الفلسفةُ تَلبِسُ عَباءةَ الشّعر في ديوانِ المَعارجِ والألواحِ للشّاعر الأردنيّ تُركي عبد الغني
.
موسى الزعيم
عن دارِ الدليل في برلين ، صدرَ مؤخراً، ديوانُ المعارج والألواح، للشاعر الأردني تركي عبد الغني، والشاعرُ من مواليد عام 1966 في قرية كفريوبا في محافظة إربد، ويقيم حالياً في برلين منذ عام 1994 حاصلٌ على إجازة ٍفي الأدبِ الانكليزيّ والتّأهيلِ الاجتماعيّ.
يكتبُ الشّاعر القصيدة العموديّة، وقصيدةَ التّفعيلة، وقد تُرجمتْ العديد من قصائدهِ إلى الّلغة الألمانية والفرنسية، وله ديوانٌ شعريٌّ مطبوعٌ بعنوانِ (حقائبُ الطّين) شاركَ في العديدِ من الأُمسياتِ الشّعريّة، والمهرجاناتِ الأدبيةِ في عددٍ من بلدانِ أوربا و المغرب العربيّ وغيرها، كما حصل َعلى عددٍ من الجوائزِ الأدبيّة الهامّة، منها على سبيل المثال درع ُاتحادِ أطباءِ أوربا، ودرعُ مهرجانِ جرشَ، درع المعهدِ الثقافيّ العربيّ في برلين، ولعلّ الأهمّ من ذلكَ درعُ أميرِ الشّعراء العربِ، في دولةِ الإماراتِ العربيّة عام 2009
الديوان يعكسُ تجربةً فكريّة ًشعريّةً ذات بصمةٍ فريدةٍ وتركي عبد الغني شاعر متفرّدُ في تغريدهِ على صعيدِ الموضوعِ، وتناولِ الأفكار-على الأقلِ- في الوقتِ الحاضرِ، يحاولُ الشاعرُ في ديوانه البحثَ والتّنقيب في مجاهلِ النّفس البشريّة، والإجابةِ عن التساؤلاتِ الكُبرى، وأهمّها سؤال الوجودِ، هذا السؤالُ الكبير الذي رافق الإنسانَ، منذُ ظهوره على وجهِ البسيطةِ.
لماذا خُلق الإنسانُ ؟ ما معنى وجودِه ؟
عبَر التاريخ تولّتْ الفلسفة مُهمةَ الإجابةِ عن هذا السؤال، والتصدّي لهُ، لكن حسبَ كلّ مرحلةٍ من تطورِ البَشريّة..هذا السؤال ليسَ سؤالُ الفردِ، وإنّما يتجاوزه إلى الجماعةِ وعامّة الجّنس البَشريّ، إنّه من الأسئلة القلقلةِ للكائن البشريّ، هل هو معنيّ بذاتهِ على صعيدِ الشّخصيّة أم أنّه يتجاوز حدودَ الفردِ، حدودَ المكانِ ليغدو سؤال كلّ إنسان و يتخطّى
حدود حياتهِ اليوميّة المُعاشةِ في الطعامِ والشّراب، ليغدو التّأمل سفينةُ الفِكر إزاءَ هذه الجدليّة، إزاءَ هذا القلق الوجوديّ المُشبع بالأسئلةِ، لابدّ من ملامسةِ الخُطوطِ الحمر من هزّها، من قياسِ ردّةِ الفعلِ رغمَ المَتاهاتِ والعقبات .
إنّ الفلسفة، عبر تطورها، منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم، إلى الآن تبحثُ عن معرفة الذّات لنفسِها، وصورتَها عبرَ المحاكاةِ أو المنطق، وليس غريبًا عن الفلسفة أن ّتُبحرُ في طقسِ الشّعر. لتكشف كُنْهَ الوجودِ.
وتعمد إلى ما هو ديني أو دنيوي، وتحاول تفكيه، وإعادة ترتيبه، بما يقتضيهِ الفكر الإنساني القلق، ورغم التّقدم العلميّ والّتقنيّ والحَضاريّ، إلاّ أنّ هذه الأسئلة، مازلتْ شاغلَ الإنسان لم يصل بعدُ إلى إجابتها، لم يدرك معنى الوجود، معنى الموت، أو الارتباط بخالقِ الكونِ وغيرها…
شعريّاً حاولَ الكثيرُ من الشعراءِ العرب الخوضَ في عمقِ هذه الأسئلة، إلاّ أنّ الإجابات كانت تزيلُ الغبارَ في لحظةٍ ما عن قشرتها، لكنّها لا تلامسُ الجوهرَ، لأنّها ربّما تتخطّى حدودَ المسموحِ، في منطقِ العصرِ الذي عاشَ فيه الشّاعر، في المُحصلّة كنّا أمامَ منتجٍ شعريّ غنيّ بالفلسفة والعقل والعاطفة الصّادقة، والّلغة التّي تتجاوز حدودّ العامِ إلى ما هو أعمق بكثيرٍ من القصائدِ الوجدانيّة الأخرى.
