سقوط الامبراطورية

هل تسقط أمريكا كما سقطت الدولة الرومانية؟

تقديم : محمد عبد المنعم

خلل اجتماعي .. فساد .. تعدد ثقافات .. بناء قواعد عسكرية علي أراضي دول أخري والاعتقاد بأن هناك مهمة ورسالة يجب عليها أن تبشر بها وتنشرها في العالم، هي كلها مظاهر تجمع بين الإمبراطورية الأمريكية وبين الإمبراطورية الرومانية القديمة التي هيمنت علي العالم لما يقرب من ستة قرون.

في هذا الكتاب “هل نحن روما؟ قصة سقوط إمبراطورية ومصير أمريكا” ، يعرض الكاتب الصحفي الأمريكي كالن ميرفي في مجلة “فانيتي فير” الأمريكية موضوعا مثيرا للغاية اذ يتعرض لعوامل تحلل وسقوط الإمبراطورية الرومانية القديمة ويعقد مقارنات عدة بينها وبين الإمبراطورية الأمريكية ليطرح تساؤلا هاما في 272 صفحة هي عدد صفحات الكتاب وهو: هل تسقط أمريكا مثلما سقطت روما؟

يقول المؤلف في أحد اللقاءات الثقافية التي أعدت للترويج لكتابه أن هناك انطباع عام بأن أمريكا أصبحت إمبراطورية تشترك في كثير من الخصائص مع الإمبراطورية الرومانية لكن لا يوجد إجماع أمريكي في الموقف العام من ذلك. فهناك فريق في مقدمته الرئيس المحافظين الجدد يرى أن الوقت قد حان لكي يكون العالم كله أمريكيا و يرغب في فرض إملاءاته علي العالم بالطرق التي يريدها.

أما الفريق الآخر فهو علي النقيض تماما إذ يدعم سياسة خارجية متواضعة.

إمبراطورية روما ونظيرتها الأمريكية

بداية .. فان ميرفي يوضح في مقدمة كتابه أن هناك بعدين للتشابه بين الإمبراطوريتين مؤكدا أن النقاش والمقارنة مع الإمبراطورية الرومانية كان موجودا في المجتمع الأمريكي منذ وقت طويل ، البعد الأول في أوجه التشابه هو بعد تاريخي، فالإمبراطورية الرومانية كانت ملكية في البداية ثم تطورت عبر الزمن إلي جمهورية أما أمريكا فهي جمهورية انبثقت عن الملكية البريطانية. ويلفت المؤلف إلى الطراز المعماري للعاصمة الأمريكية واشنطن إذ أنه يمثل طرازا معماريا رومانيا خالصا ، أما البعد الثاني وهو بعد حديث يدور حول نشر جيش كلا الإمبراطوريتين في أنحاء مختلفة من العالم.

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبروز الولايات المتحدة في العالم باعتبارها القوى العظمي الوحيدة المهيمنة، ظهر النقاش والجدال حول تشابه روما وأمريكا من جديد.

يعدد المؤلف أوجه التشابه بين روما وأمريكا فكلاهما يعاني مما وصفه ب”التعفن الاجتماعي” وغياب الفضائل والأخلاق العامة في المجتمع الذي يعاني من التفرقة وعدم المساواة بين مواطنيه واتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية فتجد الطبقة المتخمة وطبقة تعاني الفاقة الشديدة والعوذ ، وفي روما كانت نسبة طبقة الصفوة للطبقة العادية خمسة آلاف إلى واحد ، بينما في أمريكا فإن الدخل المتوسط لأي مدير تنفيذي هو أربعمائة أضعاف دخل العامل العادي!.

الفساد استشرى، وفق مؤلف الكتاب، بمؤسسات كلا الإمبراطوريتين، والتي تم إضعافها بأشكال متعددة من الخصخصة ، فتجد أن المهام الحكومية توكل لشركات خاصة ، وتشترك الإمبراطوريتان في القدرة العسكرية والثقافية والاقتصادية والتكنولوجية الكبيرة التي خلقت نظاما يجبر العالم على السير بركبه.

