حرب بالوكالة في السودان

فاروق يوسف

دولة بجيشين هي بالتأكيد دولة برأسين. اما أن يُقال إن احدهما وطني فذلك أمر يصعب التثبت منه.

ولكن ما من ضرورة وطنية توجب إنشاء جيشين يتجسس أحدهما على الآخر من أجل أن لا يغلبه.

سيكون الدفاع عن حدود الوطن وهي المهمة الرئيسية للجيش غائبة لدى الطرفين اللذين يبني كل واحد منهما وجوده على حساب الآخر.

وجود جيشين يستدعي وجود وطنين وشعبين ومصيرين ومستقبلين وأرضين وسلاحين وقائدين.

بوجود جيشين على أرض واحدة فإن فكرة الحرب ليست مستبعدة. فالحروب هي مهنة الجيوش وإن كان هناك حديث عن الإعمار فإنه يرد من جانب الاستثناء لا القاعدة.

لم يخرج السودان من عنق الزجاجة ولن يتأتى له القيام بذلك لأسباب كثيرة في مقدمتها وجود جيشين.

كان متوقعا، بل هو أمر طبيعي أن يدخل الجيشان في حرب تقضي على أمل تحرر السودان من زمنه المغلق.

الحكاية تاريخية. لقد ترك جعفر النميري وراءه دولة معاقة، كانت الجماعات الدينية التي احتضنها في نهاياته تحيط بها بذئابها التي تتوق منذ زمن بعيد إلى التهام الفريسة.

هناك خلط للأوراق لم يستطع الشعب في غالبيته أن يفكك أسراره ويقبض على مفاتيحه. اما حين قفز حسن البشير إلى السلطة فقد كان مرشده حسن الترابي حاضرا لكي يرسي دعائم دولة دينية لم تتراجع حتى بعد أن تم التخلص من الترابي بنفيه إلى الدوحة.

في ظل الدولة الدينية ارتكبت الميليشيات وهي جيش لا ينقصه شيء أبشع المجازر في حق سكان إقليم دارفور. ما نفع أن يُحاكم البشير في الجنائية الدولية والميليشيات التي ارتكبت جرائمه لا تزال تعمل على الأرض.

هل كان البشير رأس الأفعى؟

أشك في ذلك. فالمسألة لم يخترعها البشير وإن تبناها. تتخطاه المسألة وتتخطى زمنه وهي تعود إلى موقف معاد لوجود دولة قوية قادرة على تصريف شؤون مواطنيها بإرادة مستقلة من غير أن يكون هناك خوف من جيش يمكن أن ينقلب عليها في أية لحظة.

لقد وعد العسكر المدنيين بالشراكة فإذا بهم يتقاتلون في ما بينهم. وهو ما يعني أن السودان غض النظر عن وعوده سيظل عاجزا عن ضبط ساعته. اما أن يرقد السوداني في انتظار فرج يأتيه من الغيب أو ينفجر ليصنع مشهدا انتحاريا.

ومَن يصدق أن حربا بين جيشي السودان يمكن أن تقوم من غير أن تكون هناك مصالح لدول كبرى فهو لا يعرف ما السودان. وقد تجهل الأغلبية من السودانيين وسط ذهول الحرب أن بلادها غنية بالمعادن النفيسة التي يسيل لها لعاب الدول الكبرى.

هل يلعب الجيشان دور الحرس الذي يدافع عن مصالح قوى مختلفة، بما يؤكد أن الحرب الأهلية بمفهومها التقليدي قد تم استبعاده لصالح حرب بالوكالة؟

السودان وشعبه هما ضحية تأريخه السياسي الحديث الذي تدخلت في بنائه مصالح دول قررت أن ترعى مصالحها في ذلك البلد بسرية مطلقة. الخلاف على السلطة مسألة يمكن تداركها من غير الدخول في حرب تعقد المشهد السياسي. فمن الثابت أن لا أحد سينتصر في الحرب. ولكن هناك مَن سيفرض شروطه. وهو بالتأكيد لن يكون سودانيا.

الجيشان أداتان لإستعمار من نوع مختلف. هو استعمار المصالح. غير أن هناك فجوة في حياة السودانيين تمنعهم من رؤية الحقيقة وهي الفجوة الدينية. يقف المتدينون بين السودانيين وبين رؤية الحقيقة لأنهم يستفيدون من صراع، يضعف القوى السياسية المحيطة بهم ويبقيهم أقوياء. يحلم الاسلاميون في الاستيلاء على السلطة للتفاوض مع الدول الكبرى لإدارة مصالحها في السودان.

يضحك البعض على نفسه حين يتخيل أن الصراع بين جيشي السودان انما هو جزء من الصراع على السلطة. لقد انتقل حميدتي والبرهان من المشاركة إلى الصراع المسلح. لم يقع ذلك بالصدفة. سلسلة من العلاقات المعقدة تقف وراء ذلك الصراع لا تم بصلة لصراع على السلطة يمكن أن يكون شعارا زائفا. فالسلطة مسألة حُسمت في ما بينهما منذ سنوات كما هو معروف.

بالحرب التي يخوضها جيشا السودان تضع الدول الكبرى مصالحها فوق مصير الشعوب. وما من حقيقة سياسية داخلية يمكن أن تكون دليلا للوصول إلى جوهر أزمة سودانية المعنى. أزمة السودانيين أنهم صاروا حرسا على أرضهم لمصالح الدول الكبرى وهو يحاربون دفاعا عن تلك المصالح.

.