ولأنّ الشعر محبّة، تتوحّد بكلِّ شيء، تندمج بالعالم، إنّه أحدُ طقوس الروّح التي تتورَّط في سرابِ الجَسد، يبدأ الشّاعر بالتّخيل من أجلِ الفوزِ بالحقيقةِ، والوصول إلى عتمةِ الجسدِ ومجاهل النّفسِ بالشّعر، يبتكر الشّاعرُ العالم، يرسمُ شكلَ الوجودِ الذي يريد، والشّعر محبة الجّمال والذات تتحسَّسُ الجّمالَ في كلِّ شيء، يمسح القُبح والبَشاعةَ، يعلنُ ميلادَ الجنَّة الضائعة، وهو صورة الذّات حين تتوحد، صورة الجسد حين يتألم، صورة النّفس حين تطفح بالخطيئة وجحيم البقاءِ، صورةُ الرّوح التّي تتعلقُ بشجرةِ النّور، والشاعر بين النّار والنّور، يشكِّل باللّغة والخيال الوجودَ الذي يشتهي، بينَ العدم والوجود، يرى لحظةَ التجلِّي والتشظِّي بين الموتِ والحياة، بين الملائكةِ والشياطين، يرسمُ شظايا الجسد عبر الوقتِ، إنّه يتأرجحُ بين العلوِّ والسقوط، يريد أن يبتكرَ اسماً جديداً لكلِّ شيء، يفعل ما يمليه عليه خيال الفكرةِ، يكون متى يريد وأين يشاء.
من هنا فإنّ قصائدَ الدّيوان مشغولةٌ دائماً في البَحث والتّنقيب في الذّات الإنسانيّة عمّا يُشبع فضولها، لكنّ البحثَ هنا لا يشملُ الموجوداتِ الحياتيّة اللّحظيّة .. الهاجسُ الأكبر كان في البحث عن (الله) عن معنى وجودهِ من خلال جوهر الإنسان.
في قصائد الشاعر تجد أنّ روحه توّاقة لمعرفةِ الله، والتّعلق به، تشعر بالهدوء كلّما مرّت
تفصيلةٌ صغيرةٌ تُشعلُ في ذاتِ الشّاعر نورَ اليقين.
ولعل عنوان الديوان يفتح باب المضمون على مصراعيه، فالمعراج ما هو إلاّ حالة اتصال عُلويّة على مراحل، ولعل اللفظة تأخذُ موقعاً معنويّاً متفرداً في قاموس اللغة، لأنّها ارتبطت ْ بحالةٍ خاصّةٍ، تحيل إلى ما هو ديني مباشرةً، هي اتصالُ النبي الكريم بالخالق، أمّا الألواح فتحيلُ إلى ما هو تاريخيّ توثيقيّ في حياةَ البشر، وإن كانت تحمل اللفظة ازدواجية في المعنى، بما هو ديني يتصل بمجملِ الأعمال الخيّرة والشريرة التي اقترفها الإنسان، حسب المُعطى الدّيني وتُحفظ في سجلّ آخرته، بالإضافة إلى المعنى التاريخي التوثيقي المعروف، فهي تجمعُ أبجدياتِ حياةِ البشر الأولى ..الألواح كذلك خُطّت عليها فطرية الشعر باعتباره أحد الفنون الإنسانية البِكر، في المعنى المجازي لتسمية الديوان فالمعراج صعود الإنسان الروحي سموّه ورقيّه و،الألواح ما هو مطبوعٌ في هذه الذات ما هو منقوشٌ عليها، بمعنى أخر حركيّة المعراج وثباتُ الألواح.
في مدخل الديوان يمهّد الشاعر قائلا ً:
“إنّ هذهِ المجموعةَ بما ضمّتهُ من قصائدَ، لهي انعكاسي لحماً ودماً ورؤيةً وتجربةً لم يجبرني في تعابيرها ولا في تراكيبها ما هوَ غريبٌ عنّي ولا دخيلٌ عليّ فهي آلة التصوير الروحانيّة التي التقطتْ مالا تعكسهُ المرايا ولا تتحسّسهُ رؤوس الأصابع هي بعضي ومنّي فادخلوها آمنين.... ”
في قصائدهِ تعودُ بكَ ذاكرتكَ الشّعرية إلى الشاعر البوصيريّ وإلى كعبِ بن زهير في السّبك والصياغة، تشعرُ وكأنكَ تقرأُ شعراً من عمقِ أصالةِ سوقِ عكاظ، تجد فلسفة المعريّ حاضرةً في بعض التفاصيل، لكن بنكهةٍ معاصرةٍ.. في سبكهِ الشّعري في صورهِ ودقّة بلاغتهِ، وحُسن صياغتهِ ودقّة اختياره، على صعيدِ الكلمة والفكرة والإيقاع الشّعري، في قصائده، تستذكر دروس البلاغةِ القديمةِ في بطون الكتب، تلبسُ الصّوفية عباءة الفِكرة الفلسفيّة، تتعانقان في كيانٍ شعريّ واحدٍ وتبحران على متنِ قصيدة.
