الاندماج … في خطوطه الخضراء والحمراء
المعهد الثقافي العربي ـ برلين
د. نزار محمود
منذ أن جئت وأقمت في المانيا، قبل ما يزيد عن ثلاثين عاماً ، والحديث لا ينقطع عن الاندماج والاندماج والاندماج!
ولما شاء القدر وحكمت الظروف أن أؤسس مع مجموعة من الأصدقاء جمعية المعهد الثقافي العربي في برلين قبل ما يزيد عن عشرين عاماً، كان الاندماج كذلك هو الراية التي ترفرف فوق فعالياتنا ونشاطاتنا كي يكسبها شرعيتها، من ناحية، ويمكِّن من تمويل كثير منها، من ناحية ثانية، في ظروف غياب الدعم والإسناد لغيرها تقريباً. لكننا في المعهد، ومن أجل أن لا نتيه ولا نضيع، ولا نتحول الى إمعات سلبية لا لون ولا دور متميز لها، كانت لنا فلسفة في الاندماج حين رفعنا شعار: الاندماج الايجابي المحافظ على الهوية، والهوية المتميزة القابلة للاندماج. ولم تكن مهمة التوفيق بالسهلة، لكنني أستطيع القول بعد ما يزيد على عشرين عاماً من العمل، أننا نجحنا في التوفيق الى حد كبير بين تحقيق هدفين يبدوان متناقضين.
وهكذا تشكلت فعالياتنا ونشاطاتنا وصبت في اتجاهين اثنين:
الأول تبني وتنفيذ مشاريع وفعاليات تشجع وتدعم الاندماج للجالية العربية في المجالات التالية:
⁃ مجال الاندماج السياسي، وذلك من خلال ما قمنا به من اعمال توضيح لطبيعة النظام السياسي وآليات عمله في انتخاباته المتعددة، وحقوق وواجبات المواطنة، وطبيعة علاقة الدولة ومؤسساتها بالمواطن، اضافة الى استضافة ممثلي الأحزاب السياسية الفاعلة في الفترات التي تسبق الانتخابات لعرض برامجهم الانتخابية ومواقفهم من خصوصيات مطالب الجالية العربية، ناهيك عن التشجيع للانخراط في الأحزاب السياسية الألمانية.
⁃ مجال الاندماج الاقتصادي، وذلك من خلال المساهمة في خلق شروط ذلك الاندماج ابتداءً من تقديم كورسات تعليم اللغة الالمانية، الى تنظيم دورات في كيفية تأسيس المشاريع والشركات، اضافة الى ما وفرناه من فرص تشغيل اجتماعي لمئات من ذوي الاصول العربية وفرص تطبيق وتأهيل مهني، ناهيك عن عشرات المشاركات في ندوات ومؤتمرات متخصصة حول تأهيل وتشغيل المواطنين من ذوي الاصول الأجنبية ومنهم ابناء الجالية العربية.
⁃ مجال الاندماج الثقافي، وذلك من خلال تنظيم العشرات من الفعاليات والمهرجانات والأسابيع الفنية والأدبية الهادفة الى التعرف على ثقافة المجتمع المضيف والتعريف بالثقافة العربية في نهج حواري متفاعل. فلم يكن بالغريب أن يشارك ألمان وعرب في فعاليات المعهد وبصورة مشتركة. كما كان لإصداراتنا وكتاباتنا الثقافية والأدبية وباللغتين العربية والألمانية ما يدلل على فعل دورنا في دعم الاندماج الثقافي الايجابي للجالية العربية في المانيا.
كما تمثل المجال الثاني من عملنا، ووفق فلسفة هذا العمل وشعاره المشار اليه سابقاً، بفعالياته ونشاطاته التي هدفنا منها الى الحفاظ على هويتنا المتميزة القابلة للاندماج وغير المنغلقة على نفسها والجامدة في تطورها. فقد كان للمعهد نشاطات ثقافية وفنية متميزة على مدى عشرين عاماً، وقد شكل نشاط الاسبوع الثقافي العربي باكورة تلك الفعاليات والنشاطات، رغم محدودية الدعم المالي، وحتى انعدامه أحياناً.
وكانت تسميتنا الاسبوع الثقافي العربي الأول، “نهضة” في المانيا وبرلين عام ٢٠٠٦ والذي اشتمل وعلى مدى ثمانية أيام على اكثر من ٣٥ فعالية فنية وثقافية وحوارية من محاضرات وندوات وحوارات ومعارض لوحات وكتب وأعمال تشكيلية ويدوية وعروض مسرحية وسينمائية وأزياء ودبكات وأمسيات موسيقية وغنائية، إلا تعبيراً عن دورنا في التعريف بهويتنا الثقافية والحضارية وانفتاحها الحواري مع الثقافات والحضارات الانسانية الاخرى. وكان ان تبعت ذلك الاسبوع أسابيع ثقافية عربية أخرى في السنوات اللاحقة.
نعم، لقد وضعنا لنا خطوطاً خضراء في اندماجنا الايجابي الفاعل، كحالة اثراء إنساني في مشاركته في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، كما كانت لنا رؤيتنا الواثقة بنفسها في هويتنا الحضارية ودورها الإنساني.
وفي ذات الوقت عملنا على تجنب الانعزال والتقوقع والقفز على الواقع في متطلباته دون الانزلاق والانصهار في مطباته، فلم نرفض تعلم اللغة الالمانية ونتهرب من مسؤوليات مساهمتنا في العمل أو الوقوف كالمتفرج على أحداث الحياة في المجتمع الألماني، في ذات الوقت الذي لم ننسلخ وننس فيه جذورنا الإنسانية والثقافية الأصيلة ودورنا الاخلاقي تجاه قضايانا الوطنية العادلة والمشروعة، والتي شكلت بالنسبة لنا الخطوط الحمراء في ذلك العمل.
.