من جهة أخرى كلا الإمبراطوريتين ترحبان بالمواطنين الجدد والمهاجرين من العالم ، وتبدي استعدادا لتقبل الآخر المختلف وحتى الدين المختلف .

كلا الإمبراطوريتين أيضا آمن من يقودهما بوجود رسالة معينة علي بلاده أن تبشر بها وتوصلها للعالم ، وفي هذا السياق فان قيصر روما وزعماء أمريكا عملوا علي نشر قواتهم العسكرية في دول مختلفة لتكمل هذه “الرسالة” وكأنهم  رسل لا يكتفون بالبلاغ وإنما يجبرون الناس علي الطاعة والامتثال لما يروه صائبا.

وبالطبع فإنهما أثناء ممارسة هذا الدور “الملائكي” لا يحملان للمجتمعات المستهدفة سوي نظرات الدونية التي تحط وتقلل من شأن ثقافاتهم وعقائدهم فالعالم بالنسبة لهم لا يضم سواهم ولا يهم أي رأي آخر، بحسب مؤلف الكتاب.

الخصخصة والفساد

تنبأ المؤلف بسقوط الإمبراطورية الأمريكية ، حيث أشار لخصخصة المؤسسات الحكومية عن طريق تكليف أفراد وشركات تجارية بتنفيذ المهام الحكومية باعتبارها مؤشرا مشتركا يعيد للأذهان التجربة الرومانية وينبئ بسقوط أمريكا ، حيث أظهرت دراسة أجريت بأواخر التسعينات لتضاعف تحول الوظائف الحكومية لخاصة ، حيث يقدر عدد الأفراد العاملين بالقطاع الخاص مع أدائهم مهاما حكومية فيدرالية بنحو 8,5 مليون شخص.

لم تكن الخصخصة شيئا جديدا يطرأ علي المجتمع الأمريكي بل كان نية مبيتة له ؛ ففي الثمانينيات، شكل الرئيس رونالد ريجان لجنة رئاسية مهمتها إلغاء الحدود بين الوظائف العامة والوظائف الخاصة ومنح القطاع الخاص كافة أشكال الدعم وهي نفس الرؤية التي حملتها إدارة بيل كلينتون في التسعينيات. وهكذا أصبح المواطن الأمريكي مضطرا لدفع مقابل مادي لخدمات كثيرة كان يحصل عليها بالمجان في الماضي مثل إحصائيات مكتب الإحصاء الأمريكي الذي كان يقدم خدماته للجميع بدون أي مقابل لكن معلوماته الآن أصبح ثمنها مرتفع بحيث لا تستطيع سوى الشركات الكبيرة دفعه.

ومن أمثلة الوظائف الحكومية التي تمت خصخصتها، الإشراف علي بنية الطرق السريعة والتفتيش الغذائي ومراقبة وتأمين الحدود وحتى حماية النفايات النووية.

ويقول المؤلف أن هؤلاء الموظفين الذين يؤدون هذه الأعمال تنقصهم الخبرة كما أنهم غير أكفاء فلا يوجد ما يشغل بالهم سوى كيفية زيادة أجورهم دون أي اعتبار للمصلحة العامة ، ويضرب مثالا على ذلك بفشل الهيئة الفيدرالية لإدارة الطوارئ ـ التي يعمل بها أشخاص تم تعيينهم وفقا للانتماءات السياسية رغم عدم خبرتهم – في الاستجابة السريعة لإعصار كاترينا فكانت النتيجة كارثية.

وأشار الكاتب لكتاب آخر نشر عام 1976 بعنوان “حكومة الظل” حذر فيه المؤلفان دانييل جاتمان وباري ويلنر من انتقال الوظائف الحكومية للمستشارين التجاريين ومراكز الأبحاث السرية التي لا يحاسبها أحد لتتحول بذلك قطاعات حكومية كاملة إلي تجارة.