نقرأ في عناوين القصائد والتي قسّمها الشّاعر إلى أربعةَ عشَر معراجاً، كلّ معراجٍ يحتوي على قصيدةٍ، يبهركَ عمقُ عنوانها مثل:
( الشيّء، الله ، اغتراب، حرائقُ الرّحيل، سِفر التّراب، دوران، على قدر التّعلق، رسل الظّلام، الصّلصال المقّدس، اليوسفيّة،إلاّ لأنكما أنت، وهكذا تكلّم المجنون)
ففي قصيدة /الشّيء/ يقف الشاعر عن قضايا دقيقة تشغل الفكر الإنساني في البحث والتفتيش عن النّور وبروحٍ صوفيّة عقلانيّة، مُشبعةٍ بالتخيّل، تواقة للتوثّب فيها يرى أنّ الإنسانَ يعيشُ تناقضَ الوجود، بين أن يكون حرّا ًفي اختياراته الدنيوية والروحانية، وأن يكون مسيّراً، يرى الشاعر أنّ على الإنسان ألا يستهلكَ وقتهُ في التّفكير في حديّ هذه المسألةِ ” التخيير والاختيار” لأنّ العمرَ أقصرُ من أن يقضيهِ في ذلك، عليه – أي الإنسان – أن يفتّش في الجوهرِ ليجد الإجابةَ عن أسئلتهِ،لا في الأطرافِ والقشور، في الجوهرِ تكمنُ روحُ الحقيقة، وإن تعمّق أكثر فقد تخطّى حدودَ منطق الفِكرة، عليه أن يتراجع لأنّه بالأساس عندما وصلَ الجوهرَ أشبع فضول المعرفة لديه وبالتالي أمسك خيوط اليقين.
فيقول :
يُعَذِّبُكَ الْخَيارُ والاْخْتِيارُ فَإِنَّ كِلا البَديلَيْنِ انْتِحارُ
فلا تَسْتَنْفِدِ الأيّامَ خَلْفي لأنَّ العُمْرَ وَقْتٌ مُسْتَعارُ.
وَإِنْ فَتّشْتَ في الأسماءِ عَنّي فَإنّي
الْمَرْكزِيَّةُ والمَدارُ
في قصيدةٍ أخرى ( الله) يبدو العنوان أكثرَ جرأة من غيرهِ، يتابع الشاعرة مسيرته في البحثِ عن الله، فيالتفاصيلِ الصّغيرة، يعيد ترتيب سيرة التّراب وحكايته الأولى، فالله موجودٌ فيلحظةِ التأمّل والسّكون، تعثرُ عليه في لحظة إعادتك إلى سيرةِ الخلق الأولى، لحظةَالتشكيل والتكوين، فعندها لا باب موصدٌ دونه، حينَ يفتحُ الإنسان بصيرته، ويُعملُعقلهَ وقلبه في البحث عنه في لحظةِ الشّفّ، والتّجلي النّوراني، عندها يصل المرء إلىدرجة اليقين بوجودهِ، وتمكّنه منه، عندما تقرأ القصيدة تحارُ أهي لشاعرٍ معاصرٍيعيشُ بيننا اليوم!؟ رغم الكمّ الهائل من التقانة والمعلومات رغم تسارع الحياة وماديّة البشر، رغم سيلِ الحداثة الشعريّة الجّارف.. أم أنّها لشاعرٍ عاصر فحول الشعراء العرب.
