قبل “وارسو” و بعد “ميونخ” .. الخلافات بين أمريكا وأوروبا تزداد

عاطف عبد العظيم

خلال الشهر المنصرم شهدت الساحة العالمية حدثين مهمّين عكسا مدى الخلاف الكبير بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين أوروبا، مما بات ينذر بتحوُّل كبير في مستقبل العلاقات بينهما قد يؤدي إلى انهيار منظومة التحالفات التي رسمتها القوى العالمية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.

في مؤتمر وارسو الذي استضافته العاصمة البولندية، عبَّرت دول أوروبية لها ثِقلها الاستراتيجي مثل ألمانيا وفرنسا عن سخطهما من سياسات الرئيس دونالد ترامب المنفردة، وغاب ممثلو هذه الدول عن المؤتمر، أو على الأقل كان التمثيل ضعيفاً.

مؤتمر آخر، هو «مؤتمر ميونيخ للأمن»، كشف عن مدى التصدع في العلاقة بين الكتلتين الغربيتين الأكبر وهما أوروبا والولايات المتحدة؛ إذ تنابذ كل من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ونائب الرئيس الأمريكي مايك بنس بالاتهامات بشأن السياسات الأمريكية في العالم والتي كما ترها ألمانيا تقوض السلام العالمي، فيما دافع ممثل ترامب بقوة عن سياسة زعيم البيت الأبيض.

تمزيق الاتفاق النووي:

تسبب قرار ترامب في مايو/أيار 2018، بالانسحاب من الاتفاق النووي الذي وقَّعته الدول الكبرى ووُصف بالتاريخي مع إيران عام 2015، وفرض عقوبات اقتصادية على الشركات التي تتعامل مع إيران، بصدمة كبيرة للدول الأوروبية الراعية لهذا الاتفاق والتي سارعت عقب توقيعه لتدشين مرحلة جديدة ومهمة في تاريخها مع طهران المثقل اقتصادها بالعقوبات، والتي كانت ترى أن هذا الاتفاق طوق نجاة لها لتسير في ركب الحداثة العالمية.

الكثير من الشركات الأوروبية تضررت بشكل مباشر، في مجال السيارات بعد الإعلان عن لائحة العقوبات الأمريكية الجديدة، جاءت ردة فعل المجموعتين الفرنسيتين الكبيرتين لصناعة السيارات (رينو، بي إس أي) العاملتين في إيران مختلفة إلى حد ما. فقد أعلنت «بي إس أي» أنها تستعد لتعليق نشاطاتها بإيران، إلا أنها قللت في الوقت نفسه من تداعيات هذا الانسحاب عندما أوضحت أن نشاطها في إيران «يشكل أقل من 1% من رقم أعمالها». من جهتها، قالت «رينو» إنها لا ترغب بالتخلي عن نشاطاتها في إيران حتى ولو أُجبرت على «خفض حجم نشاطها بشكل كبير». وقد وقَّعت «ديميلر» الألمانية عام 2016 بروتوكول اتفاق مع مجموعتين إيرانيتين لإنتاج وبيع شاحنات مرسيدس-بنز. كما أعلنت فولكسفاغن عام 2017 رغبتها ببيع سياراتها في إيران مجددا بعد توقف دام 17 عاماً، إلا أن تلك الشركة الموجودة بقوة في السوق الأمريكية ستجبر على الأرجح على التخلي عن نشاطاتها في إيران. وتلقت «إيرباص» طلبيات من شركات إيرانية لشراء مئة طائرة، ولم تسلم سوى ثلاث طائرات، وهي مزودة بأذونات أمريكية؛ لأن الشركة تستخدم قطعاً مصنّعة في الولايات المتحدة بطائراتها.

