رجل أوروبا المريض..

محمد عبد المنعم

رجل أوروبا المريض.. هكذا بات يوصف اقتصاد ألمانيا، الذي يئن تحت وطأة أزمات عدة، ولكن ما يتم تجاهله هو دور المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل أو ماما ميركل كما تلقب في نشوب هذه الأزمات.

لسنوات كانت المستشارة أنجيلا ميركل أيقونة غربية لا يجوز المساس بها، وينظر إليها كقائدة أوروبا الحصيفة، التي تعتمد سياسات مالية رشيدة في مواجهة تبذير بلدان فقيرة مثل اليونان وإيطاليا أو ديموغاغية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المولع بإشعال الأزمات، كما كانت تعتبر المرأة التي تستطيع التعامل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

نظر إليها كنموذج يظهر تفوق المرأة الفطري في الحكم على الرجل، ولكن مع اندلاع حرب أوكرانيا، في فبراير/شباط عام 2022، ظهر على السطح على استحياء حديث عن دورها في تشجيع هجوم بوتين على كييف، عبر منعها لفرض عقوبات حازمة على ضمه للقرم عام 2014، وربطها اقتصاد ألمانيا بالغاز الروسي، وتجاهل دعوات الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، لزيادة الإنفاق الدفاعي ومطالبته إياها بالحذر من الصين.

واليوم تتخلى ألمانيا بهدوء عن إرث ميركل فتحاول الاستغناء على الغاز الروسي، وتبتعد عن الصين، وتعزز إنفاقها الدفاعي عبر تخصيص مئة مليار يورو لتحديث جيشها الذي يوصف بالمترهل.

ألمانيا تحمل لقب رجل أوروبا المريض للمرة الثانية

أطلق على ألمانيا لقب رجل أوروبا المريض لأول مرة في عام 1998، بسبب وضعها الاقتصادي آنذاك.

في ذلك الوقت لم تكن الحكومة وشركات القطاع الخاص تكافح لتغطية التكاليف الهائلة لإعادة بناء ألمانيا الشرقية الشيوعية السابقة، التي أعيد توحيدها مع الغرب في عام 1990 فحسب، بل كانت بحاجة أيضاً إلى استعادة القدرة التنافسية، وإصلاح أسواق العمل ودولة الرفاهية، وتفكيك ومساهمات البنوك وشركات التأمين الخانقة للنمو في الشركات العملاقة في الصناعة الألمانية.

وكان صاحب الفضل الكبير في خروج اقتصاد ألمانيا من هذه الحالة هو التحالف الديمقراطي الاشتراكي-الخضر، بقيادة جيرهارد شرودر في الفترة من 1998 إلى 2005، حيث وضع ألمانيا على الطريق الصحيح من خلال مجموعة من الإصلاحات البنيوية، التي بلغت ذروتها في برنامج طموح يعرف باسم أجندة 2010. وكانت الحكومة ناجحة للغاية، حتى إنه بحلول عام 2014 نشر الاقتصاديون ورقة بحثية في مجلة المنظورات الاقتصادية بعنوان “من رجل أوروبا المريض إلى النجم الاقتصادي: اقتصاد ألمانيا المنتعش”.

الأزمة بدأت بسبب إدارة ميركل البخيلة للاقتصاد

 ومع ذلك، يشار أيضاً إلى نقطة حاسمة بشأن العواقب التي خلفتها فترة الإصلاح في الفترة من 1998-2005. بعد أن حلت أنجيلا ميركل محل شرودر كمستشارة، وحكمت في نهاية المطاف لمدة 16 عاماً حتى استقالتها في عام 2021.

من المؤكد أنها اضطرت إلى قضاء معظم فترة ولايتها في النضال من أجل الحفاظ على تماسك منطقة اليورو في مواجهة الديون الوجودية وأزمات القطاع المصرفي (مثل الأزمة المالية اليونانية).

ولكن فيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية المحلية، فشلت ميركل في البناء على إصلاحات عصر شرودر وتركت الأمور تنجرف.

