أسلحة الناتو .. هل تجعل أوروبا آمنة؟

د. أمير حمد /

قبل أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، بدأ حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة حشد قواته في شرق أوروبا، فهل ستنسحب تلك القوات بعد انتهاء الحرب؟ وهل يجعل وجودها أوروبا أكثر أمناً؟

ولا تزال الولايات المتحدة تواصل إرسال مزيد من القوات والمعدات العسكرية إلى الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) في شرق أوروبا، فقاعدة “ميهايل كوغالنيتشيانو” العسكرية الواقعة على حدود رومانيا بالقرب من البحر الأسود لم تكن، حتى وقت قريب، سوى محطة توقف للقوات العابرة أو نحو ذلك، إلا أنها اكتسبت أهمية بارزة الآن وصارت قاعدة عسكرية على الخطوط الأمامية لدفاع حلف شمال الأطلسي (الناتو) ضد روسيا، بحسب تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.

وانتهز الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ الضجة المثارة حول ما حدث في مدينة بوتشا الأوكرانية، ليعيد التأكيد على استمرار الناتو في تقديم المعدات العسكرية لأوكرانيا والعمل على منع امتداد النزاع خارجها. وتابع: “سنواصل دعم أوكرانيا لاسيما بعد ما حدث في مدينة بوتشا”، بحسب وكالة الأناضول.

تتهم أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون، وبخاصة الولايات المتحدة، القوات الروسية بارتكاب “جرائم حرب” في بوتشا، وترفض روسيا تلك الاتهامات وترد بأنها “تزييف متعمد” هدفه تشويه صورة موسكو وزيادة الضغط عليها، ومن الصعب التحقق من مدى صدق أي من الروايتين.

إذ دعت الولايات المتحدة ودول أوروبية إلى فتح “تحقيق دولي” في اتهام القوات الروسية بارتكاب “إبادة جماعية” في بوتشا، غداة العثور على عشرات الجثث عقب خروج القوات الروسية منها. بينما تنفي روسيا ادعاءات قتلها مدنيين في بوتشا، وتقول إن صور القتلى في المدينة الأوكرانية كانت “بأوامر” من الولايات المتحدة في إطار مؤامرة لتوجيه اللوم إلى موسكو.

الناتو يدافع عن أعضائه؟

على مدار سنوات، استخدمت القوات الأمريكية مهبط الطائرات المتقادم للقاعدة الرومانية كمحطةِ عبور لعمليات الإمداد في أفغانستان، بيد أن أحواله تغيرت في الأسابيع الأخيرة، فقد نشرت القوات الأمريكية وحلفاؤها أكثر من 1800 فرد ومئات المركبات والمعدات العسكرية الأخرى في الحقول التي كانت مهجورة تعبث بها الرياح، بحسب تقرير وول ستريت جورنال.

احتشدت القوات الآن في هذا المكان لأن ركناً أساسياً من القواعد الحاكمة لحلف الناتو ينص على أن الهجوم على إحدى دول الحلف الثلاثين يعادل هجوماً على جميع دول الحلف. ومنذ أن غزت روسيا الأراضي الأوكرانية في فبراير/شباط، تزايدت المخاوف من امتداد الصراع إلى ما وراء حدود أوكرانيا.

قال الكولونيل فينسينت مينغوت، قائد قوة جديدة تابعة للناتو تضم نحو 500 جندي فرنسي و300 جندي بلجيكي: “نحن هنا لإرسال رسالة واضحة إلى روسيا: حذارِ أن تتجاوز قدمك الحدود بخطوة واحدة”.

وأصبحت قاعدة ميهايل كوغالنيتشيانو العسكرية الآن ضلعاً في خط المواجهة الجديد لحلف الناتو في رومانيا، فالأخيرة تشارك أوكرانيا حدوداً طولها 644 كيلومتراً. وقوة الكولونيل مينغوت العسكرية واحدةٌ من أربع مجموعات قتالية جديدة نشرها حلف الناتو مؤخراً في رومانيا وبلغاريا والمجر وسلوفاكيا.

