروبا ووصولاً إلى روسيا والصين. ونظراً إلى التوجهات الحالية، ستكون أي دولة لم تتعرض للهجوم الاقتصادي الذي تشنه الولايات المتحدة استثناءً للقاعدة قريباً.
وتعد تركيا آخر الدول التي استهدفها ترامب، إذ تراجعت عملتها في أعقاب فرض الولايات المتحدة لعقوباتٍ ورسومٍ جمركية مفاجئة. وجاء قرار ترامب، الذي وصفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بـ “طعنةٍ في الظهر”، في أعقاب إصدار حزمة جديدة من العقوبات ضد روسيا على خلفية قضية قتل الجاسوس الروسي سيرغي سكريبال بغاز الأعصاب في مدينة سالزبوري البريطانية.
ويعد وضع روسيا غريباً في ما يتعلق بتلك المسألة. إذ عُوقبت في البداية بعد أن ضمت شبه جزيرة القرم في 2014. ووفقاً لمعظم التقديرات، تمثل روسيا التحدي الدولي الأكبر لمصالح وقيم الولايات المتحدة. لكن يبدو أنَّ ترامب يعارض العقوبات التي أعلنت عنها وزارة الخارجية الأميركية في قضية سكريبال. ورغم هذا، من المقرر تطبيق هذه العقوبات في هذا الخريف.
وكانت إيران هدفاً حديثاً لحروب المال التي يشنها ترامب. فبعد أن تنصل من الاتفاق متعدد الأطراف الذي يقلص أنشطة إيران النووية، هاجم ترامب مصالح طهران التجارية والمالية. وتلا هذا النظام المصرفي الإيراني، فضلاً عن فرض حصارٍ على صادرات البلاد النفطية.
وعند فرض أي عقوباتٍ على دول أجنبية، يتصرف ترامب دون أي إخطارٍ مسبق أو أي محاولة لإجراء محادثاتٍ جادة. لقد أصبحت طريقة عمله معروفة: صياح وتهديد، ثم عقاب. وبعدها يأتي عرضٌ متسامح للحديث بشكلٍ منفرد مع الخصم مثلما حدث مع كوريا الشمالية والاتحاد الأوروبي.
استخدام المال كسلاحٍ يعد أمراً منطقياً للغاية بالنسبة لترامب. فبحسب خبرته كمطورٍ عقاري ورجل أعمال، يجعل المال العالم يتحرك ويدور. بالنسبة له، يُعد العالم مجرد سوق واحد كبير، حيث المال هو صاحب السلطة. لذا، يهدف ترامب إلى عقد صفقةٍ وليس التسبب في خلاف.
ويعكس منهج «الدولار والسنت» الذي يتبعه الرئيس الأميركي مبادئ الولايات المتحدة التي ربَّته، إذ لا يعلو المال أهميةً سوى الإله في بلدٍ سُمي سابقاً «ببلد المحتالين». وصرّح كالفن كوليدج، الرئيس الأميركي الأسبق، بمقولةٍ شهيرة في عام 1925، تفيد بأنَّ «العمل الرئيسي للشعب الأميركي هو التجارة».
“الأفعى الحاكمة»
وفي مقالةٍ له في مجلة The American Conservative، ذكر الكاتب ديفيد ماسيوترا تشبيه الشاعر والت ويتمان للهوس الأميركي بالغزو التجاري والربح المالي بـ “أفعى الساحر التي التهمت كل الأفاعي الأخرى”. وفي هذا التشبيه، يكون ترامب هو الأفعى الحاكمة.
وبالنظر إلى هذا السياق، يمكن فهم الغرض المعلن من عقوبات ترامب وحرب الرسوم الجمركية بسهولة، وهو حماية الشركات الأميركية من المنافسة «غير العادلة». فهو يفسر سبب الإجراءات التي اتُخِذَت ضد الاتحاد الأوروبي والمكسيك وكندا.
ومما يعد تناقضاً أنَّ العولمة، التي يعارضها ترامب، هي ما منح الولايات المتحدة هذا النفوذ المالي الهائل.
وتلقت الصين الضربة الاقتصادية الأقوى بين الدول التي يستهدفها ترامب. ففي شهر يوليو/تموز، فرضت واشنطن رسوماً جمركية بنحو 25% على الواردات الصينية. وستُفرض رسوماً أخرى بقيمة 16 مليار دولار خلال أسابيع إذا لم تحرز المباحثات المقررة أي تقدم. ومنذ 50 عاماً فقط، لم تكن لدى الولايات المتحدة مثل هذه القوة التجارية.
لحروب ترامب المالية أهدافٌ استراتيجية وسياسية أيضاً، إذ يكمن الهدف الرئيسي في تعزيز سيطرة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي. ويعد تهديد الرئيس الأميركي بمعاقبة الشركات الأوروبية التي تمارس أنشطةً تجارية مع إيران مثالاً على منهج الإدارة الأميركية الرامي إلى توسيع نطاق نفوذها التجاري.
ويساعد في تنفيذ خططه الرامية إلى ممارسة ضغوطٍ اقتصادية على الدول الأخرى حقيقة أنَّ الدولار هو العملة الرئيسية للاحتياطي النقدي في العالم. وتمارس الشركات متعددة الجنسيات أنشطتها باستخدام الدولار، وتعتمد غالبية الاقتصادات الناشئة على القروض المقومة بالدولار. لذا، عندما يرفع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة، مثلما يُتوقع اتخاذ هذا القرار مرةً أخرى في الشهر الحالي، ترتفع تكلفة الاقتراض وخدمة الديون. وبالنسبة لسياسات ترامب منعدمة المبادئ، يعد هذا الإجراء أداةً سياسية أخرى قوية.