من تفاصيل ثقافة منهارة .. المفكر الرقاصة

عنوان الكتاب الذي صدرت طبعته الثانية أخيرا عن دار الأدهم للكاتب د. أيمن بكر، وهو الكتاب الذي يدخل في إطار النقد الثقافي، حيث رأى مؤلفه أنه محاولة تسعى للانضمام إلى محاولات تنظيرية تفسيرية متكاثرة هدفها فهم الواقع الثقافي المصري والعربي، الواقع الذي يتفق كثيرون من المنظرين ـ رغم تنوع تفسيراتهم ـ أنه واقع ثقافي يعبر عن حالة انهيار على مختلف الأصعدة.

والمفكر الرقاصة وفقا للمؤلف هو “المفكر الذي يستخدم بصورة أساسية لفكر وفلسفة جاهزة أنتجتها حضارات أخرى، منها المعاصرة ومنها الماضوية ـ مفكر يتعامل مع مادة الفكر ضمن تشابكات سياسية معقدة ـ كلها تتحرك بصور متنوعة ناحية حيازة السلطة أو إعادة إنتاجها ـ بوصف مادة الفكر هذه وسيلة للتدرج في أبنية السلطة الموجودة في الثقافة التي يقع ضمنها هذا المفكر.

الأفكار في هذه الحالة أشبه بساحة الرقص التي يمارس فيها هذا المفكر رقصا / لعبا / هزلا، وما يمكن أن ينتج عن هذا الرقص هو حالة من الاضطراب التي تزداد صعوبة الكشف عن بواعث وجودها، أو إمكانية إصلاحها نتيجة ما يمارسه المفكر من التواءات فكرية أشبه بحركات الرقص التي تهدف إلى إبراز ليونة الجسد / الفكر. والفكر الناتج يداعب ـ كما في مفهوم الرقاصة الشعبي ـ قدرات الفهم، ويحرك ويستفز طاقات التأوييل ناحية مادة فكرية تتميز بدرجة عالية من الاضطراب بما لا يتيح مساحة أكبر لفرص التأويل غير المشروع، أو لنقل إساءة التأويل، لا تفضي لغير خواء فكري ونفسي، إلى وهم كالسراب، لذلك فهي مساحة نشاط عقلي جدباء لا تنبت فهما مبدعا للعالم أو الثقافة، تماما كالرقاصة بالمعنى المعجمي، إذ تبقى أرض التمثل الفكري المبدع لدى هذا المفكر منفصلة بصورة شبه تامة مهما مطرت هذه الأرض بالأفكار، تبقى القدرة على تحويل الأفكار إلى طاقة تحليل تهدف بصورة أساسية إلى التفسير والفهم، قدرة غير موجودة”.

ويضيف أن “الرقاصة أيضا صيغة مبالغة على زنة “فعَالة” من مثل “علامة” و”فهَامة” وهو الشخص الذي يتخطى قدراته فيما يفعل العادي المألوف، فهو متمكن بصورة تستدعي المبالغة، والمبالغة تشكل جزءا مهما من مفهوم المفكر الرقاصة، فهو موهوب بصورة خاصة في مناقضة الجد، في التمويه واختراع الأفكار السرابية، في الايهام بالخصوبة، إنه مفكر لا يقف عند حدود ولا يردعه رادع عن المضي في التخليط، وصنع مركبات فكرية تبدو متماسكة على المستوى الظاهري، في حين لا تحقق أبسط شروط التماسك أو التجانس الفكري على المستوى العميق. إنه رقاصة بمعنى المبالغة لما يضطر إليه من مواجهة الانتقادات بالمزيد من الرقص، إنه ليس راقصا عاديا، هو “رقاصة” له قدرات فوق المعتاد على مستوى مهارة الرقص الفكري”.

ويرى المؤلف أن المفكر الرقاصة مرتبط بالسلطة السياسية الغاشمة، فهو غالبا ما يمثل أحد أركانها، إذ يلعب دور الأداة الطيعة للتمويه على الشعوب المنتهكة، هنا يتبدى الرقص في أوضح صوره إبداعا، تتبدى القدرات الخاصة غير العادية للرقص الفكري، إذ يتفاوت تمويه ولعب المفكر الرقاصة بحسب تصورات واستراتيجيات النظم التي يقع ضمنها، فهو يتحرك على كل المستويات الفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولأنه يعي تماما وضعه كرقاصة لن يقدم سوى فكر جديب موهم متماسك فقط على مستوى السطح، ولأنه محدد جدا على مستوى أهدافه، فهو لا يخجل من التحول الفاضح بين المواقف الفكرية التي تصل أحيانا حد العداء فيما بينها، فمن ماركسي إلى داعية إسلامي، ومن مناد ملتهب الحماس بالاشتراكية إلى رمز من رموز الفكر الرأسمالي، ومن مؤيد أن العلمانية لا تتعارض مع جوهر الدين إلى مشيطن للعلمانية ومساو إياها بالكفر ومعاداة الله شخصيا، ومن مدافع عن حرية نشر الصور العارية في بعض الجرائد إلى مناد بتفريق زوجين من المفكرين المخلصين لمخالفتهما ما قاله الله ورسوله كما يفهم هو، ومن مدافع عن حرية الابداع إلى منافح عن ثوابت الأمة.. إلخ. وهو لا يخجل من مثل هذه التحولات لأنه يمارس دوره كرقاصة بوعي كامل”.

يقسم المؤلف الكتاب إلى ثلاثة ملفات، يتصل الأول بالنخبة العربية والأمراض التي توطنت فيها، أو ربما الأمراض التي تعبر بصورة مركزة عما أصاب الوطن ككل من علل متفرقة وباهتة، وفي هذا الملف يوضح مفهوم المفكر الرقاصة باعتباره الأكثر تعبيرا عن حالة المثقف العربي في هذه اللحظة التاريخية الملتبسة، مؤكدا أن الأمر لا يدخل في إطار السخرية أو التهكم وإنما يسعى بجدية لإيجاد توصيف دقيق للحالة.

والملف الثاني يتصل بعلاقة الثقافة العربية بالآخر، والملف الثالث يتناول قضايا ثقافية متفرقة تتصل كلها باللحظة التاريخية الراهنة في الثقافة العربية عامة ومصر خاصة، من مثل أزمة القضاة المصريين، وحالة الغناء العربي سواء ما يتصل بالموجة التي تكتسح الفضائيات العربية، أو ما يتصل منها بالغناء البديل الذي أظنه العامل الأعمق في إشباع حاجات الشعوب العربية من الغناء والموسيقى.

.