المرتزقة .. جيش مأجور خدم أمريكا وروما!

محور آخر يتضمنه هذا الكتاب المثير وهو محور طالما تحدث فيه الإعلام وهو جيش المرتزقة الذي جمعته الولايات المتحدة من شركات عسكرية خاصة ليحارب معها في العراق.

ونظرا للرؤية المختلفة التي تنظر بها قيادة الإمبراطوريتين للجيش باعتباره أداتها لإكمال نشر أفكارهما في العالم، فإنهما كانا في حاجة إلى جنود مأجورين يقاتلوا جنبا إلى جنب مع الجيش الأصلي الذي لا يتناسب حجمه مع المهام المطلوبة منه. ويشبه المؤلف هذا الدور بالدور الذي لعبه المقاولون والتجار في عهد قيصر روما حيث دأبوا علي مرافقة القادة العسكريين في الحروب وإمداد الجيش بما يحتاجه والقيام بأي خدمات أخري مقابل أجر كبير يتناسب مع قدر المخاطرة التي يتحملونها.

يقول المؤلف “في عام 1960 كان عدد ضباط الشرطة يزيد بكثير عن حراس الأمن المأجورين أما الآن فقد أصبح عدد الحراس المأجورين ضعف عدد ضباط الشرطة بعدما أصبح قطاع الأمن الخاص قطاعا رائجا ينمو بسرعة كبيرة في المجتمع الأمريكي.

حتى أكثر وأخطر المهام السرية المرتبطة بالمخابرات الأمريكية من أعمال ترجمة ومراقبة اليكترونية وتحقيقات وتحليلات وتقارير وملخصات توكل إلى شركات خاصة هادفة للربح.

ويذكر المؤلف أن هناك ما لا يقل عن 90 مسئولا سابقا في وزارة الأمن الداخلي وفي مكتب الأمن الداخلي في البيت الأبيض يعملون حاليا في شركات خاصة.

وينقل المؤلف عن أحد المحللين بجامعة جونز هوبكنز قوله أن حجم المقاولين زاد بشكل يصعب معه الادعاء بأن الحكومة لها أي سيطرة عليهم. ويدلل ميرفي علي هذا التحليل بقوله أنه لو كانت الإدارة الأمريكية لها أي سيطرة علي هذه الشركات الخاصة التي توكل إليها أعمالا كبيرة وهامة ليس علي الأراضي الأمريكية فحسب بل في العالم كله، لما كان الفساد سيستشري بهذه الصورة في عمليات إعادة إعمار العراق التي شاركت فيها شركتي بيكتل وهاليبرتون؛ فالشركات الخاصة معفاة من كثير من القوانين التي تلزم الشركات الحكومية وعلي هذا الأساس لم تمنع العقوبات الأمريكية الرسمية علي إيران وليبيا والعراق ( قبل الحرب) شركة هاليبرتون من القيام بعمليات تجارية عبر شركات تابعة لها مع هذه الدول الثلاث المغضوب عليها.

الحدود والموانئ والجامعات .. ادارات تجارية

وينتقد ميرفي تفكير الإدارة الأمريكية في إعفاء شرطة حرس الحدود من مهمتها واستبدالها بمقاولين متعددي الجنسيات.

فقد ظل الأمريكيون منشغلين وغافلين عن خصخصة الوظائف الحكومية إلا أنهم سرعان ما هبوا لوقف صفقة كانت ستتولى بموجبها شركة “دي.بي وورلد” الإماراتية إدارة نصف كبري الموانئ الأمريكية. هذه الهبة كشفت لهم أنهم كانوا في سبات عميق .. غافلين عن خصخصة عمليات الإشراف ومراقبة الموانئ التي بدأت منذ ثلاث عقود حتى بات الآن حوالي 80% من الموانئ الأمريكية تحت إدارة شركات أجنبية وعلي رأسها الشركات الصينية.

