الهوة تزداد بين أوروبا وأمريكا

أحمد الجمال

كتب بيتر راف، الباحث في معهد هدسون الأمريكي، تحليلًا حول تطلعات أوروبا للاستقلال عن أمريكا، خاصة مع استمرار ضغوط الإدارة الأمريكية ومحاولة فرنسا الاستقلال بأوروبا وتوفير مظلة نووية لها بدلًا عن الناتو. ويرى الباحث أن مشروع فرنسا يعاني من عدة نقاط ضعف، أولها أن حتى أكبر حليف لفرنسا في أوروبا – وهي ألمانيا – تنظر إلى الخلاف مع واشنطن على أنه شيء، والانفصال عنها كلية على أنه شيء آخر. كذلك يرى أن أوروبا الضعيفة في حاجة إلى أمريكا أكثر من حاجة الأخيرة إليها.

وقد عقد مؤتمر ميونيخ الأمني هذا العام تحت عنوان «عدم الاهتمام بالغرب». والمعنى المتضمن في الكلمة واضح: فالولايات المتحدة وأوروبا لا تتبنيان مواقف منفصلة ومتعارضة في كل شيء من الاتصالات إلى الطاقة فحسب، بل أنهما أبرزتا خلافات حادة فيما يتعلق باللبنات الأساسية للعلاقات الخارجية، أي كيف يجب أن يعمل النظام الدولي.

استطلاعات الرأي في ألمانيا تبدي معارضة لأمريكا

إذا كانت استطلاعات الرأي معبرة عن الواقع، فنحن في حالة انفصال بالفعل. ولم يكن هذا الشعور أكثر حدة مما هو عليه في ألمانيا، أهم بلد في أوروبا. ففي يناير نشر مركز «بيو» للأبحاث استطلاعًا أظهر أن 57% من الألمان يحملون وجهة نظر مناهضة تمامًا للولايات المتحدة. وفي  سبتمبر  ذكر المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن 70% من الألمان يريدون أن تظل بلادهم محايدة في أي صراع بين موسكو وواشنطن.

وتعد الدوافع الألمانية المعادية لأمريكا ظاهرة متعددة الجوانب وراسخة في الحياة الاجتماعية والسياسية. فبالنسبة لبعض الألمان، يُنظر إلى الرأسمالية على أنها بلا رحمة وبلا أساس، وتقضي على النظام الاجتماعي من أجل خدمة الجشع الفردي. وبالنسبة للآخرين فإن هيمنة الولايات المتحدة على الغرب تولد الاستياء، خاصة في عصر العولمة، عندما تؤثر أوهن الصدمات عبر المحيط الأطلسي على النتيجة النهائية بالنسبة لألمانيا أو تخرج دبلوماسيتها عن مسارها. 

أمريكا لا تهتم بالدبلوماسية متعددة الأطراف

غير أن الأهم من ذلك كله في نظر الكاتب هو أن ألمانيا تشعر بالفزع لأن الولايات المتحدة، وخاصة إدارة الرئيس دونالد ترامب، لا تشاركها احترامها للطموح المركزي لمؤتمر الأمن في ميونيخ: أي «الدبلوماسية متعددة الأطراف».

في الواقع إن الليبراليين – حتى في الولايات المتحدة – يشككون في تعددية الأطراف على النمط الأوروبي. وكما أوضح توماس رايت من معهد بروكنجز مؤخرًا فإن اليسار الأمريكي يفضل «نهجًا قائمًا على القيم لذوي التفكير المماثل دعمًا فكرة معينة عن النظام الدولي» بدلًا من «مشروع يلتئم فيه شمل الجميع بما في ذلك دول مثل الصين وروسيا».

قد يكون هذا النهج موضع ترحيب في ألمانيا أكثر من تركيز إدارة ترامب على النتائج وتقديمها على العملية، لكنها لا تزال تمثل ضربة للألمان، الذين تزدهر خبرتهم الفنية في الأجواء المتخلخلة للحكم العالمي، ولكنها تتعثر في الصعوبات القاتمة للمنافسة الجيوسياسية. في ميونيخ أشاد المسؤولون الألمان بفخر بمؤتمرهم الأخير حول ليبيا، والذي نجح في الحصول على موافقة مجلس الأمن، لكنهم أقروا بأن جهودهم لم تفعل شيئًا يذكر لإبطاء الصراع الفعلي على الأرض.

ومع إحباط ألمانيا من الولايات المتحدة (واستغراق المملكة المتحدة في «البريكست»)، وجدت فرنسا فرصة للضغط لتحقيق أحلامها الديجولية، وهي في كل منعطف تسعى إلى تمكين الاتحاد الأوروبي مع الحد من نفوذ «الناتو».