بعد اتفاق عام 2015 انضمت مجموعة النفط والغاز الفرنسية «توتال» إلى المجموعة الصينية «سي إن بي سي» لاستثمار 5 مليارات دولار في استغلال حقل «بارس» الجنوبي للغاز. وبما أن توتال فشلت في الحصول على استثناء من العقوبات الأمريكية، فمن المرجح جداً أن تتخلى عن هذا المشروع. أما عملاق الغاز الإيطالي (إيني) فيشتري مليونَي برميل من النفط شهرياً من إيران بموجب عقد انتهى عام 2018 ولم تجدد الشركة عقدها مع إيران خوفاً من العقوبات الأمريكية. سكك الحديد صناعة السكك الحديد الإيطالية تأثرت بشكل مباشر من العقوبات الأمريكية على إيران. فقد وقعت المجموعة الإيطالية الرسمية لسكك الحديد «فيروفيي ديللو ستاتو» اتفاقاً مع إيران في يوليو/تموز 2017 لبناء خط سكك حديد فائق السرعة يربط بين مدينتي قم وآراك في شمال إيران. كما وقعت عدة اتفاقات تعاون بين إيران ومجموعة بناء السفن البحرية «فينكانتياري» عام 2016، لكنها توقفت بعد ذلك بسبب العقوبات. كما تضررت عدة شركات في قطاعات مختلفة بسبب القرارات التي اتخذها ترامب مثل شركتي الطيران البريطانية «بريتيش إيرويز» والألمانية «لوفتهانزا»، وفنادق «أكور أوتيل» الفرنسية -التي فتحت فندقين بمطار طهران عام 2015، وشركة «مابنا» الإيرانية لصناعة توربينات غاز ومولدات للمحطات الكهربائية.

الانسحاب الأمريكي من سوريا:

ألقى الخلاف بين ترامب والأوروبيين بظلاله في مؤتمر ميونيخ ففي الوقت الذي هوّن فيه نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس من التداعيات المحتملة لقرار بلاده سحب قواتها من سوريا، حذرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من أنه قد يعزز نفوذ روسيا وإيران هناك. فقد قال بنس، في كلمة أمام الحضور، إن سحب القوات الأمريكية من سوريا تعديل في أساليب العمل، وليس تغييراً في الاستراتيجية، مشيراً إلى أن المهمة في سوريا سيتم نقلها لحلفاء واشنطن، وسيتم دعمهم.

وأضاف أن بلاده ستحتفظ بوجود قوي في الشرق الأوسط، وستتعقب تنظيم الدولة الإسلامية، وبات التنظيم محصوراً في رقعة صغيرة بسوريا بعد حملة عسكرية بدأتها قوات سوريا الديمقراطية في سبتمبر/أيلول الماضي بدعم من التحالف الدولي. ورغم هذه التصريحات التي تراها الإدارة الأمريكية مطمئنة، فإن الأوروبيين يرون أنها ليست أكثر من مجرد حجج واهية، وأن إدارة ترامب تمضي قُدماً في خطة تهدف إلى الانسحاب من المناطق الساخنة وتفويض الحلفاء في إدارة مهام تلك المناطق، فيما ترى فرنسا وألمانيا أن هذه القرارات أحادية الجانب تهدف إلى تقويض الأمن والسلم الدولي.

الحرب التجارية:

في مايو/أيار 2018، أعلنت الولايات المتحدة عن فرض رسوم على الفولاذ والألمنيوم المستورد إليها بنسبة 25% و10% للمواد المستوردة من أوروبا وكندا والمكسيك وكوريا الجنوبية، باستثناء الأرجنتين، بحسب الإعلان الذي وقع عليه الرئيس الأمريكي. هذا القرار أثار غضب رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، الذي قال إن قرار ترامب بفرض عقوبات جديدة لا يترك أمام الاتحاد الأوروبي خياراً آخر سوى فرض تدابير ردية، والتي ردت عليه بالمثل.

القصة لم تنتهِ عن هذا الحد، بل استمر الوضع حتى قمة الدول السبع الكبار في كندا في منتصف يونيو/حزيران 2018، إذ سحب ترامب بشكل مفاجئ تأييده لبيان مشترك صدر في نهاية القمة، بسبب نزاع حول التجارة، متهماً رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو الذى ترأس القمة بأنه غير نزيه وضعيف، الأمر نفسه انسحب على القادة الأوروبيين الذي وجدوا أن قرارات الرئيس الأمريكي التجارية تهدد اقتصاديات بلدانهم بشكل مباشر.

هذه الخلافات الحادة بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، سواءً كانت تجارية أو أمنية، فإنها مثلت وللمرة الأولى تهديداً كبيراً أمام التحالف القوي بين القوى الغربية، الذي مرَّ عليه أكثر من 70 عاماً، في الوقت الذي ترى فيه الدول الفاعلة في الاتحاد الأوروبي أن إدارة الرئيس ترامب تسعى بكل جهدها إلى تفكيك منظومة التحالفات الراسخة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، الأمر الذي يمنح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفوذاً كبيراً في العالم بسبب هذه الانقسامات. ثمة سؤال في النهاية يجب البحث عن إجابة عليه، هو هل يمكن أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه بشأن بقاء التحالف القوي بين الأوروبيين والولايات المتحدة، أم أن الأمور وصلت إلى مرحلة اللاعودة حتى لو غادر ترامب البيت الأبيض؟

.