لبنان وإعادة بناء الدولة

أحمد الجمال

كل ما في أحوال اللبنانيين يدعو إلى التغيير. وأقل ما يفعله السياسيون هو سد الطريق إلى التغيير.

وفقاً للأمم المتحدة، تسبب انفجار بيروت، والمستويات القياسية الجديدة للإصابات والاقتصاد المنهك، في زيادة غير مسبوقة في معدل الفقر في لبنان.
وجاء في نداء للتضامن من اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا): “يقدر أن أكثر من 55 في المائة من سكان البلاد محاصرون في براثن الفقر ويناضلون من أجل أكثر ما هو ضروري، أي ضعف ما كان عليه في العام السابق (28 في المائة)”.
ووفقاً للإسكوا، يعيش حالياً ما مجموعه 2.7 مليون شخص تحت خط الفقر الأعلى.
وتصف لجنة الامم المتحدة تآكل الطبقة الوسطى التى انخفضت من 57 فى المائة الى اقل من 40 فى المائة خلال العام الماضى . انخفضت نسبة الأغنياء من السكان اللبنانيين من 15 في المئة في عام 2019 إلى خمسة في المئة في عام 2020.
ووفقاً للإسكوا، فإن لبنان هو أحد البلدان التي احتـد فيها التفاوت الاجتماعي. ووفقاً لهذا، كان لدى أغنى 10 في المائة من السكان حوالي 70 في المائة من الثروة الخاصة للبلاد في عام 2019، والتي تقدر بنحو 196 مليار يورو، وأكمل إن البلاد بحاجة ماسة إلى إصلاحات اقتصادية تضمن “نظاما عادلا وتقدميا للمسؤولية المشتركة”.

وقف الدعم
وقع خبر توجّه مصرف لبنان إلى وقف دعم الوقود والقمح والدواء والمستلزمات الطبية كالصاعقة على اللبنانيين، بينما الحكومة المستقيلة ووزراؤها كانوا على علم مسبق بكارثةٍ تنذر بمجاعةٍ حقيقيةٍ شاملة.
و أكدت مصادر بمصرف لبنان أن المجلس المركزي راسل الحكومة اللبنانية قبل استقالتها، وأعلمها أنه سيوقف الدعم، لمنع نزول الاحتياطيات من دون 17.5 مليار دولار، وهو مستوى الاحتياطي الإلزامي خلال مدة أقصاها ثلاثة أشهر، بعد تآكل إجمالي احتياطياته.
وكان المصرف، وعلى الرغم من تدهور سعر صرف الليرة بالسوق الموازية إلى مستويات 7000 ليرة للدولار حاليّاً، قد أبقى على السعر الرسمي عند 1507.5 ليرة للدولار، ما سمح للموطنين بالاستمرار في تسديد قروضهم على السعر الرسمي المنخفض ودفع بوالص التأمين وأقساط المدارس والجامعات.
كما أقرّ المصرف، وبضغط من الحكومة، آلية دعم لاستيراد المواد الأساسية وسلة غذائية كشبكة أمان في بلدٍ أصبح 55 في المئة من سكّانه فقراء، حسب التقرير الأخير لمنظمة الإسكوا.
وبالطبع، سيُعقّد رفع دعم المواد الأساسية الوضع الاقتصادي والمعيشي، في بلد يُعاني تشابك أزمات مترابطة عدّة: جائحة كورونا، والأزمة الاقتصادية، وتعثّر الدولة، وانفجار مرفأ بيروت، إضافة إلى أزمة سياسية خانقة أدّت إلى استقالة الحكومة.

كل ما في أحوال اللبنانيين يدعو إلى التغيير. وأقل ما يفعله المتلاعبون بلبنان من اللاعبين فيه هو سد الطريق إلى التغيير.
والمقصود ليس تغيير بعض التوازنات داخل السلطة والنظام بين أمراء الطوائف، فهذا حدث غير مرة بعد أحداث عاصفة، بل التغيير الذي يفتح النظام المغلق أمام الطاقات الشعبية الجديدة. تغيير اللعبة في النظام السياسي والسياسات المالية والاقتصادية وإعادة تكوين السلطة في دولة مواطنين.