أسباب عدم قدرة أوروبا التخلي عن أمريكا

أولًا لا تزال أوروبا منقسمة فيما بينها. حتى أقرب حليفتين مفترضتين –ألمانيا وفرنسا – أظهرتا خلافات حادة خلال المؤتمر. إذ استخدم ماكرون أسلوبًا متوترًا، وأطلق مؤخرًا موجة صاخبة من المبادرات المدمرة، تصطدم جميعها بالنهج الأكثر ثباتًا والأكثر قابلية للتنبؤ الذي تفضله برلين. وفي حين يعلن ماكرون عن مواقف جديدة، بما في ذلك التواصل الإستراتيجي مع روسيا، تشعر برلين بالقلق والدهشة. وهكذا تعد أهم دولتين في أوروبا على خلاف، من غرب البلقان إلى ليبيا.

وتمتد هذه الاختلافات إلى الهيكل السياسي لأوروبا. وبحذلقته المعتادة، توجه ماكرون إلى ميونيخ لإلقاء خطاب، ولكن أيضًا لممارسة تأثيره من خلال الصحافة الألمانية، والالتقاء مع أحزب المعارضة في البلاد؛ كل ذلك في خدمة رؤيته لأوروبا.

أوروبا تسير في طريق الضعف والاضمحلال

ثانيًا استنادًا إلى أي مؤشر قوة فعلي تسير أوروبا في طريقها إلى الضعف. إذ يفتقر اقتصادها غير المرن إلى ثقافة المخاطرة التي تنتج الابتكار، وتتحول تركيبتها الديموجرافية من سيئ إلى أسوأ. والقدرات العسكرية لأوروبا الغربية لا تعدو أن تكون مادة للنكات. وينقل البحث عن خبير أمريكي قال له بعد المؤتمر: «ما الفائدة من عقد مؤتمر أمني في بلد جيشه أصغر من جيش فرنسا؟».

حتى التيار الرئيس الموثوق للقارة في حالة تفتت. فلا أحد يستطيع أن يقول إن أحزاب الوسط من المؤكد فوزها في الانتخابات القادمة، وحتى ماكرون فربما يكافح من أجل الفوز والبقاء في الإليزيه بعد عام 2022. ونتيجة لذلك عندما ينظر الأمريكيون إلى أوروبا، فإنهم يرون قارة متدهورة في حاجة إلى دعم الولايات المتحدة بدلًا عن اتحاد أوروبي على وشك الإقلاع مُحَلقًا.

الولايات المتحدة وأوروبا تتحدثان لغة مختلفة بشأن الصين

ثالثًا يدرك الأمريكيون أن أوروبا تفتقر إلى قوة جذابة. فاليوم لا توجد كتلة أخرى في العالم تميل إلى أوروبا أكثر من أمريكا. بعبارة أخرى: إذا انفصلت أوروبا حقيقة عن الولايات المتحدة، فستجد صعوبة في العثور على أطراف ثالثة تفضلها على الولايات المتحدة. فمن القدس إلى طوكيو، يحافظ جميع الشركاء الطبيعيين لأوروبا على علاقات مع واشنطن أوثق من علاقتهم مع بروكسل.

لكن في الغالب الأعم لا تشترك مراكز القوى الكبرى في العالم مع أوروبا في انجذابها لتجاوز السلطة القومية، ولا في صيغتها الخاصة بالدبلوماسية متعددة الأطراف. ونتيجة لذلك يدرك الأمريكيون أنه من المرجح على نحو أكبر أن تنفصل أوروبا عن الولايات المتحدة على أساس كل قضية على حدة بدلًا عن أن تتبنى موقفًا إستراتيجيًا مستقلًا.

ومع ذلك فإن العالم مليء بالخُطاب الذين يقدمون عروضًا مغرية للتعاون. على وجه الخصوص تشجع أقوى دولتين غير ليبراليتين – وهما الصين وروسيا – أوروبا على الابتعاد عن الولايات المتحدة. وكلتاهما تقدمان بدائل زهيدة الثمن للنظام الدولي الليبرالي في مجال الاتصالات والطاقة. ومن الملاحظ بقوة أن اعتماد ألمانيا الاقتصادي المتزايد على الصين يدفعها بعيدًا عن الولايات المتحدة لتكون أقرب إلى الحياد الفعلي في القضايا الأمنية الرئيسة.

ومن المرجح أن يزداد هذا الاتجاه في السنوات القادمة.

.