وفي بعض النواحي، قامت بتخزين المشاكل للمستقبل من خلال الإصرار على الانضباط المالي الصارم، الذي يرمز إليه “مكابح الديون”  Schuldenbremse الذي تم إدراجه في عام 2009 في دستور ألمانيا.

وأدت مكابح الديون إلى خنق الاستثمار العام الذي تشتد الحاجة إليه في البنية التحتية، والتحول الرقمي، وغير ذلك من المجالات.

ميركل أدخلت برلين القرن الحادي والعشرين بصناعات القرن العشرين

أدت هذه السياسات لجعل ميزانية ألمانيا منضبطة بشكل استثنائي، وتحقيقها فوائض مالية لعدة سنوات (وهو أمر نادر)، وساعدت سياسات ميركل بما فيها الاعتماد على الطاقة الروسية الرخيصة، والانفتاح على الصين، على زيادة صادرات البلاد، خاصة من السيارات والماكينات، ولكن جعلها أسيرة للطاقة الروسية والأسواق الصينية، التي باتت أكثر صعوبة أمام شركات السيارات الألمانية العملاقة، مع صعود صناعة السيارات الصينية، وتوتر علاقات الغرب مع بكين.

الأهم أن صناعة السيارات الألمانية لم تستطع مجاراة تطور صناعة السيارات الكهربائية والبطاريات في الولايات المتحدة والصين، كما تتخلف برلين في ركب التكنولوجيا الرقمية عن الولايات المتحدة والصين وبعض نمور آسيا وشمال أوروبا.

ورغم ضخامة صادرات ألمانيا، فإن سياسة ميركل المحافظة قيدت الاستثمار في التكنولوجيا الجديدة، وأدخلت ألمانيا القرن الحادي والعشرين بصناعات القرن العشرين.

كما أن تركيز ألمانيا على صناعات تقليدية مثل السيارات والماكينات والكيماويات لا يتلاءم مع كونها بلداً ثرياً، معدل الأجور به مرتفع، وكان هذا العامل قد أخفي بفعل أسعار الطاقة الروسية الرخيصة، ولكن تبينت خطورته بعد غياب الغاز الروسي، حيث أصبحت تكلفة الإنتاج والصناعة مرتفعة على الشركات الألمانية التي تهدد بمغادرة البلاد.

هل فات الأوان على نجاة اقتصاد ألمانيا؟

الأمور لم تصل لنهاية حتمية، فمن كان يتوقع قبل ثمانية عشر شهراً أن تتخلص ألمانيا من اعتمادها الكبير على الغاز الروسي بهذه السرعة والحاسمة؟ لقد تسبب في الكثير من الاضطراب في الصناعة، لكنه حدث بالفعل.

ثانياً، كانت التحديات المرتبطة بإدارة إعادة التوحيد وإصلاح الاقتصاد في مطلع القرن العشرين هائلة، على الأقل مثل أي شيء تواجهه ألمانيا اليوم. وقد تعاملت ألمانيا مع تلك التحديات.

ولا يوجد سبب، من حيث المبدأ، يمنعها من القيام بنفس الشيء مرة أخرى، وهو ما قد يكون خبراً طيباً لأوروبا.

إن المتشائمين الذين يقولون إن ألمانيا تعاني من مشاكل عميقة، لأنها تعتمد بشكل كبير على الصناعات “القديمة الطراز” مثل سيارات الديزل والمواد الكيميائية، يخطئون في فهم الحقيقة.

وهي ليست العوامل الحاسمة التي تشكل الاقتصاد الألماني. وبدلاً من ذلك، فإن المحركات الحقيقية هي الأعداد الكبيرة من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي يقودها أصحابها في كثير من الأحيان. وتشكل هذه المحركات مجتمعة واحدة من أفضل محركات البحث للابتكار التي تم اختراعها على الإطلاق.

نقاط القوة ـ أيضا ـ التي تتمتع بها ألمانيا هي انخفاض الدين العام نسبياً، والذي قدر البنك المركزي الألماني أنه بلغ 66.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وانخفاض ديون القطاع الخاص، ونوعية النقاش في الدوائر السياسية والتجارية حول كيفية تحسين ألمانيا كدولة مستقلة، أو مكان للاستثمار والابتكار.