(الله)
سَكَنَ الضَّجيجُ
فلا صُراخَ ولا صَدى
مُذْ جاءَ يُنْزِلُني التُّرابَ لأصْعَدا
وقدْ أناخَ َعلى فَمي زَمَناً
على قِصَرِ المكوثِ تأبَّد
في لَحْظَةٍ كَبُرَتْ عَلَيَّ كأنّما
هَرِمَ الزَّمانُ على يَدي فَتَجَعّد
فَفَتَحْتُ عَيْنِيَ لِلْوُجودِ فَلَمْأَجِدْ
بَيْني وبينَ الله باباً موصَدا
لم يقتصر بحثُ الشّاعر عن الله، الخالق والتأمل في مفردات الوجود، بل يجيلُ بصره في الذات البشرية الإنسانية، يغوص عميقاً في تركيبها، يحاورها، يسأل عن معنى تركيبة الإنسان وهيئة أخلاطه، وشكّه ويقينهِ، ثم ينتقل بعد ذلك من العام إلى الخاصّ، يتساءل أين (أنا) ككائن عربي من كل هذا الوجود؟.. هل أنا هامشيّ مسلوبة حقوقي ؟ أم أنّني لا زلتُ على مسرحِ الحياة ؟
يعمد الشّاعر في قصيدتهِ إلى جدليّة المتناقضات اللفظية، يبني الفكرة من خلال صراع الأضداد،يلجأ إلى المقابلات، يعتمد المقولة “والضدّ يُظهر حُسنه الضّد” / لهبٌ وأرتعدُ، تلجٌ وأتقدُ، منفصلٌ متّحدُ، أفراحي أحزاني، اقتربتُ تبتعدُ../
( أين أنا ) من ُسلّم الحياة، من مرتقى الحضارة المعاصرة اليوم، تساؤل يفجّره الشّاعر وهو يرى حال الأمة اليوم في انحدار، حال الفرد في ضياع، أين أنا على ساحة الوجود البشري ؟ ككائن عربي وقد استُبدلتْ كلّ معطيات الحياة العربيّة الخاصّة بي، صرتُ الهثُ وراءَ أشكالٍ وألوانٍ أخرى لا تمثلني في شيء، الأسماء، المدن، الرموز، الأبطال كلّهم غريبون عنّي، قيم الجّمال لا تنتمي لقبيلتي لعروبتي، وما أكثر الأشياء الدّخيلة التي صارتْ من صلبِ حياتي ومن مقدساتي ..أقدّسُ ما هو غريبٌ لمجردِ أنّه غريب، لتغدو غربتي اغترابٌ عن ذاتي ،حتّى وكأنني انظرُ في وجهِ مرآتي لأرى غيري، لأرى صورتي في هيئة كائن لا أعرفه.
يقولُ في قصيدة (اغتراب)
أنا قلبٌ، فمٌ ويدُ أنا لهبٌ وارتعدُ / أنا ثلجٌ واتّقدُ
أنا شيءٌ عن الأشياءِ منفصلٌ وبالأشياء متّحدُ
وبي من أفراحي الثكلى إذا ما زُحزحتْ تلدُ
أنا مَن لستُ أفهمهُ، كأنّ سواي في جلدي/
لأنّ اسم ابنتي عفراءَ ولي كوفيةٌ من نسجِ أوردتي
وشعري أسود وملامحي سمراء
عرفتُ بأنّ آدمَ لم يكنْ أبتي / وأمّي لم تكنْ حواء
فأين أنا ؟!/ وكيفَ أتوهُ عن إبلي؟/ وكيفَ تتوهُ عن خيمي فوانيسي !؟
وأين أنا ؟! /لأخجلَ من يراعي حينَ يعشقُ سرجَ سابحةٍ ويركبُ أظهرَ العيس!؟
وأين أنا؟! ليُقتل أحمد في عقر مفردتي
وتصغر دمعة الخنساء في عيني
و أفروديتُ تعظمُ في مقاييسي .
على صعيدِ الّلغةِ والتّركيب يشتغلُ الّشاعر على نصّه باجتهادٍ كبيرٍ، يحاولُ دائماً في قصائدهِ إيجادَ لغةٍ خاصة في اللّغة، يُعطي اللفظةَ موقعاً لا تؤدي دورها إلاّ به، بحيث تخدم سياق النّص.
الشاعر يستهويه البديع اللّفظي، فتراه يتكئ دائماً على الجّناس والطّباق والتّرادف وغيرها من المحسنات هو نسيجُ وحدهِ لكنّه يذكرنا بلزومياتِ المعريّ، تحسبهُ مشغولٌ بسبك قصيدتهِ، يشغله المعنى البعيد، يفتح باب التخيّل لكنّه في ذاتِ الوقتِ، يبهركَ بالمقدرة اللغويّة حتّى لتخالَ نفسكَ أمام معجمٍ متنقلٍ، وهي عادةُ فحولِ الشعراء، بين أبيات قصيدته يجنحُ دائما إلى التفعيلة ذات النفسِ الطّويل، أن دلّ ذلك على شيء وإنّما يدلّ على عنايته بإيصال المعنى المراد وامتلاكه ناصية الشعر.
المعارج والألواح ديوان شعريّ ذا صبغة فريدة يجنح نحو الأصالة في زمنِ الحَداثة زمن استسهالِ الشّعر ليستحقّ صاحبهُ عن جدارةٍ لقب نجمِ أميرِ الشّعراء .