وقد ذهبت تلك القوات إلى هناك تعزيزاً لقوات أخرى أرسلها الناتو إلى بولندا ودول البلطيق بعد أن استولت روسيا على شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في عام 2014.

تغيير الحالة الأمنية في أوروبا

يقع على هذه المجموعات القتالية مهمة تعزيز دفاعات الناتو الشرقية وردع أي عدوان روسي عليها، لا سيما أن أوكرانيا تجمعها حدود برية مع رومانيا والمجر وسلوفاكيا، وتقابلها بلغاريا بمدخلٍ إلى البحر الأسود، بحسب وجهة النظر الغربية

والشهر الماضي، قال ينس ستولتنبرغ، بعد قمة استثنائية لزعماء دول الناتو في بروكسل: “إن غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا غيَّر الحالة الأمنية للحلف على المدى الطويل. إنه واقع جديد، وحلف الناتو يتعامل معه”.

فقد دفع الهجوم الروسي، الذي تصفه موسكو بأنه عملية عسكرية خاصة هدفها منع عسكرة أوكرانيا بينما يصفه الغرب بأنه غزو لأوكرانيا دون مبرر، حلف الناتو إلى وضع عددٍ غير مسبوق من القوات والطائرات والمركبات العسكرية في حالة تأهب.

ونشر التحالف 40 ألف جندي على حدوده الشرقية إلى جانب ما أرسله من معدات جوية وبحرية. ولفت ستولتنبرغ إلى أن بوتين قال إنه يريد انسحاب الناتو من مواقعه في الشرق، إلا أن غزوه أوكرانيا دفع عدداً أكبر من قوات التحالف إلى الاحتشاد عند عتبة داره بدلاً من الانصراف عنها.

وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي صرَّح في عام 2019 بأن الناتو يعاني “موتاً دماغياً”، إن الحلف قد بُعث إلى الحياة مرة أخرى، وإن “الناتو قد تلقى للتو صدمة كهربائية” أعادته إلى وعيه.

تضم قاعدة ميهايل كوغالنيتشيانو الآن نحو 3 آلاف جندي، منهم نحو 1900 جندي أمريكي، انتقل بعضهم للتو من ألمانيا. وتضم القاعدة مكتب بريد ومسرحاً ومخازن. ووصفها ماركوس فيشتل، المتحدث باسم الجيش الأمريكي والمتمركز حالياً في رومانيا: بـ”أنها مدينة”. ورجَّح مسؤولون أمريكيون وفرنسيون انتقال المزيد من الجنود إلى القاعدة في الأشهر المقبلة.

وقال الكولونيل مينغوت إن الناتو بدأ الأسبوع الماضي في نشر قوات في أنحاء أخرى من رومانيا ضمن مناورات عسكرية واسعة النطاق، كما أن بعض القوات قد تتمركز في قواعد عسكرية أخرى في جميع أنحاء البلاد.

في بلدة ميهايل كوغالنيتشيانو القريبة، انقسمت آراء السكان المحليين بشأن احتشاد الجنود في القاعدة؛ يرى بعضهم أن روسيا لطالما كانت خطراً بعيداً، إلا أن غزوها أوكرانيا المجاورة استدعى مخاوف من هجوم وشيك على الأراضي الرومانية.

وقالت رامونا كودرين، التي تمتلك متجر بقالة في البلدة، إنها مستبشرة بحماية الناتو؛ إذ “لو لم تكن القاعدة هنا، لكان الخطر أشد”.

ومع ذلك، فإن مواطنين آخرين يعارضون هذا الرأي. ويقول فاسيلي دياكونيسكو، وهو شاب يعمل بتوصيل الطلبات، إن الحضور العسكري الجديد أجَّج التوتر وصبَّ وقوداً على النار. على الجانب الآخر، قال جندي فرنسي استُدعي إلى المنطقة للانضمام إلى قوات الناتو: “نحن هنا لنبقى”.

هل أصبحت أوروبا أكثر أمناً؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال من المهم الرجوع إلى الأزمة الأوكرانية، التي تحولت بالفعل إلى الحرب الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، فتلك الأزمة بالأساس أزمة جيوسياسية يمكن تلخيصها في وضع أوكرانيا الجغرافي.

فبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، حصلت أوكرانيا على استقلالها عام 1991، بعد إجراء استفتاء لمواطنيها للاختيار بين البقاء ضمن الاتحاد الروسي (روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا) أو الاستقلال كأمة أوكرانية، وصوّت 90% من السكان لصالح الاستقلال. وفي عام 2004، اندلعت ثورة البرتقال في أوكرانيا، وأطاحت بالرئيس يانكوفيتش لصالح يوشتشنكو (الأول أقرب لروسيا والثاني أقرب إلى الغرب). وبدأت مرحلة جديدة من التقارب في العلاقات بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

لكن انتخابات 2010 أعادت يانكوفيتش إلى رئاسة أوكرانيا، وبدأ يتخذ إجراءات لوقف التعاون مع الاتحاد الأوروبي، في ظل وجود انقسام واضح داخل أوكرانيا بشأن مستقبل البلاد بين فريقين، الأول يميل إلى الغرب ويريد الانضمام لحلف الناتو وقاعدته الرئيسية في الأقاليم الغربية من البلاد، والثاني يريد التقارب مع روسيا والانضمام لها رسمياً وقاعدته في الأقاليم الشرقية التي يتحدث أغلب سكانها اللغة الروسية كلغة أولى.

ومطلع عام 2014 اندلعت ثورة ضد الرئيس يانكوفيتش، على غرار ثورة البرتقال التي كانت أيضاً داعمة للتقارب مع الغرب، لكن الرئيس وقوات الأمن الأوكرانية استخدموا العنف- عكس ما حدث في ثورة البرتقال- فسقط نحو 100 قتيل برصاص قناصة تابعين للأمن الأوكراني، وفي النهاية هرب يانكوفيتش من العاصمة كييف واتجه نحو الشرق.

وتولى زعماء المعارضة الحكم خلفاً ليانكوفيتش وأصدروا أوامر باعتقاله ومحاكمته بتهمة قتل المتظاهرين، لكن موسكو اعتبرت السلطة الجديدة في كييف “تمرداً مسلحاً” واستدعت سفيرها للتشاور. في المقابل، وجدت السلطة الجديدة في كييف دعماً متواصلاً من أوروبا الغربية والولايات المتحدة.

وأعلنت الأقاليم الشرقية في أوكرانيا عدم اعترافها بالحكومة المركزية في كييف، ومن تلك الأقاليم شبه جزيرة القرم ودونباس وغيرهما. واشتد القتال في تلك الأقاليم بين القوات الحكومية الأوكرانية من جهة والقوات الانفصالية من جهة أخرى، وأعلنت حكومة إقليم القرم الانفصال عن أوكرانيا وإعلان جمهورية القرم المستقلة، ومن ثم الانضمام إلى الاتحاد الروسي.

وقبل اندلاع الحرب الحالية، طلبت روسيا من الولايات المتحدة ضمانات قانونية مكتوبة بأن أوكرانيا لن تنضم أبداً إلى حلف الناتو، إضافة إلى سحب الحلف العسكري الغربي أسلحته الهجومية من دول شرق أوروبا كبولندا والمجر، على اعتبار أن وجود تلك الأسلحة يمثل تهديداً لروسيا لا يمكنها قبوله.

وينطلق موقف بوتين من حقيقة تقديم الأمريكيين وعداً قبل أكثر من ثلاثين عاماً بأن حلف الناتو لن يتمدد في شرق أوروبا، وهو ما لم يحدث بالطبع؛ إذ ضم الحزب دولاً كثيرة من أوروبا الشرقية والباب مفتوح لانضمام أوكرانيا أيضاً.

وبالتالي فإن حشد حلف الناتو للمزيد من قواته في أوروبا الشرقية بالقرب من حدود روسيا قد لا يكون الحل الأمثل لضمان الاستقرار والأمن في أوروبا، بل يقربها أكثر من خطر الحرب الشاملة، بحسب الخبراء الاستراتيجيين.

.