النظام السياسي فاشل
إن الانفجار الذي وقع في الرابع من أغسطس/ آب 2020 في مرفأ بيروت لم يكن مجرد حادثة. إنه المظهر الأخير لفشل الحكم الكبير في النظام السياسي الذي يتغلغل بعمق في معظم مؤسسات الدولة وإداراتها، إن لم نقل جميعها. إنه النظام ذاته الذي تسبّب بأزمة النفايات والانبعاث السام من محطات الكهرباء وحرائق الأحراج، ومؤخراً الأزمة المالية.

هذا النظام الذي صنعته الأحزاب السياسية الحاكمة ورسّخته على مدى 30 عاماً لم يفشل فقط بالإتيان بمسؤولين حكوميين وتمكينهم لتوفير الخدمات العامة وحماية المواطنين، بل تم توظيفه لخدمة المصالح الضيقة للزعماء السياسيين ومقربيهم وزبائنهم. وقد قام هذا النظام على توزيع مناصب الدولة ومؤسساتها على مختلف الأحزاب السياسية وتقويض آليات المحاسبة. في المحصلة، إن المنظومة السياسية التي حكمت لبنان على مدى الأعوام السابقة هي المسؤولة عن هذا الانفجار الضخم.
في مقال للمركز اللبناني للدراسات يقول لو وضعنا جانباً المسبب، انفجاراً كان أو هجوماً، فإن مجرد تخزين 2750 طناً من نترات الأمونيوم بالقرب من مدينة مأهولة لمدة سبع سنوات ينمّ عن الفشل الذريع في الحوكمة السياسية والإدارية.

لقد جاءت استجابة الدولة في إدارة الأزمة مخيبة للآمال. فهي فشلت في حماية موقع الجريمة من التلاعب، وكانت بطيئة جداً في بحثها عن الضحايا، كما لم تضع أياً من المسؤولين الرئيسيين تحت الإقامة الجبرية فوراً. ونظراً إلى طبيعة النظام السياسي وعجزه عن تحميل المذنبين المسؤولية بصورة عامة، لم تكن الإجراءات المتخذة حتى اللحظة موضع ثقة أو مصداقية. وفي الوقت الذي يطالب فيه الناس بتحقيق دولي، يتعين على لبنان تشكيل لجنة وطنية مستقلة تضم أشخاصاً أكفاء وأهلاً للثقة، توضع بتصرفهم الموارد اللازمة، يمكنهم الاستعانة بالخبراء الدوليين لدعم عملهم.

عدا عن ذلك، لم نلمس أيّ مسعى جدّي من الحكومة لتصارح شعبها بحجم الأضرار وبحالة البحث عن الضحايا وبمن يجب الاتصال للحصول على الدعم. وفي هذه المرة أيضاً تُرك الناس وحيدين لإسعاف ضحاياهم واستجداء المعلومات عن مفقوديهم وإزالة الركام عن أثاث منازلهم وسط الظلام، ومغادرة منازلهم بدون حماية في ساعات الليل المتأخرة. وعندما تقاعست الدولة، قيادةً وأجهزةً عامة، عن مسؤولية الاعتناء بالمواطن، وجد اللبنانيون الدعم في جيش من المتطوعين والمنظمات غير الحكومية والناشطين والنقابات في محاولة لملء الفراغ الكبير الذي خلفته الدولة.

لقد لجأت الدولة التي أفرغها قادتها السياسيون على مدار السنوات من أي سلطة فعلية إلى أدواتها المعتادة للاستجابة للأزمة، فاستدعت شركات ذات ارتباطات سياسية لتزيل الركام وتمسح الأضرار. في أعقاب هذه الكارثة، نتيقّن مرة جديدة من أن الدولة تفتقر إلى أدنى الإجراءات الفعالة (أو إذا كانت فعالة فهي ليست مطبقة)، أو الأدوات أو المعدات أو التدريب للتعامل مع هكذا مصيبة. لا مجال للأعذار هنا. فلبنان يملك الموارد البشرية والمالية لفعل ذلك، غير أن نخبه الحاكمة قررت عدم توظيف الأشخاص المناسبين أو شراء المعدات أو حتى استخدام تلك المقدمة على شكل هبات. والادعاء بأن لبنان لا يملك الموارد هو أيضاً كذبة: فالقادة قرروا عدم جباية الضرائب أو لم يوقفوا التهرب الضريبي أو أعفوا بعض القطاعات من دفعها أو لم يفرضوها على الشرائح المناسبة من المجتمع لتوليد ما يكفي من الإيرادات لبناء دولة قادرة.

