حبّات من الأسبرين
موسى الزعيم
عن دار الدليل للطبّاعة والنّشر صدرَ كتاب (حبّات من الأسبرين) للفنانة أمل أبو زامل، وهي تجربتها الأولى في مجال الكتابة الإبداعية، يضمُّ الكتاب عدداً من النصوص، والتي تمزجُ بين النص الشعريّ النثري والخاطرة، بالإضافة إلى بعض القصص، وهي تنتمي في مُحصلتها إلى النص الوجداني ذي اللغة الخفيفة، الخالية من المعجميّة والتعقيد.
يقع الكتاب في خمس وثمانين صفحة من القَطع المتوسط، وقد قسّمت كتابها إلى ثلاثة أقسام، جاء القسم الأوّل تحت عنوان غزليّات: وفيه تسعة نصوص نثرية، اعتمدت فيها الفنانة على الدفقة الشعوريّة والجملة القصيرة وحركيّة الصورة المُشبعة بالعاطفة الوجدانية الصّادقة، دون ضابط ايقاعيّ مُحدد.
تقول في نصّ بعنوان أمي: في عيدك أمّي
لا تقسي عليّ أمّي / لأنّك بلا مُقدّماتٍ أمي/ ولأنّي أرتعشُ حينَ ترضين / أرتعدُ
حينَ تغضبين/ وأنتشي حينَ تبتسمين /إنْ كانتْ قد أتعبتكِ حماقاتي/ فعاتبيني
وكطفلٍ صغيرٍ/ أدّبيني/ عاقبيني/ واستردّي/ من عمري ما تشائين /حتى ترضي..
في نصوص أمل أبو زامل حالة انسيابيّة سلسة لجملة شعريّة قصيرة، تحاول أن يكون اللون حاضراً فيها، تحاور بياض الورق، فيغدو لوحة على هيئة قصيدة، تستفيد من خبرتها في الفنّ والرّسم، ليتناثر اللون في صورها، فقد تكررت لديها مُفردات ” اللون ، لوّن ، تلّون، الأبيض ..الأحمر، الأصفر ” وفي كثير من الأحيان يغدو اللون حالة رمزيّة تحمل الكثير من الدلالات، “فسّجادة الدّم في غزّة” رمز لدم الشهداء و”الرياح الصفراء” ترمز إلى الموت القادم، أمّا الحرب فلونها أسود، وغيرها من الألفاظ التي استفادت منها في بناء نصّها، وهو بالمحصلة تأثيرٌ إيجابيّ لهذا التماهي الفنيّ بين الرسم والكتابة.
فهي “تزرع القمر على وسادتها” و ” تلّون له ضفائره، بينما “يلوّن لها الخمائل” من جهة أخرى يتصاعد صوت الحزن في داخلها فتصير ” مِشجباً للحزن العتيق، وبئراً لخفايا الهموم “
تبدو رشاقة الجملة لديها في الانتقال السريع بين حالتين متناقضتين في جملتين متواليتين مثلاً: كما في قولها ” أنا كبرياء القِمم تُعاند السقوط” وأنا البنفسجةُ الرقيقةُ التي ترقص هناك فوق غصنها”
أمّا القسم الثاني من الكتاب ” فلسطينيات” فهي ككل المبدعين الفلسطينيين، تبقى أمينة لقضيتها.. تحفظ إرث التراب الذي نبتت منه، وتنشغل بهموم الفلسطيني أينما حلّ.
فالناصرة وغزّة والقدس ومخيّم اليرموك وطائر القيامة ومشهد الحرب كل ذلك حاضر في نصوصها ومن خلال بعض العناوين، فالصمود، وحلم العودة مازال يكبر كشجر الزيتون في وجدانها.
من جهة أخرى: ترصد معاناة الفلسطيني أينما كان، وخاصة بعد تجارب النزوح المتكرّرة.
فتشغلها هموم الشخصية الفلسطينية وما نالها من الغدر والتشريد في مخيم اليرموك في سوريا على يد عصابات الأسد، وقد اكتوت بنار، وعاشتْ تفاصيلها، فتصوّرُ مشاهدَ يومٍ من أيام الحرب في المخيم على دويّ قذائف الهاون، وقصف الدبابات الذي لا يفرّق بين طفلٍ أو امرأة حُبلى، مثلما لا تفرّق بين الفلسطيني والسوري وكيف انحرفت البندقية إلى صدور الآمنين.