لم تسلم أي من أنظمة المياه والمجاري ولا المطارات أو المستشفيات العامة من سرطان خصخصة الوظائف الحكومية. حتى الجامعات الحكومية التي يفترض أن تدعمها الحكومة – كل حسب ولايته- تدهورت حالها وسحبت الجامعات الخاصة البساط منها لتتاجر في العملية التعليمية.

الطريف في الأمر أن وزارة الداخلية الأمريكية اقترحت فتح الباب أمام بيع أسامي المتنزهات العامة الأمريكية لمن يريد أن يستفيد من شهرتها وفي نفس الوقت من يدفع أكثر وكأنها بلد يعرض كل ممتلكاته في مزاد علني أو بلد يبيع نفسه.

ديموقراطية روما .. رشاوى ونفوذ ومصالح

علي الجانب الآخر تقف هناك بعض الاختلافات بين الإمبراطوريتين وهي الأمل الذي يعيش عليه بعض الأمريكيين ليدفعوا ببطلان النهاية الأليمة المتوقعة لإمبراطوريتهم بناءا علي أوجه التشابه الكثيرة – والتي تفوق الاختلافات- بينها وبين نظيرتها الرومانية.

من هذه الاختلافات نذكر أن الإمبراطورية الرومانية لم تكن لديها طبقة وسطي في المجتمع التي تعتبر أساس المجتمع الأمريكي ، كما لم تنتج روما أفكارا وعلوما للعالم بالقدر الذي أنتجته أمريكا وأصبحت بناءا عليه قبلة للعلوم والتكنولوجيا والإبداع ، ومن ضمن الاختلافات أنه من الناحية الاقتصادية كان اقتصاد روما ثابتا ومستقرا بينما الاقتصاد الأمريكي يتمتع بالحيوية والديناميكية.

روما قبل أن تصبح إمبراطورية كانت دولة لآلاف من السنين بينما أمريكا قضت 200 عاما فقط قبل أن تتحول لإمبراطورية عظمي.

علي مستوي الإدارة والحكم، لم تكن الإمبراطورية الرومانية إمبراطورية ديمقراطية مثل أمريكا وان كانت قد اتبعت أمثلة متواضعة للديمقراطية، وكانت عاصمة الإمبراطورية مكمن السلطة والنفوذ واعتمدت جميع المدن والأحياء علي سلطة ومواهب الطبقة العليا.

ومنذ حوالي 50 عاما، أجري المؤرخ البريطاني جيفري كروا من جامعة أكسفورد بحثا متعمقا في كلمة “سفراجيام” اللاتينية والتي تعني صندوق التصويت ليؤرخ للحياة السياسية والنظام السياسي في إمبراطورية الرومان ، ووفق هذا المعنى فان المواطنين في البداية كان لديهم الحق في ممارسة نفوذهم وتأثيرهم للتحكم في اختيار المرشحين لبعض السلطات ، وبالطبع كان لكبار رجال روما شبكات نفوذ واسعة مكنتهم من تحقيق إراداتهم ، لكن “سفراجيام” لم تكن تطبق علي نطاق التصويت فقط بل أيضا للحصول علي وظيفة أو للتأثير علي حكم قضائي، فكان يعد من قبيل التفاعل الاجتماعي الروتيني.

ثم تطور الأمر ودخلت الرشاوى والعمولات في اللعبة حتى أنه مع انهيار الإمبراطورية الرومانية لم يكن هناك أي عمل يتم بدون دفع رشاوى مالية وكان كل هدف الرومان العاملين في الوظائف الحكومية هو تحقيق أكبر مكاسب ممكنة وعرفت “سفراجيام” صراحة بعد ذلك بأنها رشوة.

يقول المؤلف ساخرا في لقاء ثقافي دار حول كتابه أن حجم التصفيق الحاد الذي يلقاه الرئيس في خطابات حالة الاتحاد State of the union يذكره بالناس كثيرة الهتافات الذين كانت تستأجرهم القيادات الرومانية للتصفيق لهم …

لكن السؤال الأخير للمواطن الأمريكي هو كم سيدوم التصفيق؟؟

.