وفي سياق الاستجابة للكارثة، سارع رئيس الوزراء (المسقيل الآن) على غرار أسلافه إلى طلب الدعم الخارجي. فلبنان بأمسّ الحاجة إلى الأموال العاجلة لإعادة إعمار بنيته التحتية. غير أن الحكومات المتعاقبة منذ العام 2003 لم تحصل على التمويل الموعود بسبب رفضها السير في طريق الإصلاح. وفي الآونة الأخيرة، لم تلتزم الحكومة ببرنامج الإصلاحات المنصوص عليه في مؤتمر “سيدر”، مع أن ذلك يشكل الشرط الأساسي لتحصل على مبلغ الـ 11 مليار دولار أمريكي الذي تعهد المانحون الدوليون بتقديمه إلى لبنان لإعادة إعمار بنيته التحتية. كيف لنا إذاً أن نثق بالسلطة نفسها لإدارة أموال المساعدات من أجل إعادة إعمار نصف المدينة الذي دُمّرت بفعل الانفجار؟

لهذه الأسباب، يجب أن تمرّ جهود المساعدة والإغاثة وإعادة الإعمار الدولية بمنظمات مستقلة أو غير طائفية أو دولية لكي تصل إلى من هم بأمس الحاجة إليها. ولا يمكن في أي حال من الأحوال إرسال الأموال عن طريق مؤسسات الدولة تجنباً لإساءة استخدامها واستغلالها بشكل ضمني لتخفيف الضغوط من أجل تنفيذ الإصلاحات اللازمة.

في أعقاب الانفجار الذي أطاح بما تبقى من ثقة في الحكومة والدولة والزعماء السياسيين وبدّد آمالاً كثيرة، رأينا عدداً من اللبنانيين يطالبون بشكل مباشر أو غير مباشر بالتدخل الأجنبي من منطلق اليأس الذي وصلوا إليه. ومن المهمّ هنا أن نتذكر أنّ النظام السياسي المتهالك تأسس في ظل التدخل الأجنبي، ولا يمكن لبناء دولة فعالة وعادلة ومسؤولة إلا أن يكون مشروعاً وطنياً بحتاً.

يجب أن يشكل الرابع من أغسطس آب منعطفاً حاسماً، فالمنظومة السياسية البالية لم تعجز فقط عن توفير ما يحتاج إليه المواطن، بل قتلت بفعل إهمالها وفسادها أحباء لنا، وشردت آخرين ودمرت الممتلكات والمصالح التجارية. والأسوأ من ذلك أن هذا الانفجار حطّم أحلام وآمال الكثيرين.

يدّعي القادة السياسيون الذين لم يتحملوا أي مسؤولية ولم يقرّوا بالأسباب الحقيقية لهذه الفاجعة بأنهم لم يكونوا على علم أو ألقوا بالمسؤولية على عاتق غيرهم. وسرعان ما سيلجئون إلى الخطاب المذهبي ليدّعوا بأنهم هم حماة أعضاء الطائفة. وهذا كذب. هذه العقلية بالتحديد وما استتبعها من أفعال هي ما أوصلت لبنان إلى شفير الهاوية.

من أجل إعادة بناء لبنان، نحن بحاجة إلى حكومة انتقالية لا تضم أصحاب الكفاءة وحسب بل أشخاصاً ذوي رؤية حول كيفية معالجة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتداخلة. ولا بدّ من منح هذه الحكومة صلاحيات تشريعية وإلا ستصبح رهينة للأحزاب السياسية الفاشلة في البرلمان. لكن ذلك وحده لا يكفي على الرغم من ضرورته. فينبغي أن يواصل الناس تنظيم أنفسهم وأن يعيدوا بناء نقاباتهم واتحاداتهم التي تشكل ركيزة من ركائز المجتمع الديمقراطي. وعلى وجه الخصوص، لا بدّ للناس من أن يتغلبوا على خوفهم من الطبقة السياسية ومن الزعماء وشبّيحتهم الذين عاملوهم كزبائن وليس كمواطنين يتمتعون بحقوق. ولا بدّ أن يتحلى عدد أكبر من الناس بالشجاعة للوقوف في وجه النخب الفاسدة التي لا تشكل عائقاً أمام بناء الدولة فحسب، بل أيضاً مصدراً للبؤس والفقر. لا سبيل آخر سوى ذلك.

.