تصوّر ذلك في نصّ “غدر الأشقاء” فبدل أن يمدّ الأشقاء أيديهم لإنقاذ إخوتهم، زادوا إشعال الحريق، لا بل صار منهم من يستمتع بالفُرجة.. ويصفّق للدم.
ففي “غدر الأشقاء” لم يعد مُجدياً هدهدةُ الجرح ولا تضميده بالكلمات المعسولة ولا حتى التبرّع بخيمة أو “كرتونة” مَعونة، صار الصمت أفتكُ وأقبح من القتل ممن يدّعون أنّهم يحافظون على خيط الدم والنسب
لا أريدكم اليومَ أن تهدهدوا جرحي / فما عُدت قادراً على استيعاب صمتكم
وقد بعثرتم بقايا/ عصافيري /وقصصْتم أجنحةَ/فراشاتي /وأهديتم دَمي للمستوطنات
أمّا في القسم الثالث من الكتاب “عبرات” فهو مزج بين القصّة والخاطرة، حاولت الفنانة، أن تستلهم نصّاً قصصياً حكائياً وتُسقطه على واقع تُكابده، تتهيّبُ من مُستقبله، ترسم حدود النهايات على طريقتها مثل ” سندريلا والذئب” و”قصة عمرها في سطور”.
في سندريلا والذئب: تُعيد انتاج نصّ حكائي معروف بلغةٍ جديدةٍ تعبّر فيه عمّا في نفسها من هواجس من خيبات وتحولات، لكن من منظور آخر مختلف المبنى والمآل، فالذئب الذي يلبسُ ثوب الجدّة يحاول أن يكون تقيّاً وَرِعاً بما يكفي، تسامحُ من ظلموها، تسعى إلى مرضاة الله، تأمل أن يعود التائبون لا لكي تسامحهم؛ بل لتدير لهم ظهرها.
سندريلا لم تُحب هذه الجدّة ولا حتى حكاياتها.. لأنّ الأكذوبة تبقى أكذوبة، والحقيقة أنصع من أن تُخبّأ في ثوب أبيض.
إنّ إعادة هذا المنتج التراثي بشكلٍ مُختلف يعطيه قيمة إدهاشيّة وحالة جديدة في البناء تغري بالتفكيك والبحث فيها عن المختلف الممتع.
أمّا في نصّ ” فنّ البقاء نقياً ” فترى الكاتبة أنّ صمود الانسان على مبدئه وبقائه على سجيّته طيّباً رغم كلّ المنغّصات والمفاجآت التي تمرّ به، هو تحدٍّ كبير له في حين ترى أن لذّة الانتصار الحقيقي على واقع الزيف في بقائك نقيّاً طاهرَ القلب “هل تستطيع أن تكون صادقاً في رسم نفسك وتلوين ذاتك كما هي ” فالإنسان هو من يبدعُ ذاته، يلوّنها بألوانها الحقيقية، قبل أن يصوّرها الآخرون في مخيلاتهم”
في كتاب حبّات من الأسبرين حاولت الكاتبة إخراج النصوص بعيداً عن قولبتها وتركتها على سجيتها بلغتها البسيطة المشبعة بالعاطفة مع محافظتها على الإيقاع الداخلي للنص، إلاّ أنّ الروي في بعض الأحيان كان يأسر بعض نهايات المقاطع الشعرية ويعمد إلى تقييدها، ما يُخرجها عن شكل قصيدة النثر والتي من شروطها الخروج عن ضوابط الوزن والقافية والروي إلى فضاء الدفقة العفوية.
في المحصلة يبدو أنّ الفنانة حاولتْ أن تعطي لريشتها استراحة لتستبدلها بالقلم ولترسم بالكلمات وتبدع نصوصاً في بكريتها الأولى، حاولت فيها أن تقول بصدق ما يجول في قلبها ووجدانها دون تكلّف أو تعقيد، لكننّا يجب ألاّ ننسى أنّ التجارب الإبداعية الأولى يعوزها الكثير من التأني والتشجيع.
يُذكر: أنّ الفنانة أمل أبو زامل تُقيم في برلين، وقد أقامت العديد من المعارض الفنية الفردية